بقلم: الدكتور عوني الحمصي
من يراقب ويتابع سياسات الحكومة التركية في المنطقة بوجه عام، وتجاه سورية بوجه خاص، بعد إعلان ما يسمى تسونامي الربيع الوهابي التكفيري، وفي ضوء الدور التركي في “الجهادية التكفيرية”، و “الإخوانية الجديدة”، أو “إعادة العثمانية الجديدة”، يدرك تماماً البعد الجديد لهذه السياسة من خلال عملية التحول الكبير في السياسة الخارجية التركية التي سبق لحزب العدالة والتنمية أن أعلنها، كشعار”إعادة البناء أو العمق الاستراتيجي مع دول الجوار الجغرافي” انطلاقاً من مبدأ التصفير في المشاكل مع الدول المحيطة، لتكون بداية التحول من العمق الاستراتيجي إلى العمق الداعشي، ممارسة وتطبيقا،ً على أرض الواقع في المنطقة، وما نلاحظه من دعم لوجستي للمجموعات الإرهابية خير دليل. إن متابعة السياسات الكارثية التي تقوم بها تركيا منذ اندلاع الأزمة السورية تؤكد حقيقة الدور التركي في المؤامرة الأمريكية- الصهيونية بمشاركة بعض الأنظمة العربية الشريكة في سفك دم الشعب السوري، وتثبت حقيقة نهج القائمين على حزب العدالة والتنمية لنقل تركيا من سياسة العمق الاستراتيجي إلى مرحلة المشاركة بالتخطيط والتنفيذ لما يسمى “الفوضى الخلاقة” الأمريكية لإيجاد شرق أوسطي قائم على الصراعات الداخلية للدول من خلال إثارة الفتن والنعرات والمشاكل الممنهجة على كل مستويات وخطوط الطول والعرض للنسيج المجتمعي والعرقي والطائفي والمناطقي والسياسي لدول المنطقة لخلق حالة من التشرذم والتشظي والتمزق. في هذا السلوك العثماني الطوراني الجديد في المنطقة حالة من التماهي مع تنظيم القاعدة من خلال عمليات الاحتضان للإرهاب الدولي المنظم والممنهج للمجاميع الإرهابية، وعلى وجه الخصوص تنظيم “داعش” وجبهة النصرة والجبهة الإسلامية والجيش الحر، سواء من حيث الاستقطاب أو تدريب الجهاديين التكفيريين، والعمل على تأمين كل مستلزمات التسليح والدعم اللوجستي والتمويل وفتح الحدود أمام المرتزقة القادمين من كل بلاد العالم من أجل القتل والتخريب والتدمير للبنى الاقتصادية التحتية السورية. ناهيك في التصريحات العلنية والاستجداء الفاضح لتدخل “الناتو” العسكري في العراق وسورية، كون تركيا قاعدة كبرى له وللإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. هذا ما أكده الكثير من أصحاب القرار في تركيا، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الحالي أحمد داود أوغلو، الذي عبر عن الرغبة في أن تصبح تركيا “لاعباً عالمياً”، وأن تعمل على بناء “حزام من الاستقرار والازدهار والأمن”، قائلاً : «لن نكون سلبيين وحياديين على الإطلاق، وسيكون لنا موقف دائمًا»، معتبراً أن التغييرات التي وقعت في المنطقة أدت إلى أن تأخذ تركيا مجددًا دوراً واثقًاً وقويًّاً في منطقة سادت عليها في الماضي البعيد، زاعماً «لا نطمح لأن نصبح قوة إمبريالية مرة أخرى، ولكن التاريخ والجغرافيا يطارداننا. ونحن نفهم تلك البلدان بشكل أفضل من الآخرين، ويتفاهمون معنا على نحو أفضل من الآخرين كذلك». وزاد هذا الدور بعد إعطاء الضوء الأخضر لتركيا من قبل الولايات المتحدة، عندما أثنى باراك أوباما على دور اردوغان بصفته واحدًا من خمسة زعماء في العالم يعمل معهم بشكل وثيق للغاية. ومع إطلاق مفهوم التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الذين صنعوا الإرهاب التكفيري في المنطقة، وفي إطار تبادل الأدوار تحاول تركيا طرح موضوع كانت أول من سعت إليه، تحت تسميات غير شرعية وأخلاقية، يقوم على تأسيس ماتسميه “منطقة عازلة” أو “رواق إنساني”، متناسية أن كان من الأولى لمن طرح مثل هذه الصيغ العمل على وقف دعم المجاميع الإرهابية وعدم استقبالهم وتقديم التسهيلات والتسليح والتدريب لهم. يرى أردوغان، وفي إطار التنسيق العالي بين القوى المشاركة في صناعة هذه المجموعات، أن الفرصة مواتية لتحقيق الحلم القديم في إقامة منطقة عازلة شمالي سورية، لم يتم الإفصاح بعد عن طولها أو حتى عمقها، فكان هذا الطرح الغوغائي من جديد استغلالاً للظروف الدولية مع تشكيل التحالف الدولي ضد “داعش”. في البداية كان الرفض التركي واضحاً في عدم الانخراط في هذا الحلف، علماً ان تركيا ثاني قوة في الناتو، لكن تبين أن الأمر تبين ماهو إلا حالة من الابتزاز السياسي، وخاصة بعد سقوط المشروع الاخواني في مصر، ولابد لتركيا من أن تحصل على ثمن مقابل مشاركتها في هذا التحالف، ويبدو إن الثمن لم يكن سوى تحقيق حلمها في إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية على طول الحدود مع تركيا. وما يدعو للاستهجان هو هذا الكم من الانحطاط السياسي واللاخلاقي الذي تمارسه تركيا، فكيف لعاقل أن يقنع بأن من صنع ومول “داعش” لقتل السوريين يريد المحافظ على أرواح السوريين؟!. والسؤال الذي يطح نفسه: لماذا هذا الإصرار التركي.في هذا الوقت بالذات؟! هناك جملة من الحقائق على أرض الواقع تفسر ذلك، منها: - مما لا شك فيه أن السبب الحقيقي وراء إصرار أردوغان على إقامة المنطقة العازلة في سورية، ليس الخشية على السوريين، بل دعم المجموعات المسلحة، التي يمكن لهذه المنطقة أن تكون نقطة انطلاق لهذه المجموعات لتشن هجماتها على الجيش العربي السوري، الذي مازال وسيبقى عصياً على الانكسار، وإذا لم تنجح هذه المنطقة في تحقيق هذا الهدف على الأقل ستساهم في تقطيع أوصال سورية واستنزافها وإضعافها، واقتطاع المزيد من أراضيها وتسهيل سرقة نفطها. - لم يعد خافياً على أحد طبيعة العلاقة التي تجمع بين أجهزة الاستخبارات التركية و”داعش” والمجموعات التكفيرية الأخرى في سورية، فمثلاً على مدى الأعوام الأربعة الماضية لم تتعرض تركيا ولا مصالحها لأي اعتداء من “داعش” أو المجموعات المسلحة الأخرى. - في عملية إطلاق “داعش” سراح 49 تركيا من دبلوماسي وموظفي القنصلية التركية في الموصل الذين كانوا محتجزين لدى”داعش”، وعلى الرغم من الزعم بأن هذه العملية تمت دون مقابل، ثمة ما يثبت عكس ذلك ولضخامة حجمه تم إخفاءه فقد سلمت تركيا مئة وثمانين عضواً في تنظيم القاعدة كانوا معتقلين لديها لتنظيم “داعش” في عملية “مقايضة”، ناهيك عن خمس عربات عسكرية مجهزة تم تسليمها للتنظيم قبل الهجوم على منطقة عين عرب، ما مكنه من الاستيلاء على ما يقرب من 60 قرية في غضون 48 ساعة، وتهجير سكان حوالي 100 قرية في شمال سورية، بحيث وصل عدد النازحين من قراهم إلى ما يقارب من 60000 نازح، ولم يكن لهذه بالعملية – التمثيلية المكشوفة- والتي وصفها اردوغان بالناجحة، لولا لم يكن هناك تنسيق عالي المستوى بين الجانبين. - تعتبر تركيا الرئة الاقتصادية والسوق الاقتصادي لـ”داعش”، ولتغطية جملة السرقات وعمليات النهب النفطية الممنهجة للنفط في سورية والعراق، والذي يتم بيعه بأسعار منخفضة. - كانت تركيا تشكل الحامي الخلفي لظهر “داعش” من خلال فتح أبواب المستشفيات لعناصر المجموعات المسلحة الذين يسقطون جرحى في المعارك مع الجيش السوري. ونعتقد أن تركيا تريد إيجاد منطقة حماية لعناصر “داعش” لحمايتهم من الضربات الجوية الاستعراضية للتحالف الأمريكي، وللتحول فيما بعد إلى منطقة هجمات لاحقاً ضد الشعب السوري. - لا يمكن أن تشكل “داعش” أي خطر لتركيا لكي تدفعها إلى إقامة منطقة عازلة، لان “داعش” تدين بما تملك لتركيا، أما العامل الإنساني الذي تحدث عنه أردوغان، فهو أخر ما تفكر به القيادة التركية، التي كانت ومازالت ترفض كل الحلول السياسية لتسوية الأزمة السورية، وتتشبث بالحل العسكري وبما تسميه “إسقاط النظام السوري!!”، وهو ما يعني إطالة الحرب التي يذهب ضحيتها المواطنون السوريون، الذين تتظاهر تركيا بالحرص عليهم وتذرف عليهم دموع التماسيح، في الوقت الذي تسهل فيه للمجموعات الإرهابية استخدام غاز السارين المحرم دولياً ضد السوريين، وهذا ما أكدته منظمة “هيومن رايتس وتش”. - على الرغم من وجود جملة من الإشكاليات حول إمكانية إقامة ما يسمونه “منطقة عازلة في شمال سورية”، لتشجيع تركيا للانخراط في التحالف الدولي، خاصة صعوبة الحصول على قرار أممي لإقامة لمثل هذه المنطقة. كونها مكلفة من الناحية الاقتصادية والسياسية، ولكونها تنتهك للقانون الدولي، لكن الاهم من ذلك كله رفض سورية، شعباً وجيشاً، لمثل هذا الطرح. مما سبق وما نتخوف منه حقيقة خاصة هناك دلائل ووقائع تشير كلها وتجمع على أن تركيا وقطر تحضران لـ “صحوة” اخوانية تحت غطاء الحرب على تنظيم “داعش” الإرهابي، خاصة بعد إعلان قطر عن ترحيل قيادات الإخوان لديها الى تركيا لتشكيل حشد جديد للمسلحين تحت راية جماعة الإخوان المسلمين، استعدادا لضخهم باتجاه المنطقة التي تريد أنقرة إقامتها. إن تركيا مازالت تعتمد نهجاً يعرقل الحل السياسي ويزيد التعقيدات؛ في محاولة لإحياء المشروع التركي القديم/ الجديد، الذي تجاوزه الزمن، لكن بنية العقل الاردوغاني مازال يعيش هذا الحلم المستحيل، وهذا ما تؤكده كل خطوات العثمانيين الجدد في العدالة والتنمية.تركيا .. من العمق الاستراتيجي إلى العمق الداعشي
2014-10-18