2025-03-25 07:49 م

تراجع دور المجتمع المدني الإسرائيلي الداعي للسلام

2025-03-13

كثيراً ما قامت منظمات المجتمع المدني الإسرائيلي الداعية إلى السلام بدور محوري في رسم السياسات الإسرائيلية إلى جانب الحكومات ومؤسسات الدولة الرسمية، وعددها كبير واشتهرت من بينها في العقد الأخير من القرن الـ20 حركة "السلام الآن" وحركة "بتسليم" التي يعني اسمها "على صورة الله" وغيرها من المنظمات الأصغر حجماً وفاعلية، ومرت جميعها بعصر ذهبي كانت فاعلة فيه قبل وخلال مفاوضات السلام التي انطلقت في مؤتمر مدريد بين إسرائيل وسائر الدول العربية وخلال الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية اللتين بدلتا طريقة مقاومة الشعب الفلسطيني للحصول على حقوقه بوسائل غير عنيفة.

ولكن منذ انطلاق الألفية الجديدة أصبحت عصور حركات السلام الذهبية خلفنا بعدما طغت الحروب على العلاقة بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجيرانها من الفلسطينيين والعرب منذ بداية القرن الحالي. فما الذي حدث؟ وكيف ضمر دور الحركات الداعية إلى السلام في الداخل الإسرائيلي؟

‎التنوع والتعددية السياسية في إسرائيل

تتعدد التوجهات السياسية في الساحة الإسرائيلية كانعكاس للفسيفساء المجتمعية التي تضم جماعات ذات أصول ‏عرقية وثقافية ودينية مختلفة ومتباينة أيضاً.

وعلى رغم أن التصنيف التقليدي للأحزاب الإسرائيلية يقسمها إلى يسارية ويمينية ودينية، فإن جميع هذه الأحزاب تتشارك في أساس ‏أيديولوجي واحد وهو الصهيونية التي كانت غايتها منذ إطلاقها إقامة دولة يهودية في فلسطين واستقدام اليهود المهاجرين وإحلالهم محل السكان الأصليين. ويمكن حصر كل أطياف الحراك السياسي الإسرائيلي ضمن تيارات ثلاثة عموماً هي "التيار العمالي الاشتراكي" وكان يمثله حزب "العمل" تاريخياً وهو مدعوم من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والمدنية الملتفة حوله، أما التيار الثاني فهو "الصهيوني اليميني" الذي مثله حزب "الليكود" تاريخياً والتيار الثالث المؤلف من مجموعة من الأحزاب الدينية اليهودية المتطرفة.

ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الأحزاب الإسرائيلية نشأت في بولندا وروسيا قبل أن تنتقل إلى فلسطين وتمتد أنشطتها إلى مجالات الاقتصاد والتعليم والثقافة ‏والإعلام، كما تسيطر على قطاعات مثل الإسكان والصحة والرياضة. وقبل إعلان قيام دولة إسرائيل كانت للأحزاب الرئيسة ميليشيات مسلحة مثل "هاغاناه" التابعة لحزب "العمل" ‏و"إرغون" المرتبطة بحزب "الليكود" التي شكلت لاحقاً الجيش الإسرائيلي.

مع دخول الألفية الجديدة تفاقمت أزمات الائتلاف العمالي الاشتراكي وعلى رأسه حزب "العمل"، وكان السبب بحسب المحللين الإسرائيليين، فشل "اتفاقيات أوسلو" وتصاعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام ‏‏2000. وبحلول عام 2004 ‏كان الحزب يعاني انقسامات داخلية حادة وتراجعت شعبيته بصورة كبيرة، وكان لصعود اليمين المتطرف التأثير الكبير في تحوله إلى قوة هامشية، مما أسهم في صعود حزب "الليكود" الذي يقوم على مبادئ مناقضة من بينها الإيمان بحق إسرائيل في كامل ما يسميها "أرض إسرائيل التاريخية" ومواصلة الاستيطان في الأراضي المحتلة وتكريس مدينة القدس كعاصمة نهائية لإسرائيل‎ ورفض قيام الدولة الفلسطينية واعتبار نهر الأردن الحدود الشرقية للدولة‎.

ويبرز على الضفة الأخرى من راديكالية "الليكود" وخفوت حزب "العمل"، حزب "القائمة العربية الموحدة" الذي تأسس عام 1996 بعد اندماج الحزب "الديمقراطي العربي" و"الحركة الإسلامية"، وهو أقرب إلى حركة سلام منه إلى حزب سياسي مؤثر وفاعل. ومن أهدافه الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة والاعتراف بالعرب كأقلية قومية في إسرائيل وإعادة المهجرين الفلسطينيين لقراهم الأصلية. وإلى جانبه تبرز "القائمة التقدمية للسلام" التي تأسست عام 1984 من مجموعات عربية ويهودية يسارية والتي تعمل من أجل تحقيق المساواة التامة بين العرب واليهود داخل الدولة والاعتراف بحق الفلسطينيين كما الإسرائيليين في تقرير المصير والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. وهذا الحزب الأقلوي أقرب ما يكون إلى جمعية تدعو إلى السلام قائم على وزن الشخصيات الفلسطينية واليهودية التي أطلقته. وهذه الأحزاب الصغيرة بحسب أعداد ممثليها في الكنيست الإسرائيلي غالباً ما تتحالف وتردد خطاب حركة "السلام الآن" التي كانت ناشطة وفاعلة داخل الأطر السياسية والمجتمعية في إسرائيل. وأدى هذا التقارب الفكري إلى قيام ما يطلق عليه في إسرائيل اسم "معسكر السلام" وضم في أطره حركات ومجموعات تعترف بوجود الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير وتدعو ‏إلى إنهاء الاحتلال والاستيطان، ومن بينها أحزاب "راتس" و"مبام" و"شينوي" ‏و"حمائم" حزب "العمل" وحركة "السلام الآن"، إضافة إلى مجموعات صغيرة مثل "هناك حد" و"السنة 21" و"لجنة الحوار ‏الإسرائيلي – الفلسطيني". وعلى رغم افتقارها إلى إطار تنظيمي موحد، فإنها تتعاون في مناسبات مختلفة.

أسباب الانقسام داخل معسكر السلام

ظهر الانقسام داخل معسكر "السلام" في مواجهة صعود التيار اليميني منذ احتلال جيش العراق في عهد صدام حسين دولة الكويت، فبعد سلوك الولايات المتحدة طريق الحرب لتحرير الكويت ومعاقبة صدام حسين انقسم "معسكر السلام" الإسرائيلي إلى تيارين‎، الأول دعم الموقف الرسمي للحكومة الإسرائيلية أي المشاركة في الحرب على الجيش العراقي لطرده من الكويت، والثاني ‎تألف من الأقلية المعارضة للحرب التي دعت إلى حل سلمي شامل و‏عارضت الربط بين القضية الفلسطينية وأزمة الخليج رفضاً "للخضوع لابتزاز صدام حسين"‎. ثم أيد مفكرون وأدباء في تيار "السلام" الحرب وكان من بينهم الروائي ‏عاموس عوز والمفكر يهوشع، والباحث والأديب ياعيل دايان لبذين، وكلهم اعتبروا أن الحرب ضد العراق "عادلة‎".

ولم تقتصر الانقسامات داخل "معسكر السلام" على حرب الخليج، بل امتدت إلى الموقف من حقوق الفلسطينيين نفسها، وكانت البداية مع مقالتين نشرهما الصحافي يارون لندن والنائب يوسي ساريد فأعلنا قطيعتهما للقيادة الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات في حينه لأنها "خانت قيم السلام بانحيازها إلى صدام حسين"، بحسب ما جاء في إعلانهما. وكانت هذه البيانات مؤشراً إضافياً على الانقسام في معسكر "السلام" داخل إسرائيل، مما أدى إلى إضعافه تدريجاً خلال الأعوام التالية. أما الأقلية داخل "معسكر السلام" التي استمرت في دعمها للقضية الفلسطينية، فأصبحت أكثر عزلة من ذلك الحين، مما دفع حل القضية الفلسطينية إلى مزيد من التعقيد‎.

حركة "السلام الآن" وأدوارها الآفلة

كانت حركة "السلام الآن" إحدى أبرز الأصوات الإسرائيلية التي دعت إلى تسوية سلمية للصراع مع الفلسطينيين وتأسست ‏ في أواخر السبعينيات كرد فعل على السياسات التوسعية للحكومة الإسرائيلية وسعت إلى الضغط على صناع القرار لاعتماد ‏حلول سلمية قائمة على مبادئ التفاوض والاعتراف المتبادل. وعلى رغم التحديات التي واجهتها، استطاعت "السلام الآن" أن تقوم بدور مهم في تشكيل الخطاب السياسي داخل إسرائيل في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية‎.

وجاء التأسيس عام 1978 على يد مجموعة من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي الذين شعروا بأن السياسات والوسائل العسكرية ‏وحدها لن تحقق الأمن والاستقرار. واضطلعت الحركة بدور محوري في دعم "اتفاقية كامب ديفيد" بين ‏مصر وإسرائيل، على اعتبار أن السلام مع العرب هو المسار الأقصر لتحقيق الأمن الدائم. وتبنت حركة "السلام الآن" أيديولوجيا إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 باعتبار أن ‏ذلك يخدم المصالح الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء، وهذه الأيديولوجيا السلمية كانت تعني الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة‎ وتجميد الاستيطان باعتباره عائقاً أمام أي تسوية سلمية‎ ودعم حل الدولتين كوسيلة لإنهاء الصراع. وهذه المطالب تسببت في اصطدام الحركة بالأوساط اليمينية التي اعتبرت مطالبها تهديداً للمشروع الصهيوني‎، واتهمتها بعض الجماعات الدينية المتطرفة بخيانة فكرة إقامة دولة إسرائيل، ومع ذلك ظلت المسيرة الحاشدة بعد مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 التي أجبرت الحكومة على تشكيل لجنة تحقيق دانت وزير الدفاع آرييل شارون، علامة على العصر الذهبي لـ"السلام الآن". وفي ما بعد أيدت الحركة "اتفاقية أوسلو" عام 1993، لكنها منيت بأكملها بضربة قاصمة بعد اغتيال رئيس ‏الوزراء حينذاك إسحاق رابين عام 1995 وصعود اليمين المتطرف الذي نجح في تقويض مسار المفاوضات‎.

وفي المرحلة اللاحقة تصاعد التوتر بين أعضاء حركة "السلام الآن" والمستوطنين بسبب فضحها الدعم الحكومي الضمني للاستيطان، وتعرض أعضاؤها لتهديدات متكررة واعتداءات جسدية‎ بسبب هذا الموقف، وترافق هذا التراجع مع انحياز المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين بعد الانتفاضتين الفلسطينيتين والعمليات المسلحة التي عززت المخاوف ‏الأمنية‎.

وعلى رغم كل شيء لا تزال حركة "السلام الآن" واحدة من أبرز الحركات التي تنادي بإنهاء الاحتلال وحل الدولتين، ‏ومع استمرار الصراع واندلاع الحروب المتواصل بين إسرائيل وجيرانها، يبقى السؤال المطروح يتناول قدرة المسالمين على التأثير مجدداً في المشهد السياسي الإسرائيلي، ما دام أن التطرف ‏القومي صار سيد الموقف السياسي في الداخل الإسرائيلي.

أما منظمة "بتسيلم" فهي منظمة حقوقية إسرائيلية وثقت الانتهاكات الإسرائيلية منذ عام 1989‏‎ وكشفت عن التمييز الممنهج ضد الفلسطينيين واتهمت الدولة الصهيونية بتطبيق نظام "أبرتهايد" أو ‎فصل عنصري بحق الفلسطينيين. وانطلقت في الثالث من فبراير (شباط) عام 1989 على يد أكاديميين وصحافيين وأعضاء في الكنيست. وحصلت "بتسيلم" على جائزة ‏كارتر-مينيل لحقوق الإنسان في ديسمبر (كانون الأول) ‏‏من العام نفسه. وترفض المنظمة إزاحة مسار الجدار الفاصل عن الخط الأخضر واقتطاع أراضٍ ‏من الضفة الغربية لأجل الإضرار بحقوق ‏الإنسان الفلسطيني الموجود بين الجدار والخط ‏الأخضر أو أولئك الذين يفصل الجدار بين بيوتهم وأراضيهم الزراعية. وتناقش "بتسيلم" ‏بأن ‏الدوافع لمسار الجدار الفاصل ليست سياسية في جوهرها وليست أمنية كما تعرضها الحكومة ‏الإسرائيلية، وتنتقد المنظمة أيضاً تجنيد التنظيمات الفلسطينية للقاصرين للقتال أو نقل وسائل قتالية‎ في الجهة الثانية من ساحة المعركة.

اندبندنت عربي | فيديل سبيتي
 

آراء ومقالات