2024-05-02 06:46 م

المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية في زمن الانحدار الغربي

بقلم: وليـــد شرارة

الاستنفار العام الأميركي والغربي غير المسبوق لدعم الكيان الصهيوني وحمايته، منذ اندلاع المواجهة الراهنة بينه وبين قوى المقاومة في المنطقة، وثيق الصلة بالتقييم العام، في مراكز القرار الغربي، للسياق الإستراتيجي الدولي والإقليمي الذي تندرج هذه المواجهة في إطاره. مثل هذا التقييم هو ما يفسر أيضاً، إلى جانب عوامل أخرى، إحجام الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي عن ممارسة أي ضغوط جدية على حكومة بنيامين نتنياهو رغم وجود خلافات جدية معها حول كيفية إدارة المواجهة، واستمرار الدعم غير المشروط المقدم لها في الميادين العسكرية والسياسية والاقتصادية.لا شك في أن الطبيعة العضوية للعلاقات الإسرائيلية -الأميركية والغربية، وما تعكسه من تماهٍ ثقافي - أيديولوجي بين نخب الطرفين، وطغيان الحسابات السياسية الداخلية قبل الاستحقاقات الانتخابية، هي من بين العوامل التي تحكم سياسات الحكومات الغربية حيال الصراع الدائر في الإقليم. غير أن احتدام «المنافسة الإستراتيجية» مع القوى غير الغربية الصاعدة، والتي تُرجمت حرباً عالمية بالوكالة مع روسيا محصورة حتى اللحظة في أوكرانيا، والتوتر المتصاعد مع الصين، والمرشّح للتفاقم في السنوات القادمة، والمجابهة المتعددة الأبعاد مع إيران، والميل المتزايد لكثير من الدول الوازنة في الجنوب العالمي إلى اعتماد سياسات مستقلة أو في الحد الأدنى متمايزة عن الأجندة الدولية للولايات المتحدة، هي في مجملها تطورات تعزز القناعة بسرعة انحسار هيمنة واشنطن، وضرورة اتخاذ خطوات حاسمة لوقف هذا المسار. ينقسم الوسط السياسي والأكاديمي المعني بالسياسة الخارجية الأميركية، اليوم، بين تيارين رئيسين: يرى الأول أن أولوية التصدي للتهديد الإستراتيجي الأكبر، أي الصين، تبرر السعي إلى «تخفيض التوتر» مع بقية اللاعبين الصاعدين، لا بل وعقد صفقات معهم، بينما يرى الثاني أن توجهاً متشدداً حيال من يصنّفها «القوى ذات النزعة الإمبراطورية»، وتحديداً روسيا والصين وإيران، ينبغي أن يُعتمد من قبل الولايات المتحدة وحلفائها/ أتباعها الأوروبيين. على أن متابعة دقيقة للسياسة الخارجية الأميركية في السنوات الماضية، ستقود إلى الاستنتاج بأن أصحاب الرأي الثاني أكثر تأثيراً في صياغة تلك السياسة ووضعها موضع التنفيذ. هال براندز، أستاذ الشؤون العالمية في جامعة «جون هوبكينز»، والزميل الرئيس في مركز «أميريكان إنتربرايز إنستيتيوت»، وأحد المتخصصين البارزين في الشأن الصيني، هو من بين رموز الرأي الثاني، واختار لمقاله على موقع «بلومبيرغ» عنواناً لافتاً: «الصين وروسيا وإيران يحيون زمن الإمبراطوريات». باختصار، يظن براندز أن التنازع بين الإمبراطوريات كان أحد أهم محركات التاريخ العالمي، وأن القرن الـ20 شهد انحداراً ثم انهياراً لهذه الأخيرة في أنحاء أوروبا وآسيا، تزامناً مع توسّع نفوذ و«إشعاع» الإمبراطورية «الحميدة»، التي لم تعمل وفقاً له، على عكس من سبقوها، على إخضاع ونهب بقية أمم وشعوب العالم الذين وقعوا ضمن دائرة نفوذها، بل أسهمت في ضمان أمنهم واستقرارهم وازدهارهم! وبمعزل عن مدى فجاجة هذه السردية الأيديولوجية وبدائيتها عند محاولتها حجب التاريخ الدامي المعروف للإمبريالية الأميركية، فإن مضمونها الخاص بالموقف من القوى غير الغربية الصاعدة، أي روسيا والصين وإيران، «ذات الماضي الإمبراطوري، والتي تسعى إلى إحياء أمجاده الغابرة»، يشي بحقيقة قناعات قطاع وازن من النخب الأميركية، وبينها أقطاب في إدارة جو بايدن، بالنسبة إلى كيفية التعاطي مع هذه القوى. يقول براندز إن «الأحلام الإمبراطورية تموت بصعوبة، والتاريخ الجيوسياسي للقرن الـ21 حتى الآن هو تاريخ محاولات مجموعة من الأتوقراطيات الطموحة والحاقدة على النظام الليبرالي الدولي الذي تقوده واشنطن، لإحياء مجدها الإمبراطوري. يظهر هذا الواقع مدى قوة وخبث الموروثات التاريخية. الإمبراطوريات السابقة التي نجحت في التكيف مع العالم المعاصر هي تلك التي استطاعت تجاوز محنة فقدان العظمة، كألمانيا واليابان وبريطانيا... أما التي تثير القلاقل اليوم، فهي تلك العازمة على إحياء أمجادها وتصفية حسابات الماضي».
بكلام آخر، مشكلة واشنطن، ومعسكرها الغربي هي مع الأمم - الحضارات (يسميها براندز إمبراطوريات)، التي لا ينطبق عليها تعريف الدولة - الأمة الغربي، والتي نجحت في خلق إجماعات داخلية، بالاستناد إلى المخزون الثقافي والتاريخي لشعوبها، حول تطلعاتها العميقة إلى الاستقلال والنهضة واحتلال المكانة التي تستحق على المستوى الدولي. صيرورتها أقطاباً دولية أو إقليمية، عبر بناء شبكة واسعة من الشراكات أو التحالفات، ومعارضة أو حتى المناهضة الفاعلة للسياسات الأميركية والغربية في أكثر من ملف، هي دوافع كافية للصدام معها ومحاولة احتوائها وزعزعة استقرارها. الأنكى بالنسبة إلى واشنطن هو أن نجاح أي منها في تحقيق انتصار ولو محدود في المجابهة معها سيحفز البقية لتحذو حذوها. انتصار روسيا في الحرب في أوكرانيا مثلاً، سيزيد من صلابة موقف الصين حول موضوع تايوان وحقها في استكمال وحدتها الترابية عبر استعادة سيادتها عليها، ومن تصميم طهران على حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية والتحرر من ترسانات العقوبات الظالمة المفروضة عليها والمضي في دعمها للقضايا التي تراها عادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وتعزيز تحالفاتها مع القوى التي تشترك معها في الأهداف نفسها. خروج إيران منتصرة من مواجهتها الحالية مع المحور الإسرائيلي - الغربي، ستكون له أيضاً انعكاسات إيجابية بالنسبة إلى روسيا والصين، إذ يحفزهما على حزم أكبر في مقابل الصلف الأميركي والغربي. وكما لعبت انتصارات بعض حركات التحرر، مع بدايات انحسار الاستعمار القديم، دوراً مشجعاً لحركات تحرر أخرى لتصعيد النضال ضد المستعمرين، مثلما حصل مثلاً في الجزائر بعد انتصار الفيتناميين على الاستعمار الفرنسي، فإن لأي انتصار، ولو محدود، ضد الولايات المتحدة وحلفائها في زمن انحدار الهيمنة الغربية، «أثراً معدياً» على خصومها.
ارتبطت ديمومة السيطرة الغربية على الإقليم العربي - الإسلامي بفرض استمرار التجزئة بين دوله وشعوبه، ومنع أي مشاريع للوحدة أو للتعاون والتضامن بينها، بالقوة والتدخل العسكري المباشر في الكثير من الحالات، ضد الطرف المؤهل لقيادة مثل هذه المشاريع. الإجهاز على تجربة محمد على باشا في مصر في أواسط القرن الـ19 من قبل بريطانيا، وتكالب الغرب الأورو-أميركي ضد مشروع جمال عبد الناصر و«تيار القومية العربية» في النصف الثاني من القرن الـ20، ثم العداء المسعور ضد «الثورة الإسلامية» في إيران منذ 1979، وسياسة الحرب بالوكالة أو عبر اعتماد تكتيكات تلك الهجينة ضدها، تتصل جميعها بثابت من ثوابت الإجماع الإستراتيجي الغربي، وهو الحؤول بأي وسيلة دون توحد دول المنطقة أو في الحد الأدنى دون التعاون والتكامل الجدي في ما بينها. وفي زمن الانحدار الغربي، فإن مثل هذه التوجهات تصبح أكثر شراسة. الحفاظ على الأداة الإسرائيلية في مثل هذه الظروف ضرورة إستراتيجية، مهما كانت الخلافات معها حول كيفية إدارة التطهير العرقي والوتيرة الأنسب لذلك!