اختارت الأمم المتحدة، بارادة الأميركيين، توقيت توجيه الدعوة إلى طهران لحضور «جنيف 2»، بالتزامن مع دخول التفاهم النووي بين إيران و«5+1» حيز التنفيذ اعتبارا من يوم أمس. هذا «التفاهم الانتقالي»، بتفاصيله ومراحله كافة، سيشكل بشهوره التنفيذية الستة مرحلة اختبار لنوايا كلا الطرفين.
حسبها الأميركيون جيدا. لكن السعوديين فقدوا صوابهم عندما سمعوا بدعوة إيران. أوعزوا الى الائتلاف السوري المعارض أن يعلن مقاطعته للمؤتمر. غضب الأميركيون منهم غير أنهم طلبوا من بان كي مون سحب الدعوة الموجهة الى الإيرانيين.
يأتي ذلك في خضم مشهد خليجي متغير ومتعثر بدءا بالامارات المتفرقة مثل قطر والامارات والبحرين والمملكة الكبيرة المنفعلة بانخراطها في نهج الحرب على الارهاب... مرورا بالعراق وبدفع أميركي فوق العادة (عملي وسياسي)، وصولا الى تركيا العثمانية التي انتقلت بسرعة البرق من مربع اللاعب الاقليمي الكبير الى مربع الغارق في أزمات داخلية متداخلة مع حسابات اقليمية ودولية.
أما جون كيري، فله، وبرغم كل جولاته وجهوده المكوكية، أن يتقبل أن حتى «الاتفاقية الاطار» بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية ليست بمتناول يده في ظل مزايدات المتطرفين في تل ابيب وشهيتهم المفتوحة على شطب كل شيء اسمه قضية فلسطين، دولة وعاصمة وأمنا وحق عودة... وحياة.
في لبنان، فجأة يهبط الوحي على الجميع، وما كان مستحيلا بالأمس أصبح بمتناول اليد اليوم. يحق لوليد جنبلاط ووائل أبو فاعور أن يتسلحا بلبنانية «الطبخة»، لكن ذلك لا يمنع من محاولة البحث عن مصدر «الوصفة» السحرية، وكأننا نعود ثماني سنوات الى الوراء... الى زمن «الاتفاق الرباعي» الشهير، برغم نفي الرئيس سعد الحريري والآخرين له.
انها «الوصفة الايرانية». لا يكتفي «البازار» الايراني، بصنع السجادة ولا تسويقها. يضيف اليها من الشرق الأوسط حرفة، فلش السجاد. ثمة سجادة حمراء، لا يجيد فك قطبها الا صاحبها... فجأة قرر أن يمدها أمام حكومة تمام سلام. سقطت معادلات وحلت محلها معادلات جديدة.
هو المستجد الأميركي ـ الايراني. يمكن افتراض سيناريو من اثنين: اما أن الامام الخامنئي قرر أن يقتدي بسلفه الامام الخميني بـ«تجرع سم» الاتفاق النووي مع الغرب وروسيا، بعدما لامست أوضاع بلاده الاقتصادية والمالية والاجتماعية «الخط الأحمر»، واما هي حنكة فارسية، بأن يصل حسن روحاني الى السلطة، في خطوة بدت بين «مقدمات» لخطوات أخرى نشهد بعض فصولها اليوم.
المهم أن النتيجة واحدة. تحررت ايران من الحصار، وأثبتت صحة ما أقدم عليه الخميني. كيف؟
في صيف العام 1987، رفض الخميني وقف اطلاق النار مع نظام صدام حسين، وقال انه مستعد للقتال ولو لعشرين سنة. كان من الصعب على «قائد الثورة» أن يقنع نفسه قبل اقناع عائلات أكثر من ثلاثة ملايين شهيد وجريح ومعوق، بوقف القتال، بينما كانت بعض أراضي بلده لا تزال محتلة. في السنة الثامنة من المعارك، ارتفعت فاتورة الدم، فقرر الخميني «تجرع سم» وقف النار.
ماذا كانت النتيجة؟
بعد ربع قرن، صار لايران نفوذها وأذرعتها من أفغانستان وبحر قزوين وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ذات الغالبية الاسلامية الى البحر الأبيض المتوسط مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وبعض دول الخليج. بدا كأن لـ«شرب السم» أصوله، «فالسم بقدر معين وبنوع مميز وتوقيت مناسب يكون محسوبا جيدا... كفيل بأن يحيي لا أن يميت» يقول أحد عارفي الايرانيين جيدا!
جرى نقاش مشترك بين الخامنئي وروحاني ومحمد جواد ظريف. حسمه «المرشد» باصراره على حصر المفاوضات مع الأميركيين وحلفائهم بالملف النووي. جرّب الأميركيون كل الوسائل والقنوات مع الايرانيين لتطوير المفاوضات وتوسيعها، قبل التفاهم النووي وبعده من دون طائل. كانوا يريدون مناقشة ملفات أفغانستان والخليج والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين. طلب الايرانيون حصر الموضوعات. هم يدركون الأثر الايجابي العام على كل ملفات المنطقة، لكن من دون تجاوز من «يعنيهم الأمر من أهل الاقليم». أدرك الأميركيون الرسالة، وقبلوا بما تمسكت به طهران: رسم دقيق لمردود التسوية النهائية على الطرفين. لا للصياغات الضبابية في الملف النووي وغيره من الملفات. لا تجاوز للحليف الروسي. لا تنازل عما يعتبره الايرانيون «حقوقهم المشروعة».
[[[
في مطلع العام الجديد، يجتمع العالم كله في باريس تحشيدا لـ«جنيف 2». وحده، وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، يحل ضيفا على بيروت، على مدى 36 ساعة. هي الجولة الأولى له في منطقة المشرق العربي. لبنان محطتها الأولى. الشكل، هو الرسالة الأولى. 54 يوما تفصل بين انفجار السفارة الإيرانية في بئر حسن وبين الزيارة. هو الرد الثاني. كان الإيرانيون، قد ردوا، في المرة الأولى، بعد ساعات قليلة من الانفجار، بأن أرسلوا حسين أمير عبد اللهيان الديبلوماسي العريق في المطبخ الإيراني والملم جيدا بملف لبنان والمنطقة العربية.
لم تشهد بيروت منذ الطائف حتى الآن، استنفارا أمنيا، يرافق وزير خارجية يحل ضيفا على لبنان كالذي واكب ظريف. أكثر من خمسين سيارة مصفحة ومئات المرافقين الأمنيين. ذهب الموكب الوهمي للوزير الايراني من المطار إلى فندق «الفينيسيا»، ليتبين أن السيد حسن نصرالله، كان في انتظار موكب آخر في الضاحية، وكانت جلسة تخللتها مأدبة عشاء استمرت حتى ساعة متأخرة من فجر اليوم التالي.
قد يحلو للمحللين أن يصولوا ويجولوا في أبعاد هذا اللقاء بين «الإصلاحي» و«السيد»، وأية رسائل إيرانية نقلت إلى «حزب الله».
لعل أظرف جملة لمحمد جواد ظريف في كل لقاءاته اللبنانية هي تشجيعه لبنان لا بل «تعويله» على حضور الحكومة اللبنانية مؤتمر «جنيف 2»!
الإيراني، ومن قبل أن يوجه اليه بان كي مون، دعوة رسمية الى «جنيف 2»، سرعان ما سحبها بعد ساعات قليلة، قرر التعامل مع المؤتمر الدولي لحل الأزمة السورية بدهاء. اختار ظريف لحظة إقليمية و«سورية» مفصلية، لكي يجول على كل دول الجوار السوري. تركيا أولا في مطلع كانون الحالي. لبنان، العراق، الأردن، سوريا... والمضمون واحد لقادة هذه الدول: اذهبوا إلى جنيف.
ماذا أراد الإيراني من وراء ذلك؟
لو اجتمع العالم كله في «جنيف 2»، ولم تشارك إيران، فان العملية السياسية في سوريا ستبقى مبتورة. صحيح أن الروسي يتكامل في مكان ما مع الإيراني، لكن الحضور على طاولة المفاوضات قد يكون مفيدا للآخرين أكثر مما هو مفيد لإيران، ولذلك لن تستجدي طهران دعوة ولن تشارك، على الهامش، كما أراد لها البعض، عبر ملازمة أحد الفنادق القريبة بصفتها «صفا ثانيا». من حق الأميركيين عدم إغضاب السعوديين. لكن عدم توجيه الدعوة قد يكون مفيدا. لماذا؟
لإيران إن لم تشارك في «جنيف 2» أن تتحرر من عبء مقرراته، فالمشاركة الرسمية بـ«الندية» التي نادى بها الإيرانيون في المؤتمر، تقودهم للالتزام بالمقررات، سواء أكانت مناسبة للإيرانيين أم العكس، طبعا من دون إلزامهم مسبقا بنتائج «جنيف 1»، أما لو تسنى لطهران ألا تشارك، فإن ذلك يضعها أمام أحد احتمالين: إذا جاءت النتائج كما تشتهي، تلتزم بها أكثر من المشاركين أنفسهم، وإذا جاءت متعارضة ومصالحها، تتحرر منها سريعا... لأنها لم تشارك أصلا في صوغها، يقول المطلعون على موقف ايران.
التقط الأميركيون الاشارة. كان مشهد الثلاثي سيرغي لافروف ووليد المعلم ومحمد جواد ظريف خير دليل على «تماسك» المحور الثلاثي.
غضب السعوديون من دعوة ايران، فقرر «الائتلاف» عدم المشاركة في «جنيف 2». هذا القرار سيكون مكلفا لأصحابه. قالت الناطقة بلسان الخارجية الأميركية قبل ايام إنها لا «تجرؤ على تصور ماذا سيحدث اذا لم تشارك المعارضة السورية في جنيف 2». هو أشبه ما يكون بتهديد مبطن، يكمل هذا التصريح ما قاله الســـــــفير روبرت فورد في اسطنبول، من تهديدات واهانات لبعض الشخصيات السورية المنضوية في «الائتلاف» المعارض.
هو قرار سعودي بالدرجة الأولى وموجه ضد ايران. لماذا؟ لأن المهادنة في بعض الساحات، خاصة في لبنان والعراق لا تسري حتى الآن على «جبهة سوريا». اذن نحن أمام محاولة لفصل الجبهات التي لم تكن مترابطة بقدر ما هو واقع الحال اليوم من ايران الى أقصى المغرب العربي.
[[[
هل يمكن القول إن مشروع الحكومة الجامعة في لبنان قد طار؟
لن تعطل تطورات الساعات الأخيرة، في الملف السوري، قرار تشكيل حكومة جديدة في لبنان. لا يمكن الحديث عن «تسوية» تخص لبنان، طالما أن الأبواب ما زالت غير مشرعة بين طهران والرياض، لكن ثمة مقاربة ايرانية للملف السعودي يجب التوقف عندها، ولا تخرج عن حدود السجادة الايرانية نفسها، طمعا بأن تغري السعودي، بالسير عليها ومصافحة صاحبها وفتح الأبواب له... ولو أن الأخير حساباته مختلفة.
لا يلبي الرئيس المنتخب حسن روحاني، بعد تبوئه سدة الرئاسة، دعوة ملكية لأداء العمرة. «القائد» في طهران يملك وحده حصرية التعامل مع ملف العلاقة الايرانية السعودية. حصلت تجربة غير مشجعة قبيل بدء الأزمة السورية. تأزم الموقف بين البلدين في عهد محمود أحمدي نجاد. طلب رئيس مصلحة تشخيص النظام آية الله هاشمي رفـسنجاني الاذن من «القائد» لزيارة الرياض. استقبله الملك عبدالله استقبالا مميزا يكاد يشبه استقبال الرؤساء. خاض الرجلان في الملفات الاقليمية والثنائية. انتهى البحث عند نقطة رفض عبدالله أن يتزحزح عنها: نتحاور مع الشيطان... لكن ليس مع أحمدي نجاد.
اطلع الخامنئي من رفسنجاني على نتائج زيارته السعودية، وطلب منه قطع أي اتصال: محمود أحمدي نجاد هو رئيس الدولة ولا يمكن لأي دولة في العالم أن تتعامل مع أحد غيره.
منذ تلك اللحظة، انقطع التواصل حتى بحده الأدنى، لكن مع وصول روحاني، تمنى رفسنجاني على الخامنئي اعادة فتح قنوات الحوار، فطلب الأخير منه التريث «لأن الملف صار في عهدتي».
محمد جواد ظريف يمد يده إلى السعودية صبحا وظهرا ومساء. يطلب أول موعد خارجي من الملك عبدالله بن عبد العزيز. يأتي الجواب بأن وزير خارجية السعودية سعود الفيصل سيستقبلك «لان الملك مشغول». فهم ظريف الرسالة. سياسة قرع الأبواب من قبل ايران تقابل بالإهمال... لا بل بمحاولة عزل ايران. هذا هو جوهر محاولة إقصــــاء طهران عن مؤتمر «جنيف 2».
لم يتصرف الايراني بانفعال. أبواب المنطقة كلها مفتوحة أمامه من المحيط إلى الخليج. «لا أحد يستطيع عزلنا. الأصح ان من يحاول عزلنا، إنما يعزل نفسه بنفسه». الدليل الى ذلك واقعة غير معلنة:
يروي ديبلوماسي عربي مقيم في واشنطن انه قبيل سفر حسن روحاني الى نيويورك في أيلول الماضي للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، طرحت الرياض على شقيقاتها الخليجيات المنضويات في مجلس التعاون فكرة تشكيل وفد خليجي برئاسة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح لزيارة واشنطن وابلاغها انزعاج مجلس التعاون من المسار المفاجئ لتطور العلاقات الأميركية الايرانية، من دون الأخذ في الحسبان ما يمكن ان يشكله من خطر على منظومة دول الخليج. كانت صدمة السعوديين كبيرة بسبب رفض أمير الكويت الاقتراح السعودي «جملة وتفصيلا»، رافضا بالتالي أن ينضم الى «حفلة الجنون» السائدة في المنطقة حاليا.
بعد الرفض الكويتي، طرح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل على نظرائه في مجلس التعاون الخليجي تشكيل وفد برئاسته يتوجه الى واشنطن ومعه رسالة واضحة الى الادارة الأميركية: المضي في الاتفاق النووي مع ايران يساوي الإضرار بالمصالح الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة.
الصدمة الأكبر للسعوديين جاءت من دول مجلس التعاون الخليجي جميعها باستثناء البحرين. الكل رفض الاقتراح، وعندها أدركت الرياض أن أحدا من شقيقاتها الخليجيات لن يكون جزءا من أية معركة في واشنطن ضد الاتفاق الايراني الأميركي.
لم يقف الأمر عند هذا الحد: قررت الادارة السعودية ارسال موفد يزور تل ابيب لمحاولة استخدام النفوذ الاسرائيلي في الولايات المتحدة وروسيا وباقي مجموعة «5 + واحد» لمنع توقيع التفاهم النووي مع ايران. وعد الاسرائيليون الموفد السعودي ببذل كل ما يستطيعون لأجل عرقلة التفاهم. ارسلوا موفدين الى واشنطن وعواصم أوروبية... لم يتمكنوا من تغيير المكتوب. كان قرار المرشد الأعلى لـ«الثورة» حاسما بعدم التنازل ازاء الطلبات المتزايدة من الطرف الآخر من جهة، وبعدم السماح لاسرائيل (الكيان الغاصب وغير الشرعي) باجهاض مسار التفاهم النووي الذي لا يستهدف أحدا من جيراننا من جهة ثانية.
تعامل الروس مع «التفاهم النووي»، كما تعاملوا مع نزع السلاح الكيميائي السوري. طلب بنيامين نتنياهو لقاء فلاديمير بوتين. لم يأت الزائر الاسرائيلي الى موسكو في العشرين من تشرين الثاني المنصرم على ذكر حرف واحد عن الزيارة السعودية الى تل ابيب، وكيف طلبت الرياض من المسؤولين الاسرائيليين ممارسة ضغطهم على الأميركيين لمنع توقيع الاتفاق النووي. تحدث نتنياهو أمام بوتين مطولا عن المخاطر التي يمكن أن تتهدد الدول الخليجية وخاصة السعودية. قاطعه بوتين وسأله عن العلاقات الاسرائيلية ـ السعودية وسر هذا الحرص الاسرائيلي على أمن السعودية ودول الخليج. انتظر بوتين من نتنياهو أن يعطيه جوابا حول حقيقة زيارة الموفد السعودي، لكن رئيس الوزراء الاسرائيلي لم يأت على ذكر الموضوع أبدا.
عن "السفير" السعودية