2024-11-25 07:40 م

الأرامل في العراق: جيش عتاده اليتامى وسواتره البكاء

عـددهـن يعـادل سـكان خمـس دول عـربيـة

2012-10-05
بقلم: عمر الجفال
إيقاع طبول الحرب المستمرَّة منذ أكثر من ثلاثة عقود في أرض الرافدين خلَّفت جيشاً من النساء الأرامل. جيش هو الأضعف في معادلة الحروب العراقية العبثيّة التي كلّما هدأت قعقعتها، نهضت عنقاؤها من رماد الضّحايا لتعلن بدء حلقة جديدة من مسلسل الحروب.
وإذا كان الشّاعر العراقي محمَّد مظلوم قد خلّف أرملة هي الحياة بكاملها: «أيتها الحياة، يا أرملتي» في قصيدة كتبها على ظهرِ دبابة في ذروة الحرب العراقية - الإيرانية، فإن كثيرين غيره كانت خساراتهم أقلّ، حين خلَّفوا وراءهم نساء أرامل من لحم ودم، وثكالى، وأيتاما بعضهم لم يروا آباءهم.
حرب الخليج الثانية هي الأخرى لم تكن شهيّتها للموت أقلّ من الأولى، إذ فور انتهائها باندحار الجيش العراقي أمام الجحافل الدولية، أنتجت ثورة شعبيّة في وسط وجنوبي العراق، فتحت الباب مشرَّعاً أمام إعدامات نظام صدام حسين، وأمام غولة الموت، التي حرصت على أن تترك ستمئة ألف أرملة عراقية خلال الحربين، بحسب الدكتور عزو محمد عبد القادر ناجي، الذي خصَّص كتاباً كاملاً عن فوضى تلك الحروب العبثيَّة.
ومنذ معارك الحرب الأولى، بدأت قوافل الشهداء القادمين من جبهات الحرب ملفوفين بأعلام الوطن، تتوزَّع في مدن العراق مخلِّفة جدراناً من الخرق السَّوداء التي كست الشوارع إعلاناً عن موتهم المبكِّر. هكذا عاش العراق، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، واقعا بدا مريراً، خاصّة في سنوات الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتَّحدة ودام أكثر من 12 عاماً، وهي حرب ايضاً لكن بوسائل أخرى. وإذ كانت الأمور تزداد تعقيداً، لجأت بعض هؤلاء الأرامل إلى ممارسة أول مهنة في التاريخ. وبعضهن شددن بطونهن إلى ظهورهن وتحمّلن الجوع من دون أن يأكلن أثداءهن.
وإذا كان قانون أورنمو - الذي سبق قانون حمورابي بثلاثة قرون - يقضي بحماية الفقراء والأرامل والأيتام من ظلم الأقوياء، فإن الفترة التي تلت احتلال العراق عام 2003 سنّت قوانينها الخاصّة، وأعطت الشرعية لظهور جيش جديد من الأرامل من دون أي حماية، لكنه هذه المرَّة جيش أكثر عدداً، جيش عتاده اليتامى، وسواتره البكاء الصامت.

خطوات أولى نحو.. الموت

فور سقوط نظام الرئيس صدام حسين، أُشيعت الفوضى وانتشر السلاح وعمَّ الإرهاب. تناسل الحسّ الثّأري لدى عامّة الناس، خرج إلى الشوارع من عانى ظلم النظام المنهار ليأخذ بثأره الذي بقي دفيناً في الصدور على مدى ثلاثين عاماً من حكم نظام صنِّف من بين أبشع الدكتاتوريات في العالم. خلَّف هؤلاء المنتقمون قوافل من القتلى وعدداً جديداً من الأرامل أضيف إلى قائمة أرامل الحرب. إلا أن الأمر اختلف هنا قليلاً، إذ كان نظام صدّام يمنح عائلة الشهيد في الحرب العراقية - الإيرانية قطعة أرض في مسقط رأس الشهيد مصحوبة بقرضٍ مصرفي للبناء وسيَّارة من الصناعات اليابانيَّة، ما جعل من الأرملة هدفاً للزواج وإن كان زواج مصلحة، خاصَّة أن قراراً صدر آنذاك يمنح بموجبه من يتزوج بأرملة الشهيد مبلغاً قدره 25 ألف دينار، أي ما يعادل 25 ألف دولار في ذلك الوقت، في حين أن أرامل قتلى الثأر من رجال النظام المنهار لم يجدن سوى قارعة الطريق ملاذاً من الخوف والجوع.

أرامل تحت مظلة الديموقراطية

تتمدد عقارب الحروب في البيت العراقي لتوزع سمّها في أركانه بدون تمييز بين عرق أو دين أو مذهب. لكن عقارب ما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 نوَّعت سمومها أيضاً. بدأ فصل القتل على أساس المهنة، فقضى عدد كبير من الأكاديميين والأطبّاء والطّيارين وأساتذة الجامعات، ثم بدأ الفصل الأخطر، الطائفي، الذي تم خلاله القتل على الهوية. كانت أعداد القتلى كبيرة. وبطبيعة الحال فإن أعداد الأرامل أخذت بالاتساع، إذ تشير دراسة صدرت عن «منظمة الإغاثة العالمية» الى ان «ثلاثا من كل خمس أرامل في العراق فقدن أزواجهن في سنوات العنف التي تلت غزو العام 2003». وتقول الدراسة إن «10 في المئة من نساء العراق اللواتي يقدر عددهن بـ1,5 مليون امرأة، أرامل». وحذَّرت الدراسة من أن «العصابات الإجرامية والمجموعات الإرهابية ربما تحاول تجنيد الأرامل اليائسات، وان تجاهل معاناتهن من الممكن أن يؤدي بهن إلى الدعارة والمخدرات والإرهاب». ويؤكد التقرير أن «الدولة العراقية أهملت الأرامل بمشكلاتهنّ الكبيرة».
وفي عام 2005 أصدرت وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي إحصائية قالت فيها ان «عدد الأرامل في البلاد يبلغ نحو مليون أرملة». إلا أن الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال لم تنتبه لمعاناتهن، إذ ان 83 ألف أرملة فقط من هذا العدد المرعب يتسلمن راتب الحماية الاجتماعية البالغ 65 ألف دينار عراقي (نحو 50 دولاراً)، ما يجعلهن تحت خط الفقر، إذ لا يسدُّ هذا المبلغ مجرد احتياجاتهن الغذائية، فما بالك بالاحتياجات الإنسانية الأخرى.
وبالرغم من تسارع أحداث العنف في عام 2005 وما تلى ذلك، ومنها الاقتتال الطائفي وتمدّد تنظيم القاعدة، إلا أن الإحصائيَّة الرسميَّة للحكومة العراقيَّة تغرد خارج سرب الحقيقة، إذ تقول وزارة المرأة في حزيران/يونيو 2011، ان هناك أكثر من مليون أرملة في البلاد، وهو ذات العدد الذي أوردته إحصائية وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي عام 2005. فهل توقف القتل واستتب الأمن في العراق خلال السنوات الفاصلة بين إحصائيات الوزارتين؟ أم هي فوضى الأرقام التي تطمس الحقائق أو تضخِّمها بحسب متطلبات صراع الكتل السياسية؟ قد يكون الجواب في بحث الدكتورة كاترين ميخائيل الذي أعدَّته لـ«مكتب الأمم المتَّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» في جنيف والذي تؤكد فيه أن «90 إلى 100 امرأة عراقية يترملن كل يوم نتيجة أعمال القتل والعنف الطائفي والجريمة المنظمة في العراق»، هو الأقرب إلى الصواب... والأكثر فجيعة. 
البرلمان العراقي الذي يبدو عاجزاً أمام المشاكل المستعصية على الحل بسبب الفساد الإداري والمالي الذي ينخر جسد الدولة، حاول رمي الكرة في الملعب الاجتماعي، حيث يقترح عدد من النواب تشجيع ظاهرة تعدد الزوجات من خلال سن تشريع يسهل الحصول على قروض مالية. لكن الطامة الكبرى بحسب منظمات مدنية معنية بحقوق المرأة هي المتاجرة بمعاناة النساء الأرامل من أجل الاستحواذ على أصواتهن. وتقول الناشطة في مجال حقوق الانسان هناء أدور إن للاقتراح جوانب عديدة مثيرة للجدل، فإلى جانب تشجيعه على الزواج المخادع، فهو يخالف القانون العراقي، وإن «عدم الاستقرار السياسي وتدهور المعايير الأخلاقية» في العراق هما سبب هذه الاقتراحات التي تعارض القوانين والأخلاق برأيها، إذ تجعل من المرأة «سلعة» سهلة الشراء والاستفادة منها لأنها تضعها في منزلة متدنية عن الرجل وتعرضها للتعسف الذكوري. أما عضو البرلمان أشواق الجاف فتقول ان عدد الأرامل في العراق «يعادل سكان خمس دول عربية هي جزر القمر وجيبوتي وقطر والبحرين والإمارات العربية المتَّحدة»، وتوصي بالإسراع في تشريع «قانون صندوق الأيتام في العراق» للتخفيف عن كاهل الأرامل.
صحيح أن الارامل في العراق جيش عتاده اليتامى، وسواتره البكاء الصامت، لكنه وفق هذا العدد الكبير يستطيع أن يحدد ملامح الكتلة النيابية الأكبر في الانتخابات البرلمانية المقبلة، لا سيما بعد انتشار ثقافة الحقوق والواجبات (دستورياً) التي عرَّت على نحو واسع المتشدقين بشعارات الحرية والعدل والمساواة من أمراء الطوائف، فهل يحسم جيش الأرامل معركة الانتخابات المقبلة؟

-----------------------------------
أم المعارك
كان صدام حسين قد خاض حرباً أسماها "أم المعارك". كانت تلك حرب متعلَّقة ببلاد كاملة، إلا أن "سلامّة" وجدت نفسها أمّاً لمعارك لا تعنيها. بدأت سلامة أولى معاركها مع الحياة حين قدَّمت زوجها قربانا على مذبح الحرب العراقية-الإيرانية. خلَّف زوجها الذي قُتل عام 1982، ثلاثة أولاد. استطاعت سلاّمة أن تُعيلهم عبر عملها في تنظيف المنازل والمدارس، وحينما حلَّ عام 2003 فقدت أبنها البكر ماجد إثر طلق ناري طائش. وبينما لم يجفَّ حزن ماجد في قلب أمه، سارع أبنها الأصغر حميد، المتزوِّج حديثاً عام 2008 من فتاة عمرها 16 عاماً،  للحاق بأخيه في انفجار في منطقة بغداد الجديدة.

* كاتب صحافي من العراق
عن "السفير" اللبنانية