محمد بلوط*
لا تشويق، ولا حيرة غداة اليوم الانتخابي الرئاسي السوري.
والأرجح أن أكثر من اقترعوا كانوا يعرفون مسبقاً أن الرئيس بشار الأسد لن يغادر قصر الشعب، ليسلم المنصب، لأحد «خصميه»: حسان النوري أو ماهر الحجار، خصوصا إذا كانت تلك إرادة من قُيّضَ له من السوريين أن يصل إلى مركز للاقتراع في الداخل أو الخارج.
لكن الحصاد الانتخابي السوري، يبدو جديرا بمقاربة مختلفة عن زجل التوصيفات الدعائية الرائجة بهزلية الاستحقاق. فما عرض على السوريين قبل الوصول إلى يوم أمس الانتخابي، هو مقاطعة مشروعة في بعض مبرراتها لدى أجنحة المعارضة الداخلية السورية، لكن ما خُيّرَ بينه السوريون في النهاية هو إما «جبهة النصرة»، و«الجبهة الإسلامية»، وفيالق «الجهاد» من جهة، وإما الاقتراع كفعل يحصّن الموقع السوري، وهو انتصار سياسي لدمشق، لمجرد عبور الآلاف من السوريين، في العام الرابع للحرب، نحو مراكز الاقتراع، فوق دوي حرب إقليمية ودولية تدار من واشنطن وباريس والرياض والدوحة واسطنبول وعمان، ضد سوريا.
والبداهة تقضي بالقول إنه لم يكن ممكنا تنظيم الاستحقاق الانتخابي من دون استعادة الجيش السوري على مدى عامين تقريبا المبادرة العسكرية على الأرض، بعد عام كامل من الانكفاء نحو مراكز المدن، لا سيما دمشق، لإعادة تنظيم صفوفه وأسلحته وحلفائه، وصقل إستراتيجية لمواجهة «الجهاديين» ومجموعة «أصدقاء سوريا».
وبدا استخلاص مراكز المدن السورية الكبرى شرطاً رئيسياً للوصول إلى الثالث من حزيران، ولملمة أشلاء الجسم الانتخابي السوري، قبل امتحانه للمرة الأولى منذ نصف قرن رئاسياً. فتوطدت حلب، في جزئها الغربي الذي نزح إليه أكثر سكان الجزء الشرقي الذي تسيطر عليه المعارضة، حيث أعاد مليونا حلبي تكوين نسيج عاصمة الاقتصاد السوري وعصبياتها، واستعادتها من «المهاجرين والأنصار» والاستخبارات التركية، وميليشيات الأرياف، وفشل «الائتلافيين» وغيرهم في إقامة هامش سياسي، أو إدارة مقبولة، تتيح مخاطبة السوريين من خارج «الهيئات الشرعية»، وأمراء الحرب الشيشان .
ومع توزيع صناديق الاقتراع، تزامن استكمال استعادة حمص وأحيائها القديمة (وهي اكبر المحافظات السورية وقلب المنطقة الوسطى التي لا تقترع سوريا من دونها ولا تحكم)، فيما كان الساحل السوري، يستقبل مليوني نازح من ادلب وحلب وريف دمشق. وتبدو درعا بعيدة عن أي تهديد جدي يهدد سيطرة الجيش على سهولها وممراتها نحو ريف دمشق التي يحرسها الفيلق الأول المدرّع السوري. واسهم تفكيك الطوق في الغوطتين حول دمشق بحماية قلب النظام وقاعدته، بينما ضمنت العمليات العسكرية، والقتال الشرس، والقصف العنيف في الشمال، إفراغ مناطق المعارضة من كل بيئة حاضنة وتشتيتها. وحسمت معركة القلمون السيطرة على سوريا الأساسية من درعا جنوبا حتى حلب شمالا.
في انتظار خطاب القسم
ولكن الانتخابات، برغم مدلولاتها ورسائلها القوية خارجيا وداخليا، ليست حلا قائما بحد ذاته.
ينبغي انتظار السابع عشر من تموز المقبل، وافتتاح الولاية الرئاسية الجديدة، والاستماع إلى خطاب القسم، لمعرفة ما إذا كان الثالث من حزيران يشكل منعطفا نحو استدعاء عناصر حل داخلي يطلق ديناميكية سياسية تحرر السوريين من الوصايات الدولية، وهو طموح كبير في ظل الظروف الحاضرة.
ويجري الحديث عن احتمال الذهاب نحو حكومة موسعة تضع صيغة «جنيف» موضع التنفيذ، من دون الاضطرار للعودة إلى الأمم المتحدة. وتنطوي الصيغة المتداولة على توزيع ثلاث عشرات وزارية بالتساوي بين معارضين ومستقلين وموالين. وينبغي أن تتبلور في الأيام المقبلة أفكار بعض المعارضين، الذين ذهبوا إلى القاهرة مطلع أيار الماضي للقاء وزير الخارجية المصري نبيل فهمي، والطلب الى مصر ان تتبنى الدعوة إلى مبادرة مشروطة للحوار مع النظام، يرشح البعض معارضين كمعاذ الخطيب وهيثم مناع للتقدم بها، إذا ما نضجت الشروط.
وتشترط المعارضة أن يتخلى الرئيس عن صلاحياته في تعيين كل الوزراء، فضلا عن اشتراط الانتقال إلى إعلان دستوري، يكرّس تقليص هذه الصلاحيات، لا سيما إسقاط ما يمنحه حق عزل الوزراء، كمدخل للمشاركة في حكومة وحدة وطنية.
وقد يجنح النظام السوري إلى اعتبار نتائج الانتخابات، ومجرد نجاحه بإجرائها، تفويضا بنعي «جنيف» بصيغته المطروحة لإخراج الرئيس بشار الأسد من السلطة، وتسليمها إلى «الائتلاف الوطني»، والبحث عن تسوية ترتكز إلى ميزان القوى السياسي والعسكري، والتعايش مع حقيقة أن الأسد باق في السلطة في دمشق سبعة أعوام مقبلة، بقوة الشرعية الانتخابية، واستبعاد أي حل في جنيف أو غيرها، يتضمن إخراجه من قصر الشعب، الذي أعاده إليه الثالث من حزيران.
الرد الدولي السريع
الرد الدولي الاول على نتائج الانتخابات، من خارج سياق المواقف التقليدية، سيأتي هذه المرة من الجمعية العامة للامم المتحدة. وقالت مصادر ديبلوماسية واسعة الاطلاع لـ«السفير» إن مشاورات واسعة جرت بين دول غربية، ابرزها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وبين دول عربية ابرزها السعودية وقطر ودول اسلامية ابرزها تركيا، افضت الى اتخاذ قرار بتجاوز اللجوء الى مجلس الامن الدولي مخافة «الفيتو» الروسي ـ الصيني الموضوع على الطاولة.
وأضافت المصادر انه تم اعداد مسودة مشروع سيعرض خلال الساعات المقبلة على الجمعية العامة للامم المتحدة ويحظى بغالبية الاصوات، ويقضي بوقف مشاركة وفد الجمهورية السورية (برئاسة بشار الجعفري) في اجتماعات الامم المتحدة، من دون اللجوء الى خيار تعليق عضوية سوريا.
دلالات... لبنانية وعربية
وإقليميا، أعادت مظاهر الاحتشاد أمام السفارات في بيروت وعمان، ترميم الدور السوري، لا سيما في لبنان. وبدت الانتخابات في لبنان أكثر أهمية مما جرى في سوريا، بل يمكن القول إن حدث الانتخابات السورية الأبرز هو أن كتلة جماهيرية سورية، بصرف النظر عن محاولات التقليل من أعدادها، كشفت خطأ حسابات كتلة «14 آذار» تحديدا، واقترعت للأسد، من خارج كل الانتماءات الطائفية والاصطفافات المفترضة لها والمزعومة، وبشكل صادم.
وشكّل الانتخاب مناسبة لاستعادة التعاون بين الأجهزة اللبنانية، بكل قوتها، مع المرجعيات السورية، لحماية الاستحقاق، بشكل يستبق عودة سوريا الى دور ما في لبنان والى معادلة القرار السياسي الداخلي، وإرساء التوازن في مفاصله في مواجهة التدخل الخليجي. وليس مبالغة القول إن السوريين اقترعوا في بيروت لاستعادة دورهم في الوطن الصغير، وقول كلمتهم في الاستحقاقات اللبنانية، لا سيما الرئاسية، أسوة بكل القوى الخارجية، التي تسدي النصح إلى اللبنانيين في كل شأن، وتعلن أنها لا تتدخل في الشأن الداخلي اللبناني.
عربياً، قد يتوجب تصنيف البلدان التي ساهمت في تسهيل اقتراع السوريين لديها، في خانة العائدين إلى دمشق عاجلا أم آجلا، كما يرى مسؤولون سوريون. ويبدي الكويتيون مرونة واضحة، في استقبالهم الحدث السوري، ويرسلون رسائل قوية إلى دمشق، تتعدى الخرق العماني في مجلس التعاون الخليجي. وينسب إلى أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح مخاطبته مرشد الثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي، في زيارته قبل يومين، «انه ليس مرشد إيران فحسب، بل المنطقة بأسرها».
مصر... والسعودية
لكن الرهان الأكبر هو على المنتظر مصرياً، بعد انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسا. فليس سراً أن الاتصالات الأمنية بين سوريا ومصر توسعت في الآونة الأخيرة، خصوصا مع الكشف عن وجود قواعد لتدريب «جهاديين» مصريين في الشمال السوري.
ويقول مسؤول سوري إن المصريين يتوسعون في التقارب الديبلوماسي والسياسي، لكن الاختبار الفعلي للتحول المصري سيجري خلال الأسابيع المقبلة، وأنه لا ينبغي أن يكتفي الرئيس المصري المنتخب بشعارات ناصرية، وأن عليه أن يقوم بتطبيقها، بعودة مصر إلى حماية الحوض الشامي التاريخي، وترميم عمق أمنها الإقليمي في سوريا، وأن تحديات تواجه السيسي، إزاء خياراته السورية، وحاجته للدعم السعودي والإماراتي لمساعدة الاقتصاد المصري. وكان المصريون قد بدأوا بإرسال إشارات عن تغيير في مواقفهم من سوريا، من خلال الاقتصار على الحضور في اجتماعات «أصدقاء سوريا» بممثلين على مستوى منخفض للاطلاع على ما يجري فيها، وغياب وزير خارجيتهم عنها.
وليس مصادفة أن يتقاطع اليوم الانتخابي الرئاسي مع طلب وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بناء على طلب الملك عبدالله لتسليمه رسالة ملكية حول سوريا. وهي كلها تطورات تواكب انخفاض سقف التوقعات في حدوث أي تعديل في ميزان القوى في سوريا، وابتعاد احتمال أن يتحقق ذلك، بعد أن أصبحت أولوية «الأصدقاء» في أوروبا، الذين يمولون ويخططون للحرب، إنقاذ عواصمهم من كارثة هجوم إرهابي أو 11 أيلول أوروبي، يقوم به العائدون من ساحات «الجهاد» السوري إلى بلدانهم.
وينبغي أن تنظر المعارضة الخارجية بقلق كبير إلى محاولات الأجهزة الأمنية الأوروبية التعامل بواقعية صادمة مع وقائع صمود النظام، رغم كل التوقعات بسقوطه السريع، وعودة الكثير من مسؤوليها إلى طلب العون الدمشقي، والتنسيق معها في مواجهة الإرهاب.
* المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية