د. يحيى محمد ركاج
تشتق كلمة المواطنة من وطن، أي المكان الذي نعيش فيه وننتمي إليه، وهي كمفهوم حديث يستند إلى أساس فلسفي قديم ارتبط بمفهوم دولة المدينة التي تكونت في اليونان القديمة قبل الميلاد بقرون عدة باعتبارها الوحدة الأساسية في التكوين الأساسي للمجتمعات الحديثة، وقد تطور المفهوم الحديث للمواطنة مع تشكل الدولة القومية التي تحتكر لنفسها السيادة المطلقة داخل حدودها، ومع نشوء فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للسلب أو الاعتداء عليها من قبل الدولة.. كالحقوق المدنية المتعلقة بالمساواة مع الآخرين، والحقوق السياسية المرتبطة بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، والحقوق الجماعية المرتبطة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأمر الذي جعل الدولة القومية تعرف باسم دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى الإرادة الشعبية، وجعل من المواطنة بأبسط صيغها عبارة عن انتماء الإنسان إلى الدولة التي ولد بها، وخضوعه للقوانين الصادرة عنها، وتمتعه بشكل متساو مع بقية المواطنين بحقوقه والتزاماته تجاهها، من خلال العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الدولة والفرد، بما فيها من حق الحرية والحقوق السياسية في الانتخاب والقيادة وغيرها من الحقوق الأخرى.
فعلى الرغم من تعدد وتنوع المفاهيم التي تشير إلى معنى المواطنة والحقب الزمنية التي بزغت بها هذه المفاهيم، إلا أن المفهوم المجرد للمواطنة والمندمج بتفاعلات التاريخ والجغرافيا يتحقق بتكامل الأبعاد الثلاثة التي يقوم عليها هذا المفهوم، والمتمثلة بالبعد الثقافي والحضاري، والبعد الاقتصادي والاجتماعي، والبعد القانوني، والتي تتجسد بهم بنود السيادة والقانون والمؤسسات الديمقراطية.
وقد أكدت المواثيق والقوانين الدولية على المساواة بين البشر وعدم جواز التمييز فيما بينهم بسبب العرق أو اللون أو الجنس، أو اللغة أو الدين أو غيرها من معايير التمايز والاختلاف بين البشر. وكذلك منظمة الأمم المتحدة مفهوم المواطنة وفقاً للمادتين الثالثة عشرة والخامسة عشرة من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.
إننا نرى أن مفهوم المواطنة يعني العمل على بناء الأوطان بناءً حضارياً متكاملاً من النواحي الثقافية والتنظيمية والقانونية، يندمج فيه الأفراد في بوتقة التساوي والتكامل في الحقوق والواجبات كل بما امتلكه من قدرات نتيجة أنشطة تفاعلية في هذا المجتمع، وبما يستطيع أن يقدمه لوطنه ومجتمعه، الأمر الذي فضح التطبيق الصحيح لهذا المفهوم، أو الفهم الصحيح له، خاصة مع ما شهدته البلاد العربية من أحداث تحت مسمى الربيع، دون التطرق إلى المنظومة الخليجية التي يعوزها كامل المفهوم حتى نستطيع مناقشته.
ففي مصر العروبة، لم يستطع الشعب في حراكه الأول الذي أسفر عن الإطاحة بنظام حسني مبارك -بغض النظر عن المسميات- عن التعبير عن فهمه العميق لمفهوم المواطنة، الأمر الذي أسفر عن تفرد جماعة أحادية التوجه بالسيطرة على مقاليد الحكم، مارست من خلاله دور التهميش والإقصاء- بغض النظر أيضاً عن التعمد أو السهو والجهل- للعديد من القوى والتيارات الأخرى، ولم تستطع تحقيق مفهوم السيادة في حدوده الدنيا بالحفاظ على الثوابت القومية والوطنية لمصر العروبة، بالانقلاب على اتفاقية الاستسلام كامب ديفيد وطرد السفير الصهيوني وإغلاق سفارته.
وفي ليبيا، أسفر الفهم الخاطئ لمفهوم المواطنة والانتماء إلى تدمير الوطن الحاضن للقوى والتيارات الشبابية وغير الشبابية على اعتبار تهميش التيارات السياسية التي ادعت -بعد تدمير ليبيا- عن وجودها السابق، وما تلا عنها من أحداث قتل وتدمير واغتصاب واختطاف، وتشكيل مليشيات والنيل من هيبة الدولة والقانون، ولعل الاختراق الأكثر خطورة للفهم الصحيح لمفهومي المواطنة والانتماء، هو بانتهاك مفهوم السيادة ودعم القوات الأجنبية من أجل تدمير الوطن تحت شعارات زائفة، رافقها اختراق للعقل البشري والمورد الأكثر أهمية في إعادة بناء ما تهدم في ليبيا.
وفي سورية، فقد أثبتت الأحداث عن وجود صراع ثقافي في فهم المضمون الحقيقي للمواطنة، تجلى بانحراف فئات من الشعب السوري عن التطبيق العملي لهذا المفهوم، من خلال سلوكاً تدميرياً للدولة ومكوناتها تحت ستار التغيير، وفئة أخرى تماشياً مع هجمات الميديا التي سلبت عقول الشباب والبسطاء ممن يشعرون أنهم بحاجة إلى التغيير دون إدراكهم لواجباتهم نحو هذا التغيير. في حين سلكت باقي الفئات التي تشكل الأكثرية سلوكاً آخر نحو الفهم الحقيقي لمفهوم المواطنة، تباينت معه المراحل التنفيذية في التطبيق العملي لها طيلة السنوات الثلاث التي مضت من الأزمة، فتباينت الأفعال بين فئة أحادية التوجه نحو الحقوق وأخرى نحو الواجبات، وأخرى جمعت بعضاً من بعض، رافقها صياغة دستور جديد للجمهورية العربية السورية يحقق أعلى درجات المواطنة والانتماء، أسوة بما كان بالدستور القديم، من خلال التأكيد على مضامين الحرية والمساواة والتشاركية والديمقراطية المستندة على مبدأ السيادة الشعبية.
وفي نطاق جغرافي ليس ببعيد عن الساحة العربية نشاهد تركيا وما قامت به من اختراق للمفاهيم الثقافية والحضارية من خلال تدمير المكونات البشرية في سورية من خلال تحريضها على خروج فئة من الشعب السوري ممن تربطها بهم صلات غير وثيقة تخضع لمعايير المصالح أحادية الجانب على مفهوم المواطنة والانتماء في سورية، الأمر الذي عبر عن نقيضه سكان لواء اسكندرون السليب من سورية -وفقاً لاتفاقيات المصالح السابقة بين المستعمر الفرنسي والاستبداد العثماني- إذ أعلنوا انتماءهم إلى وطنهم الأم سورية في مواجهة الإرهاب البربري المدعوم من أردوغان العثماني ضدها، وحافظوا في الوقت نفسه على مكونات بلدهم وموطن إقامتهم، من خلال المشاركة الفاعلة في ممارسة الحقوق والواجبات تجاه أبنائهم بالعمل على تخفيض نسبة سيطرة حزب أردوغان على البلديات في الانتخابات التي شهدتها تركيا.
إن نسيجاً غير متناغم بالعادات والتقاليد والأعراف والديانات والمذاهب لا يمكن أن يحقق لوحة فسيفسائية جميلة ما لم يدرك القائمون على تكوينها أن المواطنة تقوم على الطاعة والتشارك والمساواة في الحقوق والالتزامات، الأمر الذي يتطلب العناية بجوانب التنمية البشرية.