2024-11-30 02:33 م

«داعش» تنعش آمال 14 آذار: يا بغدادي انصرنا

2014-06-21
غسان سعود

ترفع داعش معنويات قوى 14 آذار وآمالها بتعديل موازين القوى السعودية ـ الإيرانية قليلاً، بما يضمن قبول الإيرانيين بجلوس السعوديين إلى الطاولة الإقليمية لتقاسم النفوذ مجدداً. ولا يهمهم خلفية داعش الفكرية أو طموحاتها المستقبلية؛ المهم أن إسهام عرابهم في تصفيتها يمكن أن يعيدهم إلى السلطة.
يقف الصخب عند باب المصعد في الطابق السابع من المبنى المطل على قصر العدل، يغرق في الداخل السفير سيمون كرم في قراءاته؛ تسليه أخبار السياسيين، لكن لا ينذر لها نفسه كما يفعل آخرون. العنوان الرئيسيّ هنا اليوم هو «داعش». ونحن على تخوم تحولات دراماتيكية، تبدو الاستحقاقات اللبنانية صغيرة جداً مقارنة بها.

هو يوافق توماس فريدمان القول (في نيويورك تايمز) إن «تفكك العراق وسوريا يغير المعادلة التي حكمت الشرق الأوسط قرناً كاملاً». لا يحصل ذلك لمصلحة إسرائيل بالضرورة، فها هو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر يتوقع قبل مدة أن لا تكون إسرائيل موجودة إذا استمر نمو المجموعات الراديكالية على ما هو عليه منذ عامين. ولا أحد يملك، بحسب كرم، تصوراً لما ستكون عليه الأوضاع الإقليمية قبل بضعة أيام فقط.
أسوأ ما في اللعبة الحالية أن بعض أنصار النظام السوري يصدقون أن «داعش» صنيعة النظام السوري وحلفائه، كما يصدق بعض أنصار السعودية أن «داعش» صنيعة السعوديين والأميركيين. أما البعض الآخر فيفترض أن داعش تأتمر بأوامر خصمه ويمكن الخصم أن يتحكم بجدول أعمالها. واقعياً، تثبت كل المعطيات منذ أحرق بو عزيزي نفسه أن مختلف الأفرقاء من الأميركيين إلى السوريين، مروراً بالسعوديين، دائماً يلحقون الأرض (القاعدة) ويحاولون تعديل مساراتها بما يتلاءم مع مصالحهم.

قبل سطوة العثمانية ثم الانتداب الأوروبي فالديكتاتوريات، كان المشهد الشاميّ كما يصوره المؤرخ كمال الصليبي في كتابه «بلاد الشام في العصور الإسلامية الأولى» مطابقاً للمشهد السوري الحالي في مناطق نفوذ الإسلاميين: كل يوم أمير جديد وتنظيم، غدر وتقاتل وصراعات ريفيّة ـــ مدنيّة وقبليّة ـــ عشائرية وعائلية ومذهبية وإثنية وشخصية. قمعت الحملات الصليبية الفوضى نحو خمسين عاماً، حتى ظهر نور الدين زنكي الذي عبّد طريق الانتصارات أمام صلاح الدين الأيوبي. ويحلو لبعض «هواة» الإسقاطات التاريخية مقارنة أمير داعش، أبي بكر البغدادي، بزنكي. رقعة داعش الجغرافية الحالية هي رقعة زنكي ولها أهمية مفصلية في التاريخ الإسلامي: تدرج زنكي من مقاتل في جيش الخليفة العباسي إلى والٍ على الموصل. حاصر حلب ليشرع في التمدد نحو دمشق وفلسطين، انطلاقاً من حلب والموصل. وأهم إنجازاته فتح الرها أو ما يعرف اليوم بسهل نينوى (في العراق)، واعتبرت هزيمة قائدها جوسلين أول انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين. تماماً كما اعتبر سقوط الموصل (ومعها ما كان يعرف بالرها) أول انتصار لداعش في مدينة حيوية، لا مجرد قرى ريفية أو مساحات صحراوية.

تزامن بروز داعش مع ظهور مجموعات أخرى منبثقة من القاعدة في كل من اليمن والجزيرة العربية ومالي والجزائر وسيناء؛ لا تفصل التقارير الغربية الصحافية واحدة عن الأخرى: هم جيل القاعدة الجديد. اكتفى البغدادي بالرسائل الصوتية، متكلاً في تنظيمه على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة مثل تويتر ويوتيوب لتجنيد الداعشيين وقيادتهم، مركزاً على استقطاب جيل جديد من المقاتلين من شمال أفريقيا وأوروبا والشيشان. في مكتبه المكتبة، يقف رئيس الرابطة السريانية حبيب افرام فوق خريطة العراق، مشيراً إلى أهمية الموصل الجغرافية والسياسية بين «كانتونات» العراق، وبالنسبة إلى سوريا أيضاً. كان ميزان القوى الإقليمية وما زال يميل بفارق كبير لمصلحة إيران، يقول افرام. كانت حسابات الإيرانيين، أن السعودية أخطر أدوات الولايات المتحدة في المنطقة، فيما علاقتهم بالمجموعات التكفيرية لا تتسم بالعداء المطلق، رغم الخلاف العراقيّ الدموي الكبير. وكان الجيل الإيراني الجديد من المقاتلين الدبلوماسيين الديناميكيين يتسلى بالفشل السعودي من اليمن إلى بيروت، مروراً بالعراق وقطر وسلطنة عمان والكويت وسوريا طبعاً. فجأة خرج مقاتل آخر ليحاول قطع طريق النفوذ الإيراني في مكان ما. وهو نجح في زعزعة استقرار النفوذ الإيراني. يتساءل افرام: لماذا يتقدم تنظيم موغل في راديكاليته الكانتون السنيّ؟ كيف يصمد الجيش السوري ثلاث سنوات، رغم التعبئة المذهبية والشح المالي وأكثريته السنية والعروضات السخية للمنشقين، ويتشتت الجيش العراقي رغم رفاهيته المالية وأكثريته الشيعية؟


تعيش الأكثرية المستقبلية نشوة تسمح لنائب مثل خالد ضاهر بأن يعود إلى الأضواء

حتى موعد قريب، كان داعش في الصحافة السعودية قناعاً تنكرياً للاستخبارات الإيرانية تستخدمه لشق الصف الإسلاميّ في الشام وتشويه صورة الثورة السورية. وكانت الصحافة الغربية «تقمع رغبتها المهنية في الكتابة عن مآثر هذا التنظيم وفنونه. فجأة انتقلت «المصادر» نفسها، السعودية خصوصاً، إلى تبرير الثورة الداعشية، مكررة الرواية المضحكة نفسها عن كون داعش مجرد فصيل صغير يتقدم الصفوف الأمامية لجيش الثائرين على الظلم في بلاد الشام، تحاول إيران والنظام السوري تضخيم نفوذه وتأثيره. وها هو دايفد إيغناتيوس يكتب في واشنطن بوست عن وجوب جمع اللاعبين الأساسيين حول طاولة واحدة لبناء هيكل أمني جديد من أجل ضمان استقرار المنطقة، مشيراً إلى أن أبرز لاعبين هما السعودية وإيران. يدعم إيغناتيوس فكرته بقول وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر أن على العالم التصالح مع الثورة الإيرانية، كما تصالحت أوروبا والعالم بعد طول عناد مع الثورة الفرنسية. لكنها ليست وجهة النظر الأميركية الوحيدة. فسفير الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة جون بولتون قال قبل أيام لفوكس نيوز إن على الولايات المتحدة الاكتفاء بالتفرج من بعيد على القتال الحالي، آملة إلحاقَه أكبر ضرر ممكن بالمتنازعين، كما حصل سابقاً في الحرب العراقية ـــ الإيرانية. وفي السياق يذكر فريدمان أن إيران حالت دون توقيع المالكي اتفاقية جديدة تمدد للوجود الأميركي العسكري في العراق لضمان الاستقرار، شامتاً بإخراج الإيرانيين الأميركيين من مستنقع الشام ليرموا أنفسهم به.

فعلت داعش ما لم يفعله أي تنظيم قاعديّ من قبل بسيطرتها على الموصل ومحوها بعض الحدود بين سوريا والعراق ونجاحها بجذب مئات الأوروبيين والأميركيين إلى الجهاد. انتقل النظام السوري من مرحلة عدو عدوي صديقي، إلى مرحلة التصدي لهذا التنظيم. الاستنفار الإيرانيّ غير مسبوق. لم يسبق أن أعلنت المرجعيات الشيعية الجهاد بهذه السرعة، وما يرد من أرقام عن أعداد المتطوعين يوحي برعب حقيقيّ. واضح أن الفريق الحاكم في السعودية مستعد لفعل المستحيل – سراً وعلانية – من أجل تحسين أوراقه التفاوضية وسحب الإيراني إلى طاولة التفاوض الإقليمي قبل تحرير إيران إقتصادياً وسياسياً بالكامل. وواضح أيضاً أن الإيراني يفضل المواجهة على الاستسلام للفخ السعوديّ. أما أميركياً، فلا قرار حاسم بشأن داعش. كانت الإدارة الأميركية أقرب إلى وجهة نظر بولتون السابق ذكرها في تصرفها مع «داعش» منذ عامين، منها إلى المنظرين المتحمسين لضرب التكفيريين.

لا تزال الأمور في بداياتها، يقول سيمون كرم. وفي مكتب قريب من مكتبه، يشير أحد الدبلوماسيين الأوروبيين إلى أن ليبيا تعيش حرباً عشائرية مفتوحة، العراق وسوريا في حرب طائفية محمومة، لبنان واليمن على حافة الانفجار، فيما مصر والسعودية وتركيا في حالة إعلان طوارئ غير معلنة.
يتكرر في الصحافة الأجنبية وصف لبنان كدولة على حافة الانفجار في الأيام القليلة الماضية. انتقل وزير الداخلية نهاد المشنوق خلال أقل من 24 ساعة من الحديث عن فورة اقتصادية أكبر من قدرة اللبنانيين على التحمل إلى التحذير برعب من «الخطر الداهم». وزراء المستقبل يزايدون في انتقاد داعش، والتأكيد أنهم ضد المس بالاستقرار اللبناني. إلا أن المستهزئين قبل بضعة أيام بحديث البعض عن خلل أمني يرفع أسهم قائد الجيش العماد جان قهوجي مجدداً، يلتزمون الصمت اليوم. ومن يتابع وسائل إعلام المستقبل وتصريحات نوابه يلاحظ أنهم بدؤوا حملة كبيرة ضد حزب الله بحجة تدخله في سوريا هذه المرة. وتشير مختلف التقارير الأمنية الواردة من الشمال إلى أن من انكفؤوا منذ ثلاثة أشهر عاودوا إلى التحرك منذ أكثر من ثلاثة أيام.

إقليمياً هناك من يعول كثيراً على داعش، لا بل يعلق على داعش كل آماله بتحسين شروطه التفاوضية واستعادة نفوذه الغابر. ومحلياً، ما كادت داعش تتقدم، حتى استعاد الفريق السعوديّ آماله بتحسين أوضاعه. مع العلم أن الخشية المستقبلية من داعش تقتصر على قلة قليلة تحترم بينها وبين نفسها التعددية اللبنانية وتحرص عليها، أما الأكثرية المستقبلية فتعيش اليوم نشوة تسمح لنائب مثل خالد ضاهر بأن يجري أكثر من ثلاث مقابلات في اليوم الواحد بعدما كان يختبئ طوال الشهرين الماضيين.

تقف المنطقة على مشارف تحول سياسي كبير، سواء كرست السعودية عبر الولايات المتحدة وطاولة المفاوضات الواقع التقسيمي ـــ التهجيري الذي تفرضه داعش أو إذا كسرت إيران الدينامو السعودي وأعادت الأوضاع في العراق وسوريا إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات مع تحجيم استثنائي للنفوذ السعودي. يرى كرم أننا في بداية معركة طويلة، فيما يقول افرام إن المواقف الدولية توحي بأن تفاهماً إيرانياً – غربياً سيسمح لطهران بالانتهاء سريعاً من هذه الفزاعة. في الحالتين، ستتأثر الساحة اللبنانية وسيكون لمستقبل داعش تداعياته المباشرة محلياً.
المصدر: صحيفة "الأخبار" اللبنانية