2024-11-24 08:04 م

المياه محرّك للصراع على السلطة

2013-08-17
كتب براهما تشيلاني
كانت المنافسة الجيوسياسية الدولية المحتدمة على الموارد الطبيعية سبباً في تحويل بعض الموارد الاستراتيجية إلى محركات للصراع على السلطة . فقد تحوّلت موارد المياه العابرة للحدود الوطنية إلى مصدر نشط بشكل خاص للمنافسة والصراع، فانطلق سباق محموم لبناء السدود وارتفعت دعوات متنامية تطالب الأمم المتحدة بالاعتراف بالمياه باعتبارها مصلحة أمنية أساسية .

إن المياه تختلف عن غيرها من الموارد الطبيعية . ففي كل الأحوال، هناك بدائل للعديد من الموارد، بما في ذلك النفط، ولكن لا توجد بدائل للمياه . وعلى نحو مماثل، تستطيع البلدان أن تستورد الوقود الأحفوري، والخامات المعدنية، والموارد من المحيط الحيوي مثل الأسماك والأخشاب؛ ولكن لا يمكنها استيراد المياه التي تعد مورداً محلياً في الأساس على نطاق واسع ولفترات طويلة، ناهيك عن كونها دائمة . إن الماء أثقل من النفط، الأمر الذي يجعل شحنها أو نقلها عبر مسافات طويلة ولو حتى عن طريق خطوط أنابيب أمراً باهظ التكلفة (ويحتاج إلى مضخات ضخمة وكثيفة الاستهلاك للطاقة) .

إن المفارقة التي تنطوي عليها مسألة المياه هي أنها تدعم الحياة، ولكنها قد تكون أيضاً سبباً للموت عندما تصبح ناقلة لميكروبات فتاكة أو تتخذ هيئة موجة مد عارمة (تسونامي)، أو فيضانات مفاجئة، أو عواصف، أو أعاصير . والعديد من أعظم الكوارث الطبيعية في عصرنا، بما في ذلك كارثة فوكوشيما في عام ،2011 على سبيل المثال، كانت مرتبطة بالمياه .

ومن المنتظر أن يفرض الانحباس الحراري العالمي على الإمدادات من مياه الشرب ضغوطاً متزايدة  حتى مع ارتفاع مستوى سطح المحيطات واشتداد قوة وتواتر العواصف وزيادة أحداث الطقس المتطرفة الأخرى . والواقع أن التوسع الاقتصادي والديموغرافي السريع تسبب بالفعل في تحويل القدرة على الوصول إلى مياه الشرب إلى قضية كبرى عبر أقسام كبيرة من العالم . وعملت التغيرات التي طرأت على أساليب الحياة على تحفيز الزيادة في معدل استهلاك الفرد من المياه، مع تسبب ارتفاع الدخول في تشجيع تغير الأنظمة الغذائية، خاصة ارتفاع مستويات استهلاك اللحوم، التي يتطلب إنتاجها عشرة أمثال المياه المطلوبة في المتوسط لإنتاج السعرات الحرارية والبروتينات النباتية .

واليوم أصبح عدد سكان العالم من البشر أكثر قليلاً من سبعة مليارات، ولكن أعداد الماشية لا تقل في أي وقت عن 150 ملياراً . والبصمة البيئية المباشرة التي تخلفها الماشية أكبر من تلك التي يخلفها البشر، مع تحوّل الاستهلاك العالمي السريع الارتفاع من اللحوم في حد ذاته إلى محرك أساسي للضغط على المياه .

الآن، تدور بالفعل حروب سياسية واقتصادية في العديد من المناطق، وهو ما ينعكس في بناء السدود على الأنهار الدولية، والدبلوماسية القسرية أو غير ذلك من السبل لمنع مثل هذه الأعمال . ولنتأمل هنا على سبيل المثال حرب المياه الصامتة الناجمة عن بناء إثيوبيا لسد على النيل الأزرق، الذي أثار تهديدات مصرية بشن عمليات عسكرية انتقامية سرية أو علنية .

في العام الماضي، حَذر تقرير مشترك من قِبل هيئات استخباراتية أمريكية من أن استخدام المياه كسلاح في الحرب أو أداة للإرهاب قد يصبح أكثر احتمالاً في العقد المقبل في بعض المناطق . ودعا مجلس العمل المشترك، الذي يتألف من أكثر من ثلاثين رئيساً سابقاً من رؤساء الدول أو الحكومات، إلى اتخاذ تدابير عاجلة لمنع بعض البلدان التي تعاني نقصاً شديداً في المياه من التحول إلى دول فاشلة . ومن جانبها، رفعت وزارة الخارجية الأمريكية مسألة المياه إلى مستوى “المصالح المركزية للسياسة الخارجية الأمريكية” .

في العديد من البلدان، يعمل نقص المتاح من المياه على المستوى المحلي بشكل متزايد على تقييد القرارات حول مكان إقامة المنشآت الصناعية الجديدة ومحطات الطاقة . ووفقاً لتقديرات البنك الدولي فإن مثل هذه القيود تكلف الصين 3 .2% من الناتج المحلي الإجمالي . ورغم هذا فإن الصين لم تندرج بعد تحت فئة الدول التي تعاني نقصاً في المياه . أما الدول التي تعاني نقصاً في المياه، التي تمتد من كوريا الجنوبية والهند إلى مصر و”إسرائيل”، فإنها تدفع ثمناً أعلى في مواجهة مشاكل المياه لديها .

وتدرك هذه البلدان بالفعل أن المياه مورد متجدد ولكنه محدود . فقدرة الطبيعة على تجديد المياه ثابتة، الأمر الذي يجعل موارد المياه العذبة القابلة للاستخدام على مستوى العالم محدودة بنحو 200 ألف كيلومتر مكعب . ولكن عدد البشر تضاعف تقريباً منذ عام ،1970 في حين كان نمو الاقتصاد العالمي أسرع وتيرة .

بيد أن الزيادات الكبيرة في الطلب على المياه لا يحركها النمو الاقتصادي والديموغرافي أو الإنتاج الإضافي من الطاقة والتصنيع والغذاء لتلبية مستويات الاستهلاك المتزايدة فحسب، بل وتدفعها أيضاً حقيقة مفادها أن سكان العالم أصبحوا أكثر بدانة . فقد كان مؤشر متوسط كتلة الجسم للبشر في ازدياد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه تضاعف في العقود الثلاثة الأخيرة منذ ثمانينات القرن العشرين بشكل خاص بسبب انتشار البدانة .

إن المواطنين الأثقل وزناً يفرضون ضغوطاً أثقل على الموارد الطبيعية، وخاصة المياه والطاقة . وبالتالي فإن القضية لا تدور حول عدد الأفواه الواجب إطعامها فحسب، بل أيضاً حول كمية الدهون الزائدة على كوكب الأرض . فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة نشرتها المجلة البريطانية “إم بي سي للصحة العامة” أنه إذا كان متوسط مؤشر كتلة الجسم في بقية بلدان العالم مماثلاً لنظيره في الولايات المتحدة، فإن هذا سوف يعادل إضافة نحو مليار نسمة إلى عدد سكان العالم من البشر على الأرض، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم مشكلة نقص المياه .

الآن، وبعد أن ولى عصر المياه الرخيصة الوفيرة وحلت محله القيود على المعروض من المياه ومدى جودتها، بدأ العديد من المستثمرين ينظرون إلى المياه باعتبارها النفط الجديد . ويشهد الصعود الهائل لصناعة المياه المعبأة منذ تسعينات القرن العشرين على تحويل المورد الأكثر أهمية في العالم إلى سلعة على نحو متزايد . والواقع أن نقص المياه ليس من المرجح أن يزداد حدة وانتشاراً فحسب، بل إن المستهلكين أيضاً سوف يكون لزاماً عليهم أن يدفعوا المزيد في مقابل احتياجاتهم من المياه .

ولا يمكن تخفيف هذه الكارثة المزدوجة إلا من خلال الإدارة المبدعة للمياه والحفاظ عليها، وعن طريق تطوير مصادر الإمداد غير التقليدية . فكما هي الحال في قطاع النفط والغاز، حيث أثبت استخدام المصادر غير التقليدية، بما في ذلك الغاز الصخري ورمال القار، أنه قادر على تغيير القواعد برمتها، فإن قطاع المياه لابد أن يتبنى كل الخيارات غير التقليدية، بما في ذلك إعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحلية مياه المحيطات والمياه المالحة .

باختصار، يتعين علينا أن نركز على معالجة مشاكل إمدادات المياه التي تواجهنا ما دامت حياتنا تتوقف عليها .

 

* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز بحوث السياسات
عن "الخليج" الاماراتية