عمان/تشكو العشرات من أسر "المقاتلين" في سورية ألم غياب المعيل، والسقوط في مستنقع الفقر والعوز، كما يخلف "مصيرهم المجهول" عثرات ومعيقات قانونية وإدارية "لم تكن في الحسبان" وتمس مصالح عائلاتهم وذويهم.
وفي قرى ومحافظات وسطية وجنوبية، تروى أمهات قصصا وذكريات، ممزوجة بالألم والحسرة على أبنائها الشباب الذين ذهبوا بإرادتهم الى "عالم مجهول"، من غير علمهن أو وداعهن بقبلة فراق، قد يكون أبديا، وزوجاتهن اللواتي يتسلحن بالصبر في مواجهة الظروف الجديدة التي أبرزها تيتم أطفالهن.
ولم تشك والدة عبدالله (23 عاما) أنه سيغادر قريته لـ"الجهاد" في سورية، بعد أن كان يعبّر عن غضبه من الأحداث الدامية هناك.
أعادت والدة عبدالله شريط الذكريات مع ابنها لحظة سماعها خبر وفاته، ما بين مصدقة للخبر ومكذبة له، لاعتقادها أنه كان يعمل في إحدى الدول الخليجية، لكن بعد أن شاهدت صوره ملطخة بالدماء، احتسبته "شهيدا عند الله".
مات الأمل في قلبها من لقاء جديد يجمعها بفلذة كبدها، فلم يترك عبدالله لوالدته سوى حزن يعتصر قلبها كلما نظرت إلى طفلته.
أم عبدالله، من أسرة ضمن عدة أسر، تسكن في محافظات "وسطية وجنوبية" يكثر فيها تجنيد الشباب للقتال في سورية، وهي أسر تجهد حاليا في توفير "راتب شهري أو معونة طارئة"، من صندوق المعونة الوطنية، تكفل لها حياة عفيفة، غير أنها "لم تلق أي مساعدة مادية أو معنوية من أي تيار أو حزب إسلامي مقابل مشاركة ابنها في القتال".
جماعة التيار السلفي تحرص على أن لا يذهب أحد من أعضائها لـ"الجهاد" في سورية، إلا إذا كان قد هيأ زوجته أو أهله وعائلته للخروج من مختلف النواحي، بحسب القيادي في التيار السلفي محمد الشلبي الملقب بأبو سياف.
وفي ظل عدم توفر إحصائية رسمية حول عدد الشباب "الأردنيين" الذين قتلوا في سورية، قدر أبو سياف أعدادهم بحوالي 160 شابا من مختلف مناطق المملكة، أغلبهم من سكان مدينة الزرقاء ومحافظة البلقاء.
فشلت محاولة والدة عبدالله كغيرها من أسر توفي أولادها خارج المملكة، في استخراج شهادة وفاة له من دائرة الأحوال المدنية، واصطدمت بقوانين أردنية "صارمة" تحرمهم من ذلك، لحين تأمين وثائق رسمية من السفارة الأردنية أو مستشفى يؤكد وفاته.
وحول ذلك، أوضح الناطق الإعلامي في دائرة الأحوال المدنية مالك الخصاونة أنه "يتوجب على ذوي المتوفى خارج المملكة إحضار شهادة وفاة من جهة رسمية مصدقة حسب الأصول، سواء من مستشفى أو من سفارة الدولة ليصار إلى تثبيتها في عمان"، قائلا لـ"الغد" إن "التشديد على هذه الحالات بسبب تبعات لها علاقة بالإرث والنسب وحفاظاً على حقوق الأفراد".
وتحدد "الأحوال" سنتين كمدة قانونية من أجل إصدار شهادة الوفاة لمن يتوفى خارج المملكة، وسنة واحده لمن يتوفاه الله على أرض المملكة، حسب ما أضاف الخصاونة.
ويعتمد صندوق المعونة الوطنية كذلك على الأوراق الرسمية الصادرة من الأحوال المدنية في حالة الوفاة من أجل السير في المعاملات الرسمية التي تخول الصندوق منح المعونة لتلك الأسر، شريطة أن تحمل رقما وطنيا، وفق الناطق الإعلامي للصندوق ناجح صوالحة.
وشدد صوالحة في حديثه لـ"الغد " أن "الصندوق لا يتدخل في الخلفيات التي تؤدي إلى حالة الوفاة أو العوز الذي تعانيه الأسرة، بل تتعامل مع وثائق رسمية ودراسة حالة اجتماعية ميدانية، حتى وإن كانت الأسر العفيفة بحاجة إلى معونة طارئة".
بيد أن المحامي والمستشار في القضايا القانونية والمختص بالقانون الخاص طارق السعايدة وجد منفذاً قانونياً للعائلات التي تعاني ظروفاً مماثلا، قائلا لـ"الغد" "بغض النظر عن سبب الوفاة أو الفقد، فالأسر التي لم تستطع الحصول على شهادة وفاة لابنها يمكنها التوجه إلى المحاكم الشرعية والتقدم بدعوى "إثبات وفاة" يمكن من خلالها استخراج شهادة وفاة من المحكمة بحكم قضائي بشروط معينة، بحجة أن الظروف "السياسية والقتالية" في سورية تجعل من الصعوبة بمكان إحضار وثيقة من المستشفى أو السفارة بأن "الشخص المعني متوفى".
ومن أبرز تلك الشروط، حسب السعايدة، وجود بينة يتقدم بها أهل المتوفى مثل شهادة مجموعة من الشهود ولا يقل العدد عن اثنين، وإقرارهم بأن الشخص كان في المنطقة المعنية خارج الأردن، ثم حدثت حالة الوفاة، بالإضافة إلى قرائن أخرى "صور للمتوفى، فيديو يثبت ذلك"، وعليه يتمكن أهل المتوفى من الحصول على شهادة وفاة من دائرة الأحوال المدنية وتسيير معاملات حصر الإرث أو زواج "الأرملة بعد ذلك"، بناءً على حكم المحكمة.
وفي بيتٍ آخر من بيوت الأردن، ما يزال الحزن يخيم على منزل الشاب خالد (23 عاما) منذ التحاقه مع زملاء له للقتال في سورية. إذ لم يترك الموت لخالد (اسم مستعار) فرصة إكمال "نصف دينه"، إلا أن الجرح الذي خلفه في قلب والدته وإخوانه يحتاج الى أعوام لنسيانه، لكن سلواهم سيرته الحسنة وأخلاقه الحميدة التي ما زالت مدار حديث الكثيرين من أقرانه على الرغم من مرور شهور عديدة على فراقه. حسب قول شقيقه لـ"الغد".
ومن منظور علم الاجتماع الأسري، يؤكد أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة وكلية العقبة الجامعية الدكتور حسين محادين فإن النمو النفسي والاجتماعي لدى أفراد الأسرة يكون غير متوازن، ومرد ذلك النقص العاطفي والاقتصادي جراء غياب المعيلين فيها، وذلك يجعلهم يشعرون بنوع من الانكسار النفسي، ومن الممكن أن يتبنوا مواقف سلبية تجاه المجتمع ومؤسساته والنظام العام.
ما تزال العمة أم أحمد تبحث عن أسباب وفاة ابن أخيها الأعزب (36 عاما)، ففي الوقت الذي تسلمت فيه مقطع "فيديو" يصور وفاته في سورية، أكد زملاؤه أن "جلطة قلبية" أصابته فجأة، بينما أكد آخرون لها أنه "استشهد" في إحدى الجولات القتالية.
وتقول أم أحمد لـ"الغد" "لن تبرد النار في قلبي" حتى أعرف إلى الكيفية التي توفي فيها، داعية الشباب التروي قبل اتخاذ أي قرار نحو "الجهاد" .
أستاذ العقيدة في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية الدكتور أحمد العوايشة يرى أن "الأولوية لدى أرباب الأسر الذين توجهوا إلى القتال في سورية الاجتهاد في تربية أبنائهم وإعالة أسرهم قبل أن يفكروا في المواضيع التي اختلطت فيها الآراء ما بين حلٍّ وتحريم، وأن من قرر المشاركة في القتال في سورية عليه أن لا يترك أسرته وأطفاله ووالديه دون معيل ويكونوا عالة على الآخرين".
وطالب أن يكون التعامل مع أسر الشباب "بشكل حيادي لا يرتكز على توجه حزبي أو سياسي"، وإنما يكون تفقدهم ومعاونتهم بناءً على كونهم أفرادا محرومين في المجتمع، لافتا إلى ضرورة تفعيل دور الجمعيات الخيرية والجهات المساعدة لتقديم العون والدعم المادي لهم، ليكونوا قادرين على متابعة حياتهم بشكل سوي بغياب المعيل".
المصدر: "الغد" الأردنية