2024-11-24 05:09 م

التاريخ المسيحي للقدس

2013-12-18
القدس/ ألقى سيادة المطران عطاالله حنا رئيس اساقفة سبسطية للروم الارثوذكس مداخلة عبر الفيديو كومفيرنس من القدس حيث خاطب مجلس الكنائس الامريكية المجتمع حاليا في لوس انجلس وقد كان عنوان المحاضرة "التاريخ المسيحي للقدس". وفيما يلي نص المداخلة:

"التاريخ المسيحي للقدس يبدأ مع السيد المسيح له المجد. فهو ولد في بيت لحم وشب في الناصرة وأمضى جُلَّ حياته العامة في القدس. فيها علم وصنع العجائب ونادى بالوصية الجديدة وصية المحبة وفيها مات وقام من بين الأموات ممجدا، وفيها أرسل الله روحه القدوس من بعده إلى رسله. ثم صعد إلى السماء. ومن القدس انطلق الرسل يبشرون في العالم كله. فالقدس هي كل شيء للمسيحية وللمسيحيين. كل شيء بدأ فيها ومنها انتشرت المسيحية في العالم. ولهذا نقول إن القدس هي أم الكنائس."

لما ولدت المسيحية كانت الإمبراطورية الرومانية الوثنية هي المسيطرة على العالم المعروف آنذاك. وفي أول فترة من حياتها، لاقت المسيحية الاضطهاد في القدس، أولا من قبل اليهود ففروا إلى شرق الأردن إلى "بلا" Pella أو طبقة فحل. ثم لما بدأوا ينتشرون في أنحاء الإمبراطورية الرومانية لاقوا الاضطهاد من قبل الإمبراطورية نفسها. هكذا ظلت المسيحية في القرون الثلاثة الأولى، حيث تبلور القانون الروماني الرافض لأي اختلاف في الديانات وقال: "لا يجوز للمسيحي أن يوجد". وكان ذلك سببا في الاضطهادات الدموية للجماعات المسيحية في كل أنحاء الإمبراطورية. وظل ذلك مدة ثلاثة قرون حتى عام 313 تاريخ صدور منشور "ميلانو" على يد الإمبراطور قسطنطين الذي صار هو نفسه مسيحيا ومن ثم ألغى قانون الاستثناء في حق المسيحيين. وفي هذه الفترة، وبسبب ثورة اليهود على الرومان، حاصر الرومان القدس سنة 70 ودمروها وأخرجوا منها جميع سكانها وتركوها خربة، حتى عام135 إذ أعاد بناءها الإمبراطور الروماني هادريانس ولكن كمدينة رومانية مع هياكل للآلهة الوثنية في موقع الهيكل وفي المواقع التي أخذ المسيحيون يكرمونها ويذكرون فيها أحداث حياة السيد المسيح. وبدّل اسم القدس وسماها إيليا كابيتولينا (Aelia Capitolina): "إيليا" نسبة إلى عائلته( Aelia)    و(Capitolina) نسبة إلى الإله (Jupiter Capitolinus). وألغى اسم "اليهودية" فجعلها ولاية سورية وسماها "فلسطين" باسمها الكنعاني القديم.

 

وظل الوضع على هذه الحال، وظل اضطهاد الإمبراطورية الرومانية للمسيحيين في القدس وفي أنحاء الإمبراطورية شرقا وغربا، حتى جاء الإمبراطور قسطنطين الذي اهتدى إلى المسيحية، وأمه هيلانة المسيحية. فأصدر قسطنطين مرسوم "ميلانو" الشهير عام 313 الذي وضع حدا لاضطهاد المسيحيين، وبعد ذلك بقليل، اصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية. واستطاع المسيحيون أن يعودوا إلى القدس وينعموا فيها بالطمأنينة. واهتمت والدة الإمبراطور، هيلانة، بتكريم الأماكن المقدسة في ذكرى السيد المسيح، فشيدت فيها كنائس كبرى منها كنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم. عام 324 أعاد قسطنطين إلى "إيلياء" اسمها :


Jerusalem  (Hagiapolis Ierusalem, Holy City).

           ولكنه أبقى اسم فلسطين ولم يبدله.

هذه الفترة المسيحية الوحيدة في تاريخ القدس أي 313-638 ازدهرت المسيحية وكثر الحجاج إليها، والرهبان والأديرة فيها، بحيث أصبحت الصحراء المجاورة مليئة بألوف الرهبان والنساك. ومن تلك الأديرة ما زال بعضها قائما حتى اليوم مثل دير مار سابا شرق بيت لحم، ودير مار جاورجيوس في وادي القلط، ودير القرنطل في أريحا....  في دير مار سابا ترهّب القديس يوحنا الدمشقي(676-749) بعد أن كان مسؤولا عن ديوان المحاسبة في عهد الخليفة الأموي عبدالملك.

وكان الغزو الفارسي عام 614 فوضع حدا للازدهار المسيحي، ودمر الكثير من الكنائس ونفى المسيحيين من القدس وأعاد اليهود إليها وأقام فيها حكما يهوديا. وبقيت هذه الفترة الفارسية حتى عام 629، حيث استعاد الإمبراطور هِرَقل المدينة وأعاد المسيحيين إليها.

 

ثم كان افتح العربي الإسلامي للمدينة سنة 637 في عهد البطريرك صفرونيوس وهو الذي سلم المدينة إلى عمر بن الخطاب، فبدأ عهد جديد للمسيحية مع الإسلام. كان فيه حسن جوار بحسب العهدة العمرية وكان فيها تمييز وبعض الضيقات كما جاء في العهدة نفسها. وتم بناء قبة الصخرة في عهد عبد الملك بن مروان (687-691) والمسجد الأقصى في عهد الوليد (705-715). وفي عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد تم اتفاق بينه وبين شارلمان امبراطور الغرب يضمن بموجبه الأمان للحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة.

 

ثم جاءت الفترة الصليبية من 1099 حتى 1291. وما زالت حتى اليوم موضوع جدل بين المؤرخين، يرى فيها البعض غزوا فرنجيا غربيا، ويرى فيها البعض الآخر حربًا دينية، وردًّا على تدمير كنيسة القيامة بأمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. المهم أنها كانت مرورا عابرًا في القدس والأراضي المقدس، وفي القدس خلفت ذكريات مريرة لقسوة الفرنجة أول دخولهم المدينة المقدسة. وما زالت هذه الحروب يشكل اسمها وذكرها رمزا للاستعمار الغربي لبلادنا.

ومن بين الكنائس المتواجدة اليوم في القدس (أورثوذكسية وكاثوليكية وبروتستاتية) أقدمها الكنيسة الأرثوذكسية بلغتيها الآرامية/السريانية (لغة السيد المسيح) واليونانية (لغة الإمبراطورية الشائعة في الشرق. إذ كانت الإمبراطورية الرومانية قد تأثرت بالثقافة واللغة اليونانية، فكانت لغة الإدارة هي اللاتينية أما لغة الثقافة والفكر ثم الدين فكانت اليونانية. ولما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، أصبح القسم الغربي منها مركزه روما ثم تنقل بين مدن كثيرة في الغرب ولغته اللاتينية، بينما القسم الشرقي من الإمبراطورية وعاصمتها بيزنطية أو القسطنطينية ولغتها اليونانية وكنيستها هي الكنيسة الأرثوذكسية.

        ثم تقلبت الدول على المدينة المقدسة، الأمويون فالعباسيون فالفاطميون فالسلاجقة والمماليك حتى الفترة العثمانية التي دامت منذ 1516 وحتى نهاية الخلاقة العثمانية، وبداية الفترة الحديثة مع الانتداب البريطاني وبروز القضية الفلسطينية في وجه الحركة الصهيونية.

والذي نلاحظه في هذا الموجز التاريخي هو أن فترات الحكم المسيحية  في المدينة المسيحية بامتياز كانت استثنائية ولم تدم. مدينة المسيحية بامتياز ودائما تحت حكم غير مسيحي.

ما هو اليوم موقفنا المسيحي من المدينة المقدسة؟ هو موقف شمولي يعرف حقوقه ويعرف حقوق غيره. فهي مدينة مقدسة لليهودية والمسيحية والإسلام. وقد أصدر رؤساء الكنائس في القدس وثيقة عام 2006 (29/9/2006) بينوا فيها الموقف المسيحي من المدينة المقدسة، أقتبس من تصريحهم ما يلي:

- "القدس مدينة مقدسة ومدينة للحياة اليومية ولها مكانتها السامية لدى الديانات التوحيدية الثلاث.
القدس تراث للإنسانية ومدينة مقدسة. ولكنها أيضا مدينة الحياة اليومية لسكانها،اليهود والمسيحيين والمسلمين. وهي كذلك أيضا لكل من ارتبط بهم بالربط العائلية، ولكل من كانت القدس لهم مكان الصلاة والمدرسة ودور العلاج والعمل. المدينة المقدسة عزيزة وفريدة لكل واحد من أبناء الديانات الموحدة الثلاث، ليس فقط بسبب ما فيها من ذكريات تاريخية وأماكن للحج، بل بسبب وجود الجماعات الحية فيها أيضا من المؤمنين اليهود والمسيحيين والمسلمين. ولا يمكن الفصل بين الأماكن المقدسة والجماعات الحية التي تعيش فيها.

- وحبًّا بقداسة المدينة، ومن أجل خدمة أهلها، وُجِدَ فيها العديد من المؤسسات الدينية المسيحية. وقد اعترفت بها السلطات المتعاقبة عبر الأجيال، واكتسبت بذلك حقوقا مكَّنتها من القيام بالتزاماتها تجاه المدينة المقدسة وسكانها. وبالتالي، لا بد من احترام هذه الحقوق الأساسية لتلك المؤسسات كما وحقوق الأفراد جميعا في المدينة. حقوق الأفراد هي تلك التي تمكِّنُهم من القيام بواجباتهم الدينية والسياسية والاجتماعية، ومن تلبية جميع حاجاتهم في المجالات نفسها الدينية والتربوية والثقافية والطبية. وحقوق المؤسسات تشمل حق التملك والإدارة الحرة للمنشآت اللازمة للقيام بخدمتهم لمؤمنيهم ولنموهم الإنساني بصورة عامة – من كنائس وأديرة ومدارس ومستشفيات ومؤسسات اجتماعيات ومعاهد لاهوتية وكتابية وأماكن استقبال للحجاج الخ...ومنها أيضا الحق على إحضار من يلزم من الأشخاص الخادمين والعاملين فيها، والحصول على الوسائل اللازمة للإدارة السليمة لتلك المنشآت.

- ما هو مطلوب للتوصل إلى الحل العادل والدائم لقضية القدس.

يجب أن يُتَّخَذَ القرار الذي يحدد مستقبل المدينة باتفاق مشترك، وبالتعاون والاستشارة، ولا يحوز   أن يُفرَض بالقوة. لأن القرارات الأحادية الجانب أو الحلول المفروضة سوف تبقى عقبة دون السلام والأمن. والحلول مختلفة وممكنة....

-       الوضع الخاص – القدس مدينة مفتوحة
         القدس مدينة مقدسة، وتراثٌ للإنسانية، ومدينةٌ مقدسة لثلاث ديانات. ولها طابع فريد يميزها عن كل مدن العالم، ويسمو بها فوق كل مدن العالم .... والشعبان في المدينة هم حراس قداستها ويحملون تجاهها مسؤولية مزدوجة: أن ينظموا حياتهم في المدينة وأن يستقبلوا فيها كل "الحجاج" إليها من جميع أنحاء العالم. والعون المطلوب من الأسرة الدولية يجب ألا يحل محل سيادة الشعبين ومسؤوليتهما. بل هو مطلوب لمساعدة كلا الشعبين للتوصل إلى تحديد الوضع الخاص للمدينة وتثبيته. ولهذا، فمن الناحية العملية، وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من واجب الشعبين فيها أن يحددوا الوضع الخاص الذي يتفق وطبيعة المدينة، على اعتبارها من جهة مدينةً مقدسةً وتراثا للإنسانية، ومن جهة أخرى مدينةً خاصة لشعبيها، فيها يعيشون حياتهم اليومية. ثم إذا ما تبينت معالم هذا الوضع الخاص وتحددت، وجب على الأسرة الدولية أن تحيطه بالضمانات الدولية اللازمة لتعزيزه ولضمان استمرار السلام والاحترام للجميع. 
وتشمل مقوماتُ الوضع الخاصِ العناصر التالية:

الحق في حرية العبادة والضمير للجميع، للأفراد والجماعات الدينية (المذكرة 1994).

المساواة بين جميع سكان المدينة أمام القانون، بالاتفاق مع القرارات الدولية.

حرية الوصول إلى القدس للجميع، المواطنين، والمقيمين، أو الحجاج، وذلك في كل وقت، في زمن الحرب والسلم على السواء. ولهذا يجب أن تكون القدس مدينة مفتوحة.

"احترام حقوق الكنائس المختلفة في التملك والحراسة والعبادة التي اكتسبتها عبر التاريخ، والتي يحميها حتى الآن نظام "الستاتو كوو" للأماكن المقدسة، المستند إلى "فرمانات" تاريخية ووثائق أخرى. وكل هذه الوثائق، يجب أن يستمر الاعتراف بها واحترامها" (مذكرة 1994).

أيا كان الحل المقترح، يجب أن تبقى مختلف الأماكن المقدسة، حيثما وجدت في المدينة، موحَّدة جغرافيا فيما بينها.

ان المسيحيين الفلسطينيين مخلصين لانتمائهم الديني والوطني وهم اصيلون في انتمائهم للأمة العربية وللشعب الفلسطيني الذي يناضل من اجل حريته وكرامته.

قضية فلسطين هي قضيتنا ونحن لسنا متعاطفين أو متضامنين مع شعبنا فحسب وإنما نحن منحازون كليا لشعبنا وقدمنا ومازلنا نقدم التضحيات في سبيل ذلك،لسنا أقلية كما نوصف في بعض الاماكن في الغرب بل نحن ملح وخميرة لهذة الارض وجمال هذا الوطن لن يكون إلا من خلال هذا التعايش الانساني والوطني بين المسيحيين والمسلمين.

نحن مسخرون لخدمة قضية شعبنا والقدس عاصمتنا وقبلتنا ومعراجنا الى السماء.

لن يكون هنالك سلام بدون القدس التي هي بوصلتنا جميعا وبوصلة كل عربي أصيل وكل إنسان حر، نحن مع شعبنا في نضاله من اجل الحرية والكرامة والاستقلال.

إن وثيقة الكايروس الفلسطينية اتمنى ان تصل الى كل مكان فهي رسالة مسيحية فلسطينية عربية من قلب المعاناة.