2024-11-24 04:12 م

تركيا 2013: عام الهزائم المتشابكة

2014-01-03
محمد نور الدين
تطوي تركيا عاماً حافلاً بالأحداث داخلياً وخارجياً، أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه عام الانكسارات والتحولات.
تتقدم الاحتجاجات التي حصلت في ساحة تقسيم في اسطنبول وحديقة جيزي المجاورة لها قائمة الأحداث المفصلية في العام 2013. ولولا فضيحة الفساد التي انفجرت في الأيام الأخيرة من العام لكان عام 2013 هو عام انتفاضة تقسيم - جيزي. وقد انطلقت شرارة الأحداث بسبب بدء الحكومة قطع بعض الأشجار في الحديقة التاريخية تمهيداً لقطع معظمها لتجديد بناء ثكنة عثمانية ومركز تجاري عليها. ومن ضمن الخطة هدم مركز أتاتورك الثقافي وبناء جامع إلى جانب نصب أتاتورك في قلب ساحة تقسيم.
الاحتجاجات بدأت بيئية، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى اعتراضات في كل المدن التركية على سياسات الاستئثار التي بات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان يمتهن ممارستها، ولا سيما التدخل في الحياة الشخصية للمواطن والتضييق على الحريات. وفيما دعا الرئيس التركي عبدالله غول إلى تفهم مطالب المتظاهرين، رفض أردوغان أي نوع من التنازل وواجه حركة الاحتجاجات بالاستهزاء، ووصف القائمين عليها، من مثقفين وفنانين، بالرعاع واللصوص، واستخدم القوة المفرطة التي انتهت إلى مقتل ستة أشخاص. 
وأدت الانتفاضة، التي رفعت شعار «كل مكان تقسيم، كل مكان مقاومة»، إلى اهتزاز صورة أردوغان وهيبته للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002، والذي اتهم القوى الخارجية بالوقوف وراء حركة الاحتجاجات.
ولقد كانت خسارة رئيس الحكومة الكبرى في علاقاته مع أوروبا والولايات المتحدة، التي ساءت من حينها ولا تزال، خصوصا مع تصوير أردوغان على أنه سلطان عثماني وليس ديموقراطياً كما ورد على غلاف مجلة «الايكونوميست». وقد رأى غول أن ما بنته تركيا خلال عشر سنوات هدمته الاحتجاجات خلال عشرة أيام، ويحتاج إلى سنوات طويلة من الجهد لاستعادة الهيبة والثقة. انتهت حركة الاحتجاجات مع تجميد العمل بمشروع تغيير معالم الحديقة والساحة على أمل إلغائه نهائيا.
ومع اقتراب نهاية العام، وفي 17 كانون الأول، انفجرت الحادثة الثانية الكبرى والأخطر من الأولى، وتمثلت باعتقال القضاء، عبر الشرطة، ولا سيما في اسطنبول، أبناء ثلاثة وزراء ومدير مصرف «خلق» (الشعب) الرسمي ورجل الأعمال علي آغا اوغلو وآخرين، فضلا عن إدراج اسم وزير رابع، وذلك بتهم التورط بفضيحة فساد ورشى وقبض عمولات قدرتها بعض الأوساط بمئة مليار يورو.
ولقد فاجأت الفضيحة أردوغان وحكومته و«حزب العدالة والتنمية» حيث اتهم جماعة فتح الله غولين، المقيم في الولايات المتحدة، بالوقوف وراءها لتشويه سمعته تمهيداً لإسقاطه، ما دفعه إلى المبادرة إلى إقالة جميع قادة شرطة اسطنبول وأنقرة وتعيين آخرين مكانهم، ومنهم قائد شرطة اسطنبول نفسها. كما عملت الحكومة على تعديل أصول المحاكمات ووضعت محققين إضافيين إلى جانب مدعي عام الجمهورية في اسطنبول وأنقرة، وهي خطوة استهدفت كل الموالين لغولين.
ولقد اتهمت الجماعة أردوغان بمحاولة خنق وجودها عبر إغلاق المدارس المسائية التي يرعاها غولين، تمهيدا لاستئصال الجماعة من الدولة. لكن أردوغان اعتبر في تصريحات متتالية ويومية منذ بدء العملية وحتى اليوم أن ما جرى كان محاولة انقلابية على سلطته، أداتها الشرطة والقضاء لحساب مؤامرة خارجية، لمّح ضمنا إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تقف وراءها، واصفاً أدواتها المحليين بالعملاء والخونة، ومعتبراً أنه بدأ الآن حرب استقلال جديدة من أجل تركيا الجديدة.
وقد اتبع رئيس الحكومة مع فضيحة الفساد التكتيك نفسه الذي اتبعه مع انتفاضة تقسيم - جيزي، وهو رفض التهم واتباع الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع. لكن أردوغان اضطر بعد أسبوع إلى تغيير ثلث حكومته، من بينهم الوزراء المشتبه بهم، وتعيين عشرة وزراء جدد. 
ولعل الخسارة الأكبر لأردوغان من جراء فضيحة الفساد أنها طالت حكومته وحزبه وهو شخصياً، مع الاشتباه بابنه نجم الدين بلال، في النقطة الأكثر قوة عنده وهي نظافة الكف، ما حوّلها إلى النقطة الأكثر ضعفاً، أي إلى كعب أخيل. ولا شك بأن فضيحة الفساد قد حاصرت أردوغان في مسألة الشفافية، خصوصا أن ما ظهر منها كان قمة جبل الجليد. وقد انتقد الغرب رئيس الحكومة لتدخله في عمل القضاء وإعاقته التحقيقات. ولا شك بأن صورة أردوغان قد أصيبت بمقتل، وتعززت النظرة إلى أنه بات يعمل على تمكين حكم أحادي بدلا من تعزيز الديموقراطية. وقد جاءت فضيحة الفساد عشية ثلاثة انتخابات، بلدية في آذار العام 2014 ورئاسية في آب من العام نفسه، ونيابية في العام 2015. ولا يعرف بعد كيف يمكن أن يتأثر الوجود السياسي لأردوغان بعد انفجار الفضيحة، خصوصا بعد استقالات من حزبه لنواب حاليين ووزراء سابقين.
وشكل العام 2013 فشلا لسياسة أردوغان على أكثر من صعيد، أولها الفشل في إعداد دستور حديث وجديد يطوي دستور العسكر لعام 1982 الذي تعرض لتعديلات كثيرة. وكان إعداد دستور جديد أبرز وعود أردوغان في الحملة الانتخابية في العام 2011.
ورغم الخطوات المتبادلة بين الحكومة و«حزب العمال الكردستاني»، لم تستطع «عملية الحل» للمسألة الكردية أن تتقدم أي خطوة إلى الأمام في ظل رفض أردوغان تلبية المطالب الرئيسية للأكراد. ولقد كانت رزمة الإصلاحات التي أعلنها أردوغان في أيلول الماضي مخيبة لآمال الأكراد على هذا الصعيد، لكن «حزب العمال الكردستاني» أعلن أنه ليس بوارد استئناف عملياته العسكرية قبل انتهاء الانتخابات البلدية إذا لم تقدم الحكومة على خطوات جدية. ويسجل في هذا المجال محاولات أردوغان إضعاف «الكردستاني» وزعيمه عبدالله أوجلان من خلال التحالف مع «رئيس» إقليم كردستان مسعود البرزاني الذي استضافه أردوغان في ديار بكر على انه زعيم الأكراد في تركيا والمنطقة وليس أوجلان.
والكلام على المسألة الكردية ينسحب أيضا على المسألة العلوية التي لم تسجل أي تقدم لحلها مع رفض أردوغان المطالب العلوية الرئيسية.
وعلى الصعيد الخارجي سجل العام 2013 هزائم بالجملة لسياسات تركيا تجاه المنطقة والعالم.
ففي سوريا لم يتحقق هدف هذه السياسة في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. وبلغ الإحباط التركي مرحلة أن أردوغان كان مستعدا لتجاوز الشرعية الدولية والمشاركة في ضربة عسكرية لسوريا في أيلول الماضي، وهي الضربة التي لم تحصل وأوقعت أنقرة في خيبة كبرى. إلى ذلك فإن القوى المسلحة الموالية لتركيا، مثل «الجيش السوري الحر»، قد تراجعت مكانتها لمصلحة قوى تقف خلفها السعودية وغيرها، مثل تنظيم «القاعدة» و«جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). وفقدت أنقرة أداتها المباشرة للتأثير، لكن هذا لا يعني معاداة تركيا لـ«النصرة» و«القاعدة»، إذ استمرت في دعمهما على اعتبار أنهم جميعا حلفاء ضد عدوين مشتركين، هما النظام السوري و«حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» في سوريا.
وتلقت تركيا ضربة استراتيجية في مصر بإطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» وخسارة أنقرة إحدى أهم ركائز مشروعها للهيمنة في المنطقة. ولقد تعاطى أردوغان مع المتغيرات في مصر كما لو أنها حدث داخلي تركي، وتعرض بشدة للفريق أول عبد الفتاح السيسي ولشيخ الأزهر ولقادة مصر الجدد، واخترع لـ«الإخوان» شارة رابعة، أي رفع الكف بأصابع أربع. ووصلت العلاقات إلى حد طرد السفير التركي في مصر. ولقد توترت علاقات أنقرة، بسبب مصر، مع كل من السعودية ودول الخليج ما عدا قطر.
إلى ذلك، اضطربت العلاقات التركية - الأميركية بسبب أكثر من ملف، وباتت الاتصالات بين الرئيس الأميركي باراك أوباما وأردوغان شبه مقطوعة منذ أيار الماضي، ما خلا اتصالا هاتفيا من جانب أردوغان في الصيف الماضي.
ونظرا للمتغيرات الإقليمية والدولية، ولا سيما الاتفاق حول ترسانة الأسلحة الكيميائية في سوريا والنووي بين إيران والغرب، ومن أجل التقليل من حجم الخسائر الناتجة من المتغيرات الإقليمية والدولية، فقد لوحظ تحرك تركي جديد تجاه إيران والعراق، تمثل بزيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو إلى طهران وبغداد، حيث استقبل بترحاب في ظل الحديث عن استدارة تركية في الموقف من قضايا المنطقة. ولعله من المبكر جدا وصف الحراك التركي الجديد بالجدي في ظل استمرار الموقف التركي السلبي من النظام في سوريا ودعم أنقرة المفصلي للمنظمات الإرهابية في سوريا، واستمرار التحرك ذي الطابع المذهبي في العراق.
أما العلاقات مع إسرائيل فقد شهدت تطوراً بارزاً، وهو اعتذار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى الشعب التركي عن حادثة سفينة «مرمرة» من دون أن تسجل خطوات عملية لتطبيع كامل للعلاقات السياسية مع استمرار النمو المطرد في العلاقات التجارية بين الدولتين.
وفي محصلة لصورة تركيا الخارجية فهي تختصر بكلمتين: معزولة وعاجزة.
المصدر: صحيفة "السفير" اللبنانية