2024-05-17 12:55 م

دبلوماسية المائدة.. تاريخها وفلسفتها ومدارسها

رغم أن موائد الطعام كانت جزءًا لا يتجزأ من ثقافة البلاط في العصور الوسطى، إلا أن السياسيين والقادة في عصرنا الحالي نقلوها إلى مستوى جديد تمامًا، فأصبحت عنصرًا فاعلًا ضمن الدبلوماسية العامة أو الثقافية، وهي قوة ناعمة قائمة على تبادل الفنون وتقاليد الأمم، تؤثر في الأشخاص وتعزِّز التفاهم والتوافق بين الملوك والرؤساء، والغرض الأساسي منها هو تحقيق الأهداف التي تعجز عن تحقيقها القنوات الدبلوماسية الكلاسيكية.

في ملف "دبلوماسية المائدة"، يطرح "نون بوست" جملة من التقارير التي تستعرض أهمية الطعام في تشكًّل القرار السياسي والعلاقات الدولية، وتأثيره الثقافي والحضاري والاجتماعي، إضافة إلى قدرته على تعزيز مكانة الدول على المستوى الاقتصادي، كما ينقل إليكم لمحة عن الأطعمة المفضَّلة للرؤساء والملوك وعاداتهم الغذائية.

دبلوماسية المعدة
التعريف الأكثر وضوحًا لـ Gastrodiplomacy هو استخدام الممارسات الغذائية كأداة للقوة الناعمة، بهدف تنسيق العلاقات الدولية وتطويرها من خلال الربط المنطقي بين الجغرافيا السياسية للغذاء والعادات والتقاليد، أي أنها جزء لا يتجزّأ من الدبلوماسية الثقافية التي تحلِّل احتياجات البلدان وتدفقاتها الإنتاجية على كل المستويات، والنظر في قنوات التواصل المتاحة لإقامة اتفاقات وصفقات بينية.
هي أيضًا دبلوماسية مستحدَثة تقوم على نظرية التأثير والإقناع بالإغراء بدلاً من القوة بأشكالها الكلاسيكية، فعلى طاولة الطعام يُمكن فهم النزاعات بأبعادها السياسية والاقتصادية أو الدينية، وطرح الحلول لهذه الإشكالات، فالغذاء يسهّل عملية التواصل والاتصال ويُخفض من منسوب التوتر ويفتح أبواب التوافق على مصراعَيها.

في الجانب ذاته، يُعرَف هذا النوع من الدبلوماسية بأسماء من قبيل "دبلوماسية الطهي" أو "دبلوماسية المعدة" أو "دبلوماسية المائدة"، وعلى مرِّ التاريخ برزت نماذج وأمثلة أثبتت دوره الكبير في تعزيز السطوة والرفعة وكذلك السلم ونشر ثقافة التعايش بين البشر.

نشأتها
تاريخيًّا، يُعدّ المطبخ في الحضارة الإنسانية مرآة عاكسة لدرجة التحضر والوضع الاقتصادي، فكلما انتقلت الحياة البشرية من البدائية إلى التطور والرفاهية، تغيّر الأكل وتلوّنت الموائد وتفنّن الطهاة في إعداد الوصفات، لذلك كانت قائمة الطعام عند المصريين القدامى (الفراعنة) أو العرب مشابهة تمامًا للبيئة ومقترنةً بالحضارة، فهي لم تخرج في بدايتها عن استغلال ما يحيط بهما من نباتات وحيوانات.

الروايات والحكايات الشائعة في المصادر تُثبت وتُبيّن شغف العرب، خاصة الأمويين والعباسيين، في محاكاة الأبّهة والتأنُّق العظيم لملوك كسرى في مظاهر الترف والمدنية التي عرفوها، من خلال إبداعهم في أنواع الأطعمة والأشربة وإكسسوارات المائدة.

تطورت الموائد تدريجيًّا في بلاد فارس والأندلس وأوروبا، خاصة في فرنسا وإنجلترا زمن ريتشارد الثاني المهووس بالحكم عن طريق الالتزام بالانضباط المجتمعي وبروتوكولات الإتيكيت، ليقينه بأن المعدة أصغر طُرُق أسر القلوب، لذلك لم يتوقف هذا الملك عن إغراق ضيوفه وحلفائه بوصفات الطعام الشهية التي جُمعت لاحقًا في كتابٍ واحد.

في السياق ذاته، شهد القرن الرابع عشر الميلادي طفرة علمية واجتماعية خاصة مع بداية عصر النهضة في أوروبا، والذي تطورت فيه الفنون بأشكالها في شتى بقاع القارة العجوز، ولم يكن فنّ الطهي بمعزلٍ عن هذه النقلة النوعية، فظهر تقليد غداء العمل عند الفرنسيين وعادة استخدامه لأغراض سياسية قبل نشوء مدارسه وأساليبه في شكله الحالي.

فلسفتها
بدأت مصطلحات "دبلوماسية الطهي" و"دبلوماسية المعدة" تُستخدَم منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وقد تمَّ تعميمها من قبل عالِمَي الدبلوماسية العامة بول روكاوير وسام تشابيل سوكول.

يتم استخدام المصطلحَين "دبلوماسية الطهي" و"دبلوماسية المعدة" من قبل الكثيرين، رغم أن بعض العلماء قد فرّقوا بين المصطلحَين، روكوير يدّعي أن Gastrodiplomacy يشير إلى أداة الدبلوماسية العامة، في حين أن دبلوماسية الطهي بمثابة "وسيلة لتعزيز البروتوكول الدبلوماسي من خلال المطبخ"، فيما كتبَ تشابل سوكول أن كلاهما يندرج تحت التصنيف الواسع لـ"دبلوماسية الطهي"، وفرّقَ بين دبلوماسية الطهي العامة والخاصة.

يُشير الأول إلى استخدام دبلوماسية الطهي كأداة للدبلوماسية العامة، وبشكل أكثر تحديدًا الدبلوماسية الثقافية، في حين أن الثانية "تحدث خلف الأبواب المغلقة" على غرار تعريف روكوير.

اليوم نشهد تطورًا ملحوظًا لعلاقة مختلفة بين الدبلوماسية وفنّ الطهي التي ظهرت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد تمَّ تعميدها بمصطلح غير أنيق إلى حدٍّ ما هو Gastrodiplomacy، لكنها في كل الأحوال إحدى الاستراتيجيات الجديدة التي تقوم عليها العلاقات العامة التي تتطابق مع برامج الحكومات الترويجية لبلدانها كعلامة تجارية.

لذلك، إن الهدف الأساسي من دبلوماسية المعدة هو التعريف بالدولة من خلال مطبخها وتشجيع الاستثمار وتطوير التجارة والسياحة، إضافة إلى التأثير والإقناع في المحافل السياسية الرسمية، وقد وضعت العديد من البلدان استراتيجيات لهذا الغرض وأطلقت في بعض الأحيان موارد كبيرة وأنشأت مؤسسات متخصِّصة في هذا المجال.

مدارسها
قبل أعوام قليلة، أطلقت بعض الدول برامج ومشاريع هي الأولى من نوعها، مخصَّصة لدراسة تأثير الطهي والثقافة الغذائية في العلاقات الدولية، ودور دبلوماسية المطبخ في تعزيز النفوذ الدولي كإشعال أو إخماد الصراعات.

الاهتمام الواسع بالدبلوماسية الجديدة المستحدثة، دفعَ كثير من الدول في العقود الأخيرة إلى إطلاق برامج حكومية للترويج لأسلوب شعوبها في الطهي، وتقديم الوجبات التقليدية والدروس في فنون الإتيكيت وإدارة المحافل الرسمية، ومن بينها تايلاند والدنمارك واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية.

تايوان: في عام 2010 أطلقت تايوان حملة دبلوماسية للطهي بقيمة 20 مليون جنيه، والتي أكّدت على العناصر الثقافية مثل الأسواق الليلية في تايوان والأطباق والمشروبات مثل شاي الفقاعات وعجة المحار.

عملت تايوان على استخدام دبلوماسية الطهي إلى جانب التسويق التقليدي لتعزيز قطاع السياحة فيها، ما سمح لها بممارسة دبلوماسيتها في البلدان التي كانت تُواجهُ فيها تقليديًّا تحديًا بسبب اعترافها الدولي المحدود.

تايلاند: أطلقت برنامج Global Thai عام 2002، وهي مبادرة دبلوماسية برعاية الحكومة تهدف إلى زيادة عدد المطاعم التايلاندية في جميع أنحاء العالم إلى 8 آلاف بحلول عام 2003 من حوالي 5500 في السابق، وبحلول عام 2011 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 10 آلاف مطعم تايلاندي في جميع أنحاء العالم.

يهدف برنامج Kitchen of the World في نسخته الإلكترونية، من وجهة نظر إدارة ترويج الصادرات، إلى دعم المطاعم التايلاندية التي تتمتّع بإمكانات تجارية جيدة، وتطويرها للحفاظ على مستوى عالٍ من الاعتراف الدولي.

تعمل إدارة ترويج الصادرات في وزارة التجارة التايلاندية على دعم خطط بعث المطاعم، وتقدِّم قروضًا للمواطنين بهدف فتح مطاعم في الخارج، كما أنشأ البلد الآسيوي بنك تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة في تايلاند لتسيير قروض تصل إلى 3 ملايين دولار أمريكي للخارج.

كوريا الجنوبية: أطلق البلد الآسيوي برنامجًا دبلوماسيًّا للطهي الخاص به عام 2009، وهو استثمار بقيمة 77 مليون دولار بعنوان "المطبخ الكوري للعالم" أو "الهانسيك العالمي"، ويهدف البرنامج الذي تديره وزارة الأغذية والزراعة والغابات ومصايد الأسماك، إلى تعزيز الطبيعة الفريدة والصفات الصحية للمطبخ الكوري، بالإضافة إلى زيادة عدد المطاعم في جميع أنحاء العالم إلى 40 ألفًا بحلول عام 2017.

 

وتشمل المشاريع التي نفّذتها الحكومة الكورية افتتاح معهد كيمتشي، والعمل على إنشاء المطبخ الكوري ضمن المدارس المعترف بها دوليًّا، وإطلاق جولة كورية عالميًّا.

ماليزيا: منذ عام 2010 نفذت ماليزيا مشروعًا مشابهًا من خلال تشغيل برنامج Malaysia Kitchen، أطلقته شركة ماليزيا لتطوير التجارة الخارجية، ويضع معظم جهوده للترويج للمطبخ المحلي في أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا.

تُعدّ ماليزيا بلدًا مناسبًا بشكل خاص لإجراء دبلوماسية الطهي، نظرًا إلى تاريخها وعاداتها التي تمتزج فيها أعراق مختلفة من السكان كالملايو والصينيين والهنود، كما استخدم البرنامج طهاة مشهورين مثل ريك شتاين ونورمان موسى في المملكة المتحدة، ما ساهم في زيادة الوعي بالمطبخ والمطاعم الماليزية من خلال الترويج للمنتجات وعروض الطهي في محلات السوبر ماركت ومهرجانات الطعام والسوق الليلي السنوي في ميدان ترافالغار بلندن.

بيرو: بدأت برنامجًا دبلوماسيًّا في الطهي عام 2011، وذلك بعد طلبها إدراج مطبخها في قائمة اليونسكو الخاصة بالتراث الثقافي غير المادي، واستخدمت أشهر الطهاة في الترويج لحملة Cocina Peruana para el mundo، كالشيف غاستون أكوريو صاحب العديد من المطاعم في جميع أنحاء العالم، إلى جانب الإسباني فيران أدريان.

 

الولايات المتحدة: أطلقت رسميًّا مبادرة شراكة دبلوماسية الطهي في عام 2012، وتمَّ تسمية أكثر من 80 طاهيًا، بما في ذلك الشيف التنفيذي للبيت الأبيض كريستيتا كومرفورد، وطاهي المعجنات التنفيذي السابق بالبيت الأبيض ويليام يوسيس، والشيف الإسباني المولد خوسيه أندريس، أعضاءً في American Chef Corps.

تمَّ تنظيم المبادرة من قبل مكتب البروتوكول في وزارة الخارجية الأمريكية، ويهدف هذا البرنامج إلى إرسال أعضاء من Chef Corps إلى السفارات الأمريكية في الخارج في مهمات الدبلوماسية العامة للتعريف بالمطبخ الأمريكي.

نشوء هذه المدارس دفعَ بالدبلوماسية الفرنسية إلى التحرك لمواجهة خطر فقدان المطبخ الباريسي بعضًا من نفوذه التاريخي والأسطوري، وإثبات مكانتها في هذا الفن المدرَج على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2010، إلا أن إطلاقها لشعار "مذاق فرنسا الجيد" قد لا يُغري من على طاولتها في حال فشل طاهي السياسة استثمار أطباق شيف الإليزيه.

تجارب عربية
إذا كان الغرب قد أسّسَ لدبلوماسية الطعام من منظور اتصالي ودعائي على مستوى السلطة، فإن تجارب العرب في هذا المجال كانت أعمق بأبعادها القاعدية المتعددة كالهوية الثقافية والحضارية، وأكثر تأصيلًا لمفهوم المقاومة والوطنية، فدبلوماسية المطبخ أعطت للفلسطينيين حيزًا كبيرًا لمحاصرة تمدُّد الاحتلال خارج الجغرافيا السياسية.

مطبخ فلسطيني مقاوم: ساهمت دبلوماسية الطعام الشعبية، أي تلك التي يقودها الأفراد في شكل مبادرات شخصية، في محاصرة الاحتلال الذي انتقل من مرحلة انتزاع الملكيات المادية للفلسطينيين كالأرض والبيوت، إلى مرحلة الاستيلاء على الإرث اللامادي كالتاريخ والثقافة (أطباق الطعام)، وفي تصحيح المغالطات التي يسوّقها المحتل في الخارج، وفي التعريف بالهوية الثقافية الفلسطينية وموروثها الحضاري من خلال الترويج للأطباق التقليدية وأشهر المأكولات.

التحول في سلوك المحتل قابله تحول في شكل المقاومة وأنماطها، فالأمر لا يستحق من الفلسطينيين التقاط الحجارة لرمي الجنود، هذه المرة يمكن رجمهم بالأقلام (الكتب) والمدوّنات، فهي أشد وقعًا وتأثيرًا، حيث لا يستطيع المحتل فرض بوّاباته أو إقامة جدرانه العازلة.

لذلك، يمكن القول إن دبلوماسية الطعام الفلسطينية حقّقت ما عجز عنه السياسيون، وانتصر المقاومون في أكثر من معركة خاضوها في الخارج، فالبداية كانت بكتاب "فلسطين على طبق" (240 صفحة) للطاهية المقيمة في لندن جودي القلا، التي لم تكتفِ بإصدار الكتاب وافتتاح مطعم للتعريف بتاريخ فلسطين الثقافي، فوسّعت مشاريعها وأدارت شركة متخصِّصة في تقديم الطعام للشركات والأفراد، وأنشأت تطبيقًا خاصًا للغرض.

فداء أبو حمدية، سفيرة أخرى للمطبخ ودبلوماسية تُقاوم لمكافحة السرقات الإسرائيلية للأكلات الفلسطينية، تخرّجت عام 2009 بأطروحة عن "الأكل الفلسطيني بين الوطن والشتات"، أنشأت عام 2011 مدونة خاصة بها، وبدأت تكتب مقالات بالإيطالية عن الطعام الفلسطيني، تاريخه وأصوله، في إحدى الصحف الإيطالية، بعنوان "الطعام والهوية" تحدّثت فيها عن فلسطين المحتلة وطعامها وعاداتها.

قادت فداء فريقًا ضمَّ 4 باحثين إيطاليين أثناء زيارتهم إلى فلسطين المحتلة، حيث شاركوا بجولة لتدوين وصفات الطعام في مدن الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، ليتمَّ توثيق الجولة في كتاب أُصدر عام 2016 تحت عنوان "مطبخ فلسطين الشعبي" (POP Palestine Cuisine).

إشعاع لبناني: تحاول لبنان جاهدة أن تكون من ضمن الدول الصاعدة في مجال الابتكار، لدعم الحركة السياحية والتواصل الدائم مع العالم الخارجي، من أجل المحافظة على مكانتها تحت الأضواء كمقصد سياحي والخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

إعادة الروح للاقتصاد وإنعاشه بيد المطبخ اللبناني الذي يعدّ من بين أول 5 مطابخ عالميًّا، لذلك يعمل البلد على تطوير إمكاناته التسويقية لمنتجاته الغذائية وتعزيز قدراته التنافسية، وهو ما تأكّد في مؤتمر الطاقة الاغترابية الخامس (2018)، حيث كان مفهوم الـ"غاسترو- دبلوماسي" عنوانًا أساسيًّا على أعماله.
المصدر: نون بوست|أنيس العرقوبي