2024-05-01 10:33 م

القضية الفلسطينية… صحوة وعي عالمية

بقلم: د. نادية هناوي
إذا كان لأحد أن تزعجه مقولة «التاريخ لا يعيد نفسه» فإن الصهيونية ستكون هي هذا الأحد، لأن ما كسبته بالمكر والخداع وما حققته بالدسيسة والمؤامرة خلال مئة عام ويزيد يجعلها تتطلع إلى أن تعيد الكرة فتغتصب مزيدا من الأراضي العربية وبذات الأباطيل وبالوتيرة نفسها من الطمس والتزوير باتجاه بلوغ حلمها بالسيطرة على فلسطين كلها. هذا ما تؤكده حربها الشرسة على أهل غزة الأبرياء بقصد إبادتهم إبادة جماعية، لكن حقيقة أن التاريخ لا يعيد نفسه صَدَمتها، فالجرة لا تسلم في كل مرة، وأحوال الحياة تغيرت، والعالم صار متواصلا في شرقه وغربه أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان قبل عقود أشبه بالقرية الصغيرة، فإنه اليوم بشبكات الإنترنت والتكنولوجيا الفائقة وشاشات الفضائيات بيت صغير، ما أن يحدث شيء في ركن منه إلا وتعلم الأركان الأخرى بما يجري فيه. وبعد عملية طوفان الأقصى استيقظ هذا العالم على بربرية الرد الصهيوني؛ بربرية قادمة من دهاليز العصور المظلمة، يمثلها كيان مدعوم بالإمبريالية العالمية، وما من يوم يمضي حتى تكون صورة البشاعة الصهيونية أكثر وضوحا وجلاء.
لقد كان الفرد الغربي قبل طوفان الأقصى غافلا عن الحقيقة، مصدقا ما تزوق الصهيونية به نفسها من أباطيل، متصورا أنه يعيش عصر التحضر والليبرالية والمناداة بالعدالة والمساواة بيد أن الطوفان أيقظ فيه الغفلة فاصطدم بغرب امبريالي يدعم الصهيونية بلا حدود، يزودها بكل الأسلحة الفتاكة التي تساعدها على ممارسة إجرامها قتلا وتشريدا وترويعا وبشكل لا سابق له في التاريخ الحديث.
لقد اعتادت الصهيونية على مدى العقود الماضية أن تجد تعاطفا واهتماما من لدن الرأي العام الغربي لكنها اليوم خسرت هذا كله فانقلب دجلها عليها وعلى داعميها الذين حيرتهم صحوة شعوبهم الشاجبة للعدوان الصهيوني على غزة، وأرعبتهم ردود فعل الجماهير الغاضبة التي صاروا يجدونها في كل مكان؛ في المطارات ومحطات المترو والساحات العامة فأخذوا يحسبون لها حسابا في حركاتهم وسكناتهم وسياساتهم وإلا فإن تناقضهم سينكشف ما بين دعمهم لحقوق الإنسان و(الحيوان) وبين دعمهم الفعلي للإرهاب والإجرام. ولذلك سارع كثير من ساسة الغرب إلى تغيير مواقفه من العدوان الصهيوني، وبعض منهم غير خططه التكتيكية استجابة لصحوة الوعي العالمي التي انطلقت بسبب العدوان البربري على غزة.
إن هدير الحشود المليونية الداعية في كل يوم إلى وقف الإبادة الجماعية تُقلق صناع الحروب وتجار الدماء وتكشف حقيقة الدعم غير المحدود للقمع والجريمة والأباطيل التي ما عادت تنطلي على الشعوب وهي تتابع مجريات العدوان الهمجي وتشاهد الصور الكارثية بحق المواطنين العرب العزل.
أضحت القضية الفلسطينية اليوم لا قضية الشعب العربي وحده، ولا هي مسألة وطن ووجود فقط، بل هي أيضا قضية الشرفاء في كل أنحاء العالم، هي قضية الحق ضد الباطل، والصدق ضد الزيف، قضية رأي عام عالمي.
إنها صحوة الرأي العام العالمي الذي كان نائما لأكثر من مئة عام، عانى خلالها شعبنا العربي في فلسطين من ويلات الاحتلال الصهيوني وقوانينه اللاإنسانية التي سنها وتعسف أشد التعسف في مزاولتها منذ عام 1948 وبها استلب بالقسر والعنف الأراضي العربية، ممارسا أساليب همجية في طرد العرب من قراهم ومدنهم. ففي عام واحد هو 1948 دمر الصهاينة أكثر من 250 قرية عربية. آنذاك ما كان الرأي العام العالمي يلتفت إلى أحابيل الصهيونية وشيطنتها في زرع الفتن والنزاعات السياسية والطائفية كما لم يكن يدري أن احتلال فلسطين هو الهدف المركزي الذي من أجله قامت الحركة الصهيونية وليس كما يزعمون عودة إلى أرض موعودة. والرأي العام العالمي ما كان يرى كيف أنه خلال عشر سنوات 1948-1958 تم الاستيلاء على أكثر من مليون دونم من أراضي العرب بقوانين عسكرية لا إنسانية مثل قانون ساعة الطوارئ 1949 وقانون أملاك الغائبين 1950 وقانون الاستيلاء على الأراضي ساعة الطوارئ.
ما كان الرأي العام العالمي يدري أن عملية استلاب الأراضي أضرت بزراعتها وتركت جيلا من العرب عاطلين عن العمل لتقام بدلها كيبوتسات ومستوطنات خراسانية محصنة بالجدران الكونكريتية. وما كان الرأي العام يعلم بقضية اللاجئين التي تفاقمت بعد تشريع قانون تقادم الزمن الذي أُريد به قطع أي أمل بعودة اللاجئين إلى فلسطين؛ موطنهم ومولدهم ومنشأهم وفضاء ذاكرتهم الفردية والجمعية. اليوم أدار العالم كله أنظاره صوب فلسطين، صوب المعاناة والمأساة، صار الرأي العام العالمي يعرف ما يجري في فلسطين، ولذلك ما أنفك هدير المظاهرات المحتجة والشاجبة للوحشية الصهيونية يعلو يوميا في عواصم العالم ومدنه الكبيرة والصغيرة، محطما جدار الهولوكوست -الذي ظلت تقيمه الدوائر الصهيونية أمامها- وناصر صوت الحق، صوت الشعب المظلوم، صوت فلسطين المسلوبة.
لا صوت يعلو اليوم في كل أرجاء الأمريكيتين وآسيا وأفريقيا سوى صوت الحق الهادر والمنادي بإنصاف شعبنا الفلسطيني وإعادة الحق إليه في تقرير مصيره وإقامة دولته الحرة المستقلة. حطم الرأي العام العالمي بصحوته جدارا طالما عزله عن القضية العادلة وحال دون أن يسمع معاناتها.
أنها صحوة وعي عالمية أو هي انتفاضة الضمير الإنساني من تحت ركام الواقع المخيب للآمال والمهيج للآلام بعد تلك الصدمة الكبيرة بالانحياز العرقي التي كشفت عنها حرب روسيا وأوكرانيا، فادهشنا احتضان الأوروبيين للاجئين الأوكرانيين وفهمنا أنهم يتعاطفون مع عرقهم الأبيض وسحنات وجوههم وقسماتهم وشعرهم الأشقر وعيونهم الزرق والخضر. الآن تستقيم المعادلة ويعتدل الميزان.
لقد غُصِب الشعب المظلوم منذ ثلاثة أرباع القرن قتلا وتشريدا وتصفيدا وتجويعا لكن غضبه لم يصل العالم المغشوش بمكائد الصهيونية وفكرها ودسائسها الخبيثة التي لا قبل لنا كأمة لا تملك إرادتها بمواجهتها، فكانت فلسطين مغيبة، يقول ادوارد سعيد:( إن فلسطين بالنسبة لأي شخص يعيش في الغرب ليست (قضية) ومع ذلك فإن الاعتراف بذلك مغامرة في مجال غير مألوف نسبيا بالنسبة لعدد كبير جدا من الذين يقرأون الصحافة الغربية ويشاهدون التلفاز ويستمعون الى الراديو.. وأغلبية كبيرة من الأدبيات المتعلقة بالشرق الأوسط في الأقل حتى عام 1968 تعطي انطباعا بأن جوهر ما يجري في الشرق الأوسط هو سلسلة من الحروب التي لا تنتهي بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل).
بهذا الشكل كان التعتيم كبيرا على القضية الفلسطينية لكن طوفان الأقصى كان هادرا فكانت الصحوة عالمية، لا على الصعيد الشعبي والجماهيري أو صعيد الفكر المستنير الحر الذي يمثله مفكرون وأدباء وفنانون وعلماء، بل أيضا على الصعد الرسمية للحكومات فقد قطعت كل من بوليفيا وجنوب افريقيا وتشيلي علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وما من حكومة تبادر إلى إعلان مقاطعتها حتى تعلن دولة أخرى عن نيتها في المقاطعة.
وبالأمس هددت كولومبيا الكيان الصهيوني بقطع العلاقات معه، كولومبيا بلد ماركيز فكأن وعي كاتبها كامن في قرارات شعبه وحكومته وهي تنذر الكيان بقطع العلاقات إن هو واصل عدوانه الغاشم على شعب غزة. حقا كان الثمن باهظا والتضحيات جسيمة، عشرات الآلاف من الشهداء وضعفهم من المصابين وأضعاف أضعافهم من المشردين؛ هل كان لزاما على الشعب الفلسطيني تقديم كل هذه التضحيات حتى يصحو الضمير العالمي ويدرك حقيقة قضيته؟
ويتغطرس الصهاينة بالتقليل من هذه المواقف العالمية ويصورونها زورا وبهتانا بأنها كيت وكيت…إلى آخره من الأوصاف الفارغة وهم بذلك يحولون أنفسهم إلى هزأة أمام العالم. فمثلا علق مسؤولون صهاينة بأن موقف كولومبيا وصمة عار عليها، أية وصمة عار أكبر من وصمة العار بقتل الأطفال والشيوخ والنساء العزل؟! أية وصمة عار أكبر من الشروع في الإبادة الجماعية بأفتك الأسلحة أو بقطع الغذاء والدواء؟! هذه الفظائع هي التي دعت العالم المتحضر إلى الصحوة والخروج من حالة التخدير التي حقنته بها الدوائر الصهيونية. لتكون فلسطين هي القضية التي فيها العلاج الشافي والدواء الكافي ليبرأ الرأي العام من المرض الفتاك الذي أصابه من جراء التضليل الصهيوني والمتمثل بـ(معاداة السامية والهولوكوست) وهل يسوغ هذا لوحده اضطهاد شعب آخر وقتله وإبادته والقضاء على عرقه كما حصل للهنود الحمر؟
*كاتبة من العراق