كتب فاروق مواسي
في الثامن من تموز 1972 اغتيل الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وقد ألفيت نفسي يومها أكتب الحدث قصة قصيرة ليست يسيرة الفهم (فانتازيا) ففيها خلط صور، وانتقال لقطات، وفيها حزن مستشف على أبي فائز، وها أنا أضع النص كما كتبته، عسى أن يصبر عليه القارئ الجاد، حتى ولو لم يكن هذا النص سردًا متواصلاً.
أمام المرآة ... إلى غسان كنفاني
لم تكن بعيدة عنه، مستلقية بوضع يثير شهيته، تبدى من ساقها البيضاء جزء يجذب النظر، كانت قد فرغت من القراءة، وأرخت أجفانها مستسلمة لهدأة طويلة، فتوترت أعصابه، وسمع صوت نبضه .
دخل إلى الغرفة القريبة، نزع عنه ثيابه، ثم قرأ الفاتحة وبعض السور القصيرة:
" إذا قرأت سورة الصمد مائة مرة يطلع لك ولي صالح يلي طلباتك وسعده بين يديك " .
ولكنه لم يقرأ السورة إلا ثلاث مرات، فإذا بثلاثة أولاد يخرجون من الأرض .
- أنت معلم، علمنا الحساب " !
- لا أتقنه .
- علمنا اللغة العربية، قواعد، شعر ...
صفع الأول كفًا، وركل الثاني برجله، وضرب الثالث بعنف، و قعد يدخن.
وبعد أن لبس ثيابه عاد ليراقب الفتاة النائمة .
دنا منها بحذر وعلى رؤوس أصابعه.
فتح الراديو، وأخذ يستمع إلى أخبار فيتنام ... درجات الحرارة المتوقعة ...
لا حاجة !
أغلق الراديو واستمع إلى صوت أخر :
- تعالي إلى شاطئ البحر .
- إن رافقتك هل تُرْكِبُني زورقًا ؟
- نعم . أي زورق، سنتجول حتى جزيرة قبرص .
ندّت عنها سعلة على أثرها أنطلق إلى المراَة .
أخرج لسانه ووقف ينعم النظر في سحنته الغربية، رسمها بأشكال مختلفة : مبتسمة، مكشرة، هازئة، وكيف تنفرج البسمة إلى ضحكة تطلق بصوت عال .
واختلطت القهقهة بصوت الولد الذي يبكي بعد أن صفع .
افتقد الولد الثاني الذي ركله في الموضع المناسب، فقد تسلق هذا على ظهره، وألقى بيده حول رقبته .
- إني أريد أن أتعلم .
- دعني أسمع أخبارًا .
لن تسمع شيئًا، والأخبار تعاد للمرة الثامنة .
تناول قرص إسبرين، وألصقه على جبهته .
لم تتغير الدنيا .
رأى في المرآة عمال المدينة يسيرون في الموعد نفسه، ويلتقون في المساء مع عشيقاتهم، يعِدوهن بالزواج، ويقذفون دموعهم البيضاء بين نهودهن .
يُقتل أبو فايز .
أبو فايز يُقتل.
يقتل والجماعة تمارس الرذيلة، ولا يكلف الواحد منهم أن ينظر إلى مرآة نفسه .
عندما جاء أبو فايز إلى القرية كانت أم مسعود لا تتقن " لخّ " العجين، وأبو مسعود لا يتقن مضاجعتها .
ومع ذلك فقد اختار ليلة باردة وكان حزينًا . دنا من أم مسعود، ولم يبال
بنصيحة مسعود أن يؤجل المسألة، ولم يبال بصرخة مسعود :
- يا أبي لماذا تنجب جبانًا ؟
ضحك أبو مسعود وقذفه حتى يضبط الحساب، ويولد مسعود في تشرين مجنيًا عليه .
جاء أبو فايز إلى القرية بعد العشاء بقليل، والسراج مطفًا ومّر على كل الدور، غنى مسعود لأمه:
" يمه اندهي له، حبي مرق من هين، وأنا أحكي له بس أطلعي بره " .
اضطجعت النائمة على جانب جديد، بدا الشكل مغريًا أكثر : شفتان لا حاجة لوصفهما أكثر من أنهما تدعوان إلى طعام خاص ...كل ما في الأمر أن المرآة كانت تنظر إليه هذه المرة .
أخرجت المرآة أوراقها وجعلت تقرأ .
وتعلم الولد الذي كف عن البكاء : راس، روس، دار، دور .
لا راس ولا دار بعد اليوم .
تصورْ أن تكون جثة بلا رأس، شخصًا بلا دار، وريقك جف ولا تشرب سوسًا، ويقال لك " قم عن الأكل وبك خصاصة " ويحفظ الولد (إذا زلزلت الأرض زلزالها) . فيقول الإنسان (مالها ؟؟؟!) متلهفًا قبل إتمام الآيات والجواب:
( إن ربك أوحى لها).
(يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليًُرَوا أعمالهم) .
والذي أوحى يعرف قطعًاَ أنهم صدروا أشتاتًا قبل أن تُحْرج الأرض أثقالها، وهو يعرف أن أبا فايز عندما مر وحيّا خرج من أثقالها، وهو يعرف أن أبا فايز عندما مر وحيّا من بعيد أو قريب لم يحفل به أحد، والرب لم يحتمل هذا التعبير " شريك له " إلاّ في حالة واحدة : عندما اشترك مع أبي فايز في مشروع السنوات العشرين .
تقلبت النائمة بشكل أجمل، نفر الآن صدرها العامر الأبيض .
وعندما دنا منها أكثر ضغط الولد – الذي ما زال متعلقًا على ظهره – على حلقومه .
- قومي نرقص .
- يا الله، ولكن احضنّي بقسوة، وبعد ذلك تلقمني، تشربني، سنرقص، وها
يدي على خاصرتك، والثانية على كتفك .
الأنوار انطفأت، الموسيقى صارخة، الفم يتجول في مناطق أوربية جديدة، مكث طويلاً في سويسرة، تسلق أدغال المناطق الشمالية، وامتص رحيق أزهار ضفاف الراين .
لم يكن أبو فايز جاهلاً بالشرَك، كان يتوقعه يومًا يومًا، كان يعرف أنه لا بد من أن يقتل .
قبّل فايزًا واحتضنه وأوصاه خيرًا : أن يطيع المعلم، ويحترم أمه، ولا يضرب أخته، وأن يجتهد، ومضى.
صَحَت من نومها، قالت : " لا إله إلاّ الله " ورسمت الصليب في الهواء، وسلّمت وقالت " يا أبانا يسوع" ، بينما كان هو يحك رأسه ويستمع إلى الأخبار :
انسحاب همفري من قائمة المرشحين .
محاكمة الياباني .
لسعته نحلة في أذنه، سب الدين بلا شعور، وعلى أثرها غضبت الفتاة و ... الله يلعنك ...
- استغفر الله .
من هذا الولد الراكب على ظهرك ؟
هذا جحش لم يفارقني، يدّعي أنه ابني .
أقول له : يا جحش انزل، يهددني بالخنق( . يذكرني بقصة العلجوم في كليلة ودمنة) .
أعجبت الفتاة بالصبي الجحش وأغرته، وبعد لحظات كان في طيات اللحم يلعق بطنها وظهرها، وينقل لها أخبار الجسم أولاً بأول : بض، غض، له رائحة كل دقيقة هو بلون بطعم ........ فاكهة .
عندما أدار أبو فايز يده نحو اليمين افتقد يده، اشتعلت الدنيا لحظة، واللحم الشهي يلعقه طفل .
المنافسة غريبة .
مرة في شاطئ البحر كانت سائحتان، وكان معه صبي في الثالثة عشرة، انفرد كل منهما بسائحة، وانشغل هو في الحديث عن الاقتصاد والاجتماع وقضايا السياسة، وانشغل الصبي بها .
كانت المرآة قد اسودت في هذه الأثناء، وأوراقها تبعثرت، وكان الولد قد أتقن القراءة والكتابة وأخذ يطالب بالزواج .
- هل تدري لماذا قتل أبو فايز ؟
- لأن النساء تهالكن عليه في ليلة صيف.
ولأن الحروف عرفت أن بقاءها معه هلاك .
والولد الأول ما زال ينهب اللذات من حضن أميرته .
والثاني يفرز قيحًا .
وأبو فايز في المرآة، يده كانت أطول من السماء .
كانت على ظهر الحائط تحتضن عشبتين متعانقتين . تحتضن دارًا، ولا تعرف كيف تقبض عليها، تتشبث بها، ولو أعطوها مجالاً لصافحت كل من في الدار.