2024-11-24 08:48 م

قراءة صريحة للوضع الفلسطيني بعد الحرب الثالثة على غزة

2014-07-19
بقلم : د. لبيب قمحاوي*  
 
كطائر الفينيق , تنهض القضية الفلسطينية مرة أخرى من رماد النسيان والإهمال لتفرض نفسها على الضمير العالمي وتؤكد أنها قادرة على القفز فوق عوامل القهر والقوة المستبدة التي تسعى إلى محوها ليس من ذاكرة العالم والمسلمين والعرب فقط وانما أيضاً وبالإضافة من ذاكرة الفلسطينيين أنفسهم , بل وتطلب منهم الاعتراف بأن تاريخهم في فلسطين كان كذبة وأن وجودهم فيها كان وجوداً غاصباً عَرَضياً , وأن وطنهم ليس لهم بل لعدوهم . 
مرة أخرى استطاع الفلسطينيون تجاوز جبروت أعدائهم ومتاجرة العرب بهم وبقضيتهم وأخطاء وخيانات قيادتهم ليصنعوا الأحداث ويخاطبوا ضمير العالم بصوت عالٍ فاق في قوته صدى الغارات على غزة , وأبدوا استعداداً متنامياً للتضحية المُعَمّدةِ بأشلاء أطفال فلسطين قبل كبارها.
أهمية هذه الملحمة الجديدة أنها جاءت عكس سياق الأحداث وفي الوقت الذي كادت فيه قيادة السلطة الفلسطينية ومَنْ ورائها وأمريكا وبعض العرب أن تنجح في طمس القضية الفلسطينية وايصالها إلى الحضيض , وبدى الجميع مستسلماً بشكل قدري عجيب لهذا المسار الذي بَشّرَ به ورَعاهُ محمود عباس . فهذه الملحمة مرشحة الآن لأن تكون نقطة البداية لانطلاقة فلسطينية جديدة , ومؤشراً على سقوط نهج إسرائيلي بنى وجوده السياسي على انكار أي حق فلسطيني مهما كان بسيطاً . فالحقبة القادمة مرشحة بالتالي لأن تكون حُبلى بالأحداث وحافلة بالتطورات والتغييرات التي سوف تقلب الموازين المتعارف عليها رأساً على عقب .
 
       لم يعد الغضب أو إعلان الغضب كافياً للتعبير عن ما يعانيه الفلسطينيون إزاء وحشية العدوان الاسرائيلي ووحشية الصمت الرسمي العربي ووحشية الانهيار الأخلاقي لقيادة السلطة الفلسطينية . ما يجري من عدوان غير مسبب على غزة والشعب الفلسطيني لم يأتِ مفاجئة بل هو تجسيد لحالة الانهيار الرسمي الفلسطيني والعربي والاستسلام لما يجري في فلسطين وللقضية الفلسطينية عموماً , والقبول إن لم يكن الانحناء للإرادة الإسرائيلية .  
       النتيجة بسيطة وواضحة وإن كانت مؤلمة . على الفلسطينيين أن لا يتوقعوا شيئاً ذا قيمة من الأنظمة العربية . فتأييد القضية الفلسطينية بحكم ارتباطها القومي أو بعدها الأخلاقي والإنساني والوجداني أو كلاهما لم يعد يُجدي . والقيادة الفلسطينية فشلت في الحفاظ على كرامة القضية الفلسطينية وثوابتها , أو حتى في خلق علاقة مصلحية مع العمق العربي تجعل من دعم الفلسطينيين جزأً من المصلحة الوطنية للدول العربية المعنية . واذا أضفنا إلى كل ذلك النفوذ الأمريكي والصهيوني على الأنظمة العربية المتهتكة والمتهاونة فإن الصورة تتكامل . وهكذا , أَخَذَتْ القضية الفلسطينية تنحدر بصورة جدية ومتواصلة إلى أسفل سلم أولويات الجميع . وابتدأت تطفو إلى السطح القضايا القُطْرية والطائفية والمذهبية والعِرقية والتحالفات الإقليمية المرتكزة إلى مبدأ تضارب مصالح الأنظمة المعنية أو توافقها , مما جعل الأعداء حلفاء والحلفاء أعداء دون أن يبرر ذلك أي سبب موضوعي أو تطور واقعي للأحداث. ويبقى التساؤل الأهم عن ماذا ترك الاسرائيليون وعرب الجوار للفلسطينيين خصوصاً في غزة بعد أن شاركوا في حصارهم وفي تطبيق العقوبات الجماعية عليهم سوى المضي في طريق وعرة مليئة بالمطبات وخيارات أحلاها مر .
        يسير الفلسطينيون حثيثاً نحو القبول بمبدأ التحالف مع الشيطان لو لزم الأمر من أجل تحريك المياه الآسنة المحيطة بقضيتهم .  وهذا  يعني القبول بأي جهة أو مجموعة أو منظمة حتى ولو كانت جهادية , إذا كان مسارها سيؤدي إلى دعم القضية الفلسطينية التي تعاني من إهمال واضح من قبل العرب , بل وتآمر معلن ومخفي مع اسرائيل تحت شعارات تتراوح بين الواقعية والخيانة شَجّعَ عليها خضوع قيادة السلطة الفلسطينية الكامل للإرادة الإسرائيلية مما سمح باستعمال الخيانة الفلسطينية لتبرير الخيانة العربية . وهذا التطور قد يؤدي إلى مزيد من العداء العربي للفلسطينيين واستهدافهم باعتبارهم حلفاء للشيطان المتمثل بهذا التنظيم أو ذاك . هي إذاً حلقة مفرغة جهنمية بالنسبة للفلسطينيين الذين أوقعتهم السياسات العربية والفلسطينية السلطوية في خيار اللاخيار . إما أن لا يفعلوا شيئاً وتموت قضيتهم , أو أن يفعلوا شيئاً ويتم استهدافهم واستهداف قضيتهم .
       يُعتبر مفهوم "الاحتلال الهادئ" أعظم انجازات الاحتلال الإسرائيلي وأكثرها عبقرية . وهذا المفهوم الشيطاني لم يكن ممكناً بدون مساعدة قيادات فلسطينية كان جوعها للسلطة , مهما كانت تافهة, أعظم من رغبتها في التحرير . وقد تمت ترجمة ذلك في اتفاقات أوسلو . وبقيت معادلة أوسلو سائدة بفضل الدعم والمساعدة الاسرائيلية المستمرة لأولئك الحكام الفلسطينيين . وحتى يتم تغيير هذا الوضع البائس يجب العمل بجدية على القضاء على مفهوم " الاحتلال الهادئ" وما تمخض عنه من مؤسسات وشخصيات وعلى رأسها الصنم البيروقراطي الضخم المدعو "السلطة الفلسطينية" . فالاحتلال الهادئ كارثة على الفلسطينيين وكل خطوة فلسطينية في الاتجاه المضاد له هي خطوة في الاتجاه الصحيح . وسياسة الأرض المحروقة قد تكون في نهاية المطاف , هي الرد الوحيد المتبقي في يد الفلسطينيين على مفهوم "الاحتلال الهادئ"  . 
        لم تكتف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بفرض مفهوم "الاحتلال الهادئ" على سكان المناطق المحتلة , بل سعت منذ البداية إلى شطب الهوية الفلسطينية ودق أسافين الفرقة والتشتت بين أبناء الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية سواء بسواء . فالاصرار على الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة هي جزء من استراتيجية إسرائيلية للاستفراد بكل طرف على حدة . والمصالحة التي تمت بين فتح وحماس وما تبعها من تشكيل حكومة وحدة وطنية كانت ضرورة وحلاً مناسباً لمشاكل كلا الطرفين . فالإعلان عن المصالحة كان أهم من المصالحة نفسها. والأمر بدى في حينه وما زال حلاً مناسباً لمشاكل كِلا الطرفين أكثر منه خطوة حقيقية نحو مصالحة حقيقية  . وما دام الأمر كذلك وهو فعلاً كذلك, فلماذا تُقيم اسرائيل وامريكا الدنيا ولا تقعدها على تلك المصالحة الشكلية ؟ الموضوع واضح وهو غرس القناعة في ذهن الفلسطينيين أن نتائج أي مصالحة فلسطينية , حتى ولو كانت شكلية , ستكون كارثية عليهم وأن الفلسطينيين ليسوا شعباً واحداً وأن فلسطين بالنسبة للفلسطينيين يجب أن تكون عبارة عن جيوب هنا وهناك وليس وطناً مترابطاً متواصلاً . سياسة تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني واعطاءه مسميات مختلفة مثل العرب الدروز , بدو بير السبع , بدو النقب , عرب 1948 , أهل الضفة , سكان قطاع غزة .....الخ ابتدأت مع تأسيس الكيان الاسرائيلي .  ومن الملاحظ أن كلمة فلسطين غائبة عن أي من المسميات أعلاه  . وتسمية جنوب فلسطين ووسط فلسطين بقطاع غزة والضفة الغربية هي في السياق نفسه . الموضوع إذاً ليس أمراً عشوائياً بل هي سياسة اسرائيلية مدروسة ومخطط لها . والخطر الذي تشعر به اسرائيل من المصالحة الوطنية وحكومة الوحدة الوطنية بين فتح وحماس مهزلة يجب أن نعي أبعادها الحقيقية في كونها تجاوز خطير على سياسة  تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية وتقسيم الشعب الفلسطيني تحت مسميات مختلفة والمعمول بها اسرائيلياً منذ عام 1948 .
       العلاقة بين الاسرائيليين والفلسطينيين تحكمها عوامل مختلفة ولكن تبقى الحقيقة الأهم أن  الطرف الاسرائيلي هو الأقوى عسكرياً والأكثر تأثيراً بالتالي على مجريات الأمور حتى وإن كانت أموره تدار من قبل حكومة هي عبارة عن إئتلاف أحزاب أقلية من اليمين وأقصى اليمين شَكَلّت في مجموعها أغلبية حاكمة . وهي بذلك حكومة تخضع لضغوط متبادلة من داخلها . فالأقلية في مثل هذه الحكومات تصنع الحكم وتبقيه أو تُسقطه والمزايدات بين الأقليات المؤتلفة تكون على حساب الفلسطينيين وعلى مدى الأذى الذي يمكن الحاقه بهم . وبالرغم من ذلك , فإن علاقة السلطة الفلسطينية بالحكومة الاسرائيلية هي علاقة التابع في القضايا الأساسية خصوصاً الأمن وعلاقة الند ظاهرياً في القضايا ذات البعد النظري الذي لا يعني شيئاً ولن يؤدي إلى شئ مثل مفاوضات السلام .
        وعلى أية حال فإن الوضع القائم في اسرائيل الآن يشير إلى أن حظوظ أقصى اليمين الاسرائيلي في الانتخابات القادمة تبدو أكبر من حظوظ اليمين والسبب يعود بشكل أساسي إلى سياسة محمود عباس وسلطته في تقديم التنازلات المجانية نيابة عن الشعب الفلسطيني  . وقد عززت هذه التنازلات المجانية من شعبية أحزاب أقصى اليمين الاسرائيلي لدى الناخب الاسرائيلي , وأثبتت  صحة موقفها في وجوب الامتناع عن تقديم أي تنازل للفلسطينيين على الاطلاق ما دام الفلسطينيون يقدمون من خلال السلطة الفلسطينية التنازل تلو التنازل مجاناً وبدون أي مقابل .
       إذا , فإن ما يجري في غزة الآن هو حرب سياسية تلبية للضغوط الداخلية الواقعة على نتنياهو من أقصى اليمين المؤتلف معه من جهة , وعدوان إجرامي إرهابي يأتي في سياق الفكر الصهيوني العنصري الاحتلالي من جهة أخرى . ولكن ما بين هذا وذاك توجد دائماً مجموعة من العوامل والظروف التي تشجع حكومة الاحتلال الاسرائيلي على اللجوء إلى أسلوب القتل والتدمير والاعتقال كحل أمثل لأي مشكلة تواجها مع الفلسطينيين .
       الواقع الفلسطيني والواقع العربي والواقع الإقليمي أصبحوا جميعاً روافداً للخيارات الاسرائيلية الاحلالية  والعدوانية . والمواقف المهادنة بل والاستسلامية للسلطة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية أصبحت مُحَفزة لاسرائيل على المضي في خططها دون أي إعتبار لحقوق الآخرين , مستفيدة من صمت عربي مطبق يصم الآذان على تلك الخطط والنتائج المتمخضة عنها .  
        بعض الأنظمة العربية والرأسمالية المحلية المرتبطة بها تقف خلف نمو التيار العربي الجديد المؤيد للصهيونية والذي أخذ يتسلل بصمت داخل شرايين السياسة العربية بأشكال وطرق مختلفة وإن كانت النتيجة واحدة في كل الحالات . فإسرائيل تحصل الآن مجاناً على ما لم تحلم بالحصول عليه بالحرب وهو دعم بعض الأنظمة العربية وبعض العرب لإسرائيل ضد العرب الفلسطينيين . وفي السياق نفسه , تعمل  السلطة الفلسطينية تحت شعار "التنسيق الأمني" كوكالة تجسس لاسرائيل بين أوساط الفلسطينيين. ومحمود عباس متشبث بهذا الدور باعتباره بادرة حسن نية فلسطينية تجاه اسرائيل وكمحفز لمسيرة السلام التي لا وجود لها على أرض الواقع إلا في خيال محمود عباس وأحلامه .
      التحديات التي سيجابهها الفلسطينيون في الحقبة المقبلة ستكون شديدة وخَطِرَة . فأعداء القضية الفلسطينية في ازدياد . وحالة العداء للفلسطينيين قد امتدت من العدو الحقيقي لتشمل أيضاً الأخوة وأبناء العم . وأصبح ظهر الفلسطينيين , بالتالي, مكشوفاً أمام كل المخاطر . ما نحن بصدده يتطلب من الفلسطينيين البدء بالنفس من خلال التخلص من السلطة الفلسطينية وما تمثله من تبعية للاحتلال الاسرائيلي  ورفض ومقاومة مفاهيم احتلالية أخرى مثل "الاحتلال الهادئ" وتقطيع أوصال الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية . المطلوب الآن الانطلاق الفلسطيني نحو مفهوم "المقاومة النشطة" وهي تشمل كافة أوجه الحياة ويستعمل فيها الشعب كل إمكاناته لرفض الاحتلال ومقاومته .
lkamhawi@cessco.com.jo 
*مفكر ومحلل سياسي
عن جريدة "الرأي اليوم" اللندنية

الملفات