تأتي حوالي 86 في المئة من مياه نهر النيل من الهضبة الاثيوبية (59 في المئة من النيل الأزرق و14 في المئة من نهر السوباط و13 في المئة من نهر عطبرة)، بينما تساهم البحيرات الاستوائية بحوالي 14 في المئة فقط من مياه نهر النيل. وتٌقدّر كميات مياه النهر التي تصل أسوان سنوياً بحوالي 84 مليار متر مكعب، وهذا يجعل نهر النيل من أضعف وأقل الأنهار مياهاً في العالم مقارنةً بمساحة حوضه وطوله وعدد دوله المتشاطئة. وتساوي هذه المياه 2 في المئة من نهر الأمازون، و6 في المئة من نهر الكونغو، و12 في المئة من نهر اليانغستي، و17 في المئة من نهر النيجر، و26 في المئة من نهر الزمبيزي. إنّ هذا الضُعف الحاد في وارد المياه السنوي يمثّل المشكلة الكبرى لنهر النيل ودوله وشعوبه، خصوصاً مع الزيادة المضطردة للسكان والاحتياجات المائية المتنامية لهم، ومع التغييرات المناخية والتدهور البيئي في دول الحوض.
وإضافة، فالمشكلة الأساسية في حوض النيل هي انّ مصر والسودان هما المستعملان الرئيسيان لمجمل مياه النهر الواردة إلى أسوان. فبمقتضى «اتفاقية مياه النيل» التي وقّعتها مصر والسودان عام 1959، فإنّ نصيب مصر يبلغ 55,5 مليار متر مكعب، ويبلغ نصيب السودان 18,5 مليار متر مكعب، بينما تتبخّر المليارات العشر المتبقية من بحيرة السد العالي. تُصرّ مصر والسودان على أنّ هذه الكميات هي حقها المكتسب، وأن هذا الحق غير قابل للتفاوض. على الجانب الآخر، تطالب بقية دول الحوض، وعلى رأسها اثيوبيا، بحقوق لها من مياه النهر تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول.
وتنظم العلاقات النيلية «مبادرة حوض النيل» التي تضم تسع دول، انضمت اليها مؤخراً جمهورية جنوب السودان لتصبح الدولة العشرة، بعدما أجاز اجتماع كيغالي، الذي انعقد في تموز/يوليو الماضي، طلب العضوية الذي تقدمت به. وأما دول المبادرة فهي اثيوبيا ومصر والسودان وبوروندي ورواندا وكينيا وتنزانيا ويوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. واريتريا هي أيضاً من دول حوض النيل، حيث أن نهر «سيتيت»، وهو أحد روافد نهر «عطبرة»، ويشكّل جزءٌ منه الفاصل الحدودي بين اثيوبيا واريتريا، ويعبر جزءٌ منه الأراضي الاريترية. ونهر «عطبرة» هو أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل. غير أن اريتريا ليست عضواً في «مبادرة حوض النيل» بل تحوز على صفة المراقب فقط.
نهر النيل هو أطول أنهار العالم، يجري لمسافة 6650 كيلومترا من بداية منابعه في دولتي بورندي ورواندا، حتّى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. أحد روافده ـ النيل الأبيض - ينبع من ثاني أكبر بحيرة في العالم (بحيرة فكتوريا التي تبلغ مساحتها 68500 كيلومتر مربع). تقع على بعض روافد النهر أكبر المستنقعات في العالم (السٌدّ بجنوب السودان 30000 كيلومتر مربع)، وأقدم وأكبر السدود في العالم (أسوان والسد العالي بمصر، وسنار وجبل اولياء والرصيص ومروى بالسودان، بالإضافة إلى ســد النهضة أو الألفية الذي بدأت اثيوبيا في بنائه العام الماضي). اتفاقيات نهر النيل هي أقدم الاتفاقيات وأكثرها إثارةً للجدل بين القبول الكامل والرفض الكامل. ومعلوم أنه قامت على ضفـــاف النيل أقدم وأعرق الحضارات الانســانية، في مصر والســودان واثيوبيا وأوغندا.
فكرة حوض النيل
تشكّلت أولى ملامح التعاون بين دول حوض النيل في منتصف الستينيات من القرن الماضي، إثر الارتفاع المفاجئ والكبير في بحيرة فكتوريا والذي نتجت عنه مشاكل عدّة في تنزانيا وأوغندا وكينيا. كانت هناك إرهاصات عديدة لهذا الارتفاع، وقد يكون من ضمن أسبابه وقوف مستنقعات جنوب السودان كعقبة في طريق انسياب النيل، أو قد يكون حجز السدّ العالي للمياه. لهذه الأسباب، فقد دعت دول البحيرات الاستوائية مصر والسودان واثيوبيا لمناقشة هذه المسألة، تحت مظلة برنامج المسح المائي للبحيرات الاستوائية الذي ساهمت الأمم المتحدة في تمويله وتسهيل إجراءاته. تواصلت لقاءات واجتماعات دول الحوض تحت عدّة مظلات لاحقة، من بينها «النيل الفنّي»، و«الأخوّة»، و«النيل لعام 2000».
وفي عام 1997، برزت فكرة «مبادرة حوض النيل» والتي أخذت شكلها الرسمي في 22 شباط/ فبراير عام 1999 في مدينة دار السلام في تنزانيا، إثر توقيع وزراء المياه لدول الحوض بالأحرف الأولى على وقائع الاجتماع الذي أسّس لقيام مبادرة حوض النيل. وقد اتفق الوزراء على أن الهدف من المبادرة هو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع المنصف والمنافع من موارد النيل المشتركة. وقد نجحت المبادرة في عدّة مجالات، من بينها إنشاء البنية التنظيمية للمنظمة (سكرتارية بمدينة عنتبي في أوغندا، ومكتب للنيل الشرقي بأديس أبابا، ومكتب لنيل البحيرات الاستوائية بمدينة كيغالي بدولة رواندا)، وفي تمويل عدد من المشاريع المشتركة. وبدأ العمل قبل عدّة أعوام في اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل.
الصعوبات أمام التفاوض
منذ بداية المناقشات، واجهت مفاوضات اتفاقية الإطار التعاوني نقاط الخلاف نفسها التي تواجهها اليوم. فمصر والسودان يصران على استعمالاتهما وحقوقهما القائمة، وعلى أن الاتفاقيات التي عُقدت في الماضي ملزمةٌ لدول الحوض الأخرى، وتحديداً اتفاقية 1929 التي أبرمتها بريطانيا مع مصر، نيابةً عن السودان وكينيا وأوغندا وتنجانيقا، التي كانت ضمن مستعمراتها في ذلك الحين. هذه الاتفاقية أعطت مصر حق النقض لأي مشاريع تقام على النيل قد تؤثر سلباً على كميات المياه التي تصل مصر، أو تعدّل وقت وصولها. وبينما تصرُّ مصر على إلزامية هذه الاتفاقية تحت نظرية توارث الاتفاقيات، ترفضها دول البحيرات الاستوائية باعتبار أنه تمّ التوقيع عليها أثناء الحقبة الاسـتعمارية ولا إلزامــية لهذه الاتفاقيــة بعد نهايـة هذه الحقبة.
تُصرُّ مصر والسودان أيضاً على مبدأ الإخطار المسبّق لأية مشروعات تنوي الدول النيلية الأخرى القيام بها، بينما ترفض تلك الدول هذا الطلب وتدّعي أن مصر والسودان لم يقوما بإخطارهم بأي مشاريع أقاماها على نهر النيل. وتطالب مصر والسودان بأن يتم أي تعديل لاتفاقية الإطار التعاوني بالإجماع أو الأغلبية التي تشمل مصر والسودان، بينما تصر الدول الأخرى على التعديل بالأغلبية العادية، شملت أم لم تشمل مصر والسودان. وهذه خلافاتٌ عميقة، زادت النزاعات القائمة أصلاً مزيداً من التعقيد والتأزم.
وقّعت خمس دول على اتفاقية الإطار التعاوني (تنزانيا وكينيا ويوغندا واثيوبيا ورواندا) في شهر أيار/مايو من العام 2010. وقد انضمت إليها بوروندي في شباط/ فبراير عام 2011. وتحتاج الاتفاقية إلى تصديق ست دول (وهو ما لم يتم حتى الآن) علاوة على مصر للدخول حيز التنفيذ. عليه، فإن جنوب السودان ينضم إلى مبادرة حوض النيل في وقت حرج.
جنوب السودان
يقع حوالي 20 في المئة من حوض النيل في جمهورية جنوب السودان، وهي الدولة الثانية مساحةً في الحوض بعد جمهورية السودان التي يقع فيها حوالي 40 في المئة من الحوض. كما أن حوالي 90 في المئة من جنوب السودان يقع داخل حوض النيل. وتقع المدن الرئيسية الثلاث في جنوب السودان ـ «جوبا» و«ملكال» و«واو» ـ على النيل الأبيض أو أحد روافده. وتلتقي معظم روافد النيل الأبيض فى دولة جنوب السودان. وهناك أيضاً يلتقي النيل الأبيض، الذي تأتي معظم مياهه من البحيرات الاستوائية، بنهر السوباط الذي يأتي من الهضبة الاثيوبية. كما أن قدراً كبيراً من المياه (يُقدّر بحوالي 40 إلى 50 مليار متر مكعب) يتبخّر ويتسرّب في مستنقعات جنوب السودان سنوياً.
يمكن تصنيف جمهورية جنوب السودان إذاً كدولة نيلية ذات اهتمامات ودور كبيرين في نهر النيل، أُسوةً بمصر والسودان واثيوبيا. ويُتوقع أن يلعب جنوب السودان (إن قُدِّر له الاستقرار السياسي والأمني) دوراُ كبيراُ في مجريات الأمور في نهر النيل، خصوصاً بعد انضمامه إلى مبادرة حوض النيل. ويمكن تلخيص هذا الدور في الآتي:
أولاً: رغم التصريحات التي صدرت من عدد من القادة في دولة جنوب السودان لطمأنة مصر لجهة أن جنوب السودان سيحترم حقوق مصر التاريخية، ولن يقوم بالإضرار بها تحت أي ظرف، إلاّ أن كل المراقبين يتوقعون أن تنضمَّ جمهورية جنوب السودان إلى تحالف دول المنبع، وذلك بسبب العلاقات العرقية والجغرافية والتاريخية والثقافية والاقتصادية الوطيدة التي تربطها بدول البحيرات الاستوائية. بل يتوقع هؤلاء المراقبون أن تقف جمهورية جنوب السودان مع هذه الدول في نزاعاتها النيلية مع مصر والسودان.
ثانياً: يُتوقّع كذلك أن تنضم جمهورية جنوب السودان إلى اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. وفي هذا المجال، فإن انضمام دولة بوروندي إلى اتفاقية الإطار التعاوني في شهر شباط/ فبراير من العام 2011 كان عملاً استباقياً تمّ بعد أيام قلائل من إعلان نتيجة الاستفتاء التي أوضحت أن حوالي 99 في المئة من شعب جنوب السودان صوتوا للانفصال. وسوف يقوّي هذا التوقّع من دخول الاتفاقية حيز التنفيذ حيث ستفقد الدول المتردّدة مثل بوروندي أية حقوق نقض كانت بحوزتها حول الاتفاقية قبل بروز دولة جنوب السودان وانضمامها للمبادرة.
ثالثاً: تشير الدراسات إلى إمكانية إضافة حوالي 20 مليار متر مكعب إلى النيل الأبيض من مستنقعات جنوب السودان من خلال القنوات المقترحة والتي تشمل قناة جونقلي. وهذا يعطي جنوب السودان أهميّة ووضعيّة خاصة، لأن المستنقعات هي المصدر الوحيد لزيادة مياه النيل. يبقى السؤال عن الحوافز التي يمكن تقديمها لجنوب السودان ليوافق على إكمال قناة جونقلي أو على شق أية من القنوات. هذا بالطبع إذا سمحت الظروف الأمنية المتدهورة باستمرار في ولاية جونقلي بذلك، واذا تمّ إقناع المجموعات القبلية المحلية التي ستتأثر بالقناة، ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالبيئة والتي تعارض المشروع بشدّة.
رابعاً: على الرغم من أن مسألة اقتسام مياه النيل بين السودان وجنوب السودان ليست من القضايا العاجلة، مقارنةً بقضايا النفط والحدود، إلاّ ان هذه المسألة ستنال اهتماماً بمرور الزمن. فاحتياجات جنوب السودان الحالية من مياه النيل محدودة بسبب عدم وجود مشاريع ريّ أو كهرباء تأخذ من مياه النيل. لكن هذا الوضع سوف يتغير بمرور الزمن، والبدء بمشاريع السدود مثل سد «بيدين» (على بحر الجبل جنوب جوبا)، وإعادة تأهيل المشاريع المتعطّلة حالياً مثل «واو لتعليب الفاكهة» و«أنزارا الزراعي». من المؤكّد أن الاتفاق على اقتسام مياه النيل أثناء مفاوضات نيفاشا أو خلال الفترة الانتقالية كان سيكون أقل تعقيداً منه الآن. فالتفاوض بين دولتين أصعب كثيراً من التفاوض بين وحدتين داخل الدولة الواحدة. بالطبع سيزيد الوضعَ تعقيداً التحالفاتُ والتكتلات داخل دول حوض النيل، والتوقّعات أن ينضم جنوب السودان إلى دول المنبع في نزاعاتها الحادة مع مصر والسودان.
* استاذ وخبير مختص بمسألة المياه من السودان
عن "السفير" اللبنانية