بيروت/تتناغم الأشجار الوارفة في حديقة القصر التراثي الذي تشغله السفارة الروسية في بيروت مع هدوء سيد القصر ألكسندر زاسبيكين. لكن الحديقة الغنّاء في الخارج وديبلوماسية السفير المحنك في الداخل، لا تخفيان الغضب الروسي من أسلوب قيادة الولايات المتحدة والغرب للحرب على الإرهاب، وخصوصاً إعلان السعودية عن استضافة اجتماع عربي ـــ أميركي ـــ تركي حول الإرهاب اليوم وغداً في مدينة جدة.
إنه «اجتماع لأصدقاء أميركا ودول الناتو». هكذا وصف السفير الروسي في بيروت اجتماع جدة. ورغم أن حكومته «ليست ضد هذا التوجه ما دام ضد الإرهاب»، لا يضمن نتائجه «ما دام ناقصاً ومختصراً ولا يشمل كل الأطراف التي تكافح الارهاب». كيف يمكن لزاسبيكين التحمس لائتلاف دولي ضد الإرهاب، في وقت تستثنى فيه بلاده من التشاور والتنسيق، من الساحة اللبنانية إلى ساحات العالم المهددة؟
لم تُدع روسيا للقاء جدة، شأنها شأن حليفتيها إيران وسوريا، في حين يتصرف الغرب على أنه «صاحب الشأن بمفرده وليس شأن المجتمع الدولي ككل». هنا، يذكّر بأن روسيا أول من رأى أن مكافحة الإرهاب «تشكّل أولوية لحل النزاعات في سوريا والعالم»، إذ إن أميركا والغرب «إذا أرادا التصدي للإرهاب جدياً، ينبغي أن يبتعدا عن اعتماد المعايير المزدوجة، وتوحيد الصفوف بدل تشكيل التكتلات». مع ذلك، لا يثق صاحب خبرة الأربعين عاماً في شؤون الشرق الأوسط بنيات أميركا والغرب تجاه روسيا على وجه الخصوص. «الهجوم الاستراتيجي تاريخي بسبب استقلالية السياسة الخارجية الروسية، وهم يريدون إعادة تشكيل النظام العالمي الأحادي». وفي هذا الإطار، انتقد دعوة بعض الدول الغربية، كفرنسا، مسيحيي العراق للسفر إليها. وفي حال «سلّمنا بالنية الصادقة لإنقاذهم»، فإن «مغادرة المنطقة ليست المخرج المناسب، بل تأمين الظروف المريحة لهم».
وإذا كانت سوريا قد عززت الشرخ بين روسيا والغرب، فهل تستطيع أوكرانيا رتقه؟ لا ينفي زاسبيكين الانعكاسات الإيجابية للحل السلمي لأزمة أوكرانيا، ليس على الداخل الروسي فحسب، بل على العلاقات مع الخارج. الحل السلمي المحتمل في أوكرانيا «سيكون له تأثير إيجابي في الأوضاع في الشرق الأوسط ضمناً». لكن الخروقات اليومية «التي تسجل من الجانب الأوكراني للاتفاق الموقّع تمنع تحقيق تقدم ملموس، على غرار الهجوم العنيف المستمر الذي تشنه وسائل الإعلام المحلية ضد روسيا»، يقول زاسبيكين، جازماً بأن هذا يحصل «بتشجيع من أميركا».
لكن الدب الروسي لا يتأثر بمناوشات أميركا والغرب أو بعقوباته. يحتفظ دوماً بالمبادرة، ساعياً إلى خلط الأوراق. من بنات أفكاره، بحسب مصادر مواكبة، موقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحافي الأخير حول مد اليد لأميركا والمجتمع الدولي للتعاون ضد الإرهاب بشرط التنسيق مع الحكومة السورية «استند إلى نصيحة من نظيره وزير الخارجية الروسي لافروف». زاسبيكين الذي نفى امتلاكه تفاصيل حول الأمر، لا يخفي أنه موقف يتلاءم مع المبادئ الروسية وأي نظام مسؤول. «الضابط» المخضرم مقتنع على المستوى الشخصي بصوابية دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد. لكن لدى سؤاله عن إمكانية مشاركة سلاح الجو الروسي في مؤازرته وضرب مواقع لـ«داعش» على الأراضي السورية، ينأى بنفسه عن الإجابة، رابطاً القرار بالرئيس فلاديمير بوتين والبرلمان.
إجازة زاسبيكين السنوية حملت معه إلى بيروت عرضاً روسياً جديداً لدعم الجيش اللبناني. معركة عرسال التي وقعت في غيابه، عززت الاقتناع بضرورة دعم الجيش جدياً بسلاح نوعي. يترفّع زاسبيكين، كحكومة بلاده، عن التعليق على الأداء اللبناني تجاه الهبة التي اقترحتها روسيا عام 2008. مهمته الديبلوماسية تفرض عليه التكتم على الحيثيات التقنية والسياسية للهبة الجديدة للجيش والقوى الأمنية. يشير الى أن زيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق لروسيا في 19 من الشهر الجاري وزيارة مماثلة لوفد عسكري رفيع قد يضم وزير الدفاع سمير مقبل وقائد الجيش جان قهوجي في الأسابيع المقبلة، ستضعان النقاط على الحروف لناحية تحديد المعدات التي سيتسلمها لبنان. نسأله: ماذا تريد روسيا من الهبة وهل هي مطمئنة لمصيرها، ومن يتحمل عجز الجيش بالسلاح في معركة عرسال؟ يقول زاسبيكين إنه تعلم من لافروف أن «عبارات التفاؤل والتشاؤم لا تخدم العمل الديبلوماسي الذي يجب أن يستند إلى معطيات حسيّة فقط». تلك الديبلوماسية منعت زاسبيكين أيضاً من التعليق على جولات زميليه، السفيرين الفرنسي والأميركي في بيروت، على المرجعيات السياسية للتشاور بشأن الاستحقاق الرئاسي. وينقل أن أعضاء مجموعة الدعم الدولية للبنان التي تنعقد دورياً بضيافة منسق الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، يدعمون استعجال إجراء انتخابات رئاسية من دون الانحياز إلى مرشح ما.
لا يشعر زاسبيكين بخطر مستجد يحدق بالسفارة الروسية في بيروت أو بطاقم عملها. فالخطر بات عادة يألفها بعد أربعين عاماً من الخدمة في الشرق الأوسط، حيث عاش مراحل الحروب والإرهاب، حتى بات لا يرى «شيئاً جديداً نوعياً». وتندرج ضمن خانة «الخطر العادي» التهديدات التي وصلت الى السفارة من جهات متطرفة في الأشهر الماضية. تهديدات لم تعد مباشرة، بل تطل من التقارير الأمنية التي تتوافر للسفارة من الساحة اللبنانية، ما يجعل من الحذر واليقظة والإجراءات المشددة عادة غير جديدة أيضاً.
المصدر: صحيفة "الاخبار" اللبنانية