تمخض اللقاء الذي جمع حركتي فتح وحماس، في القاهرة مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول 2024، عن إعلان التوافق على تشكيل لجنة إسناد مجتمعي؛ في قفزةٍ غير مسبوقةٍ، ومن دون مقدماتٍ، أو مرجعياتٍ، أو حيثيات أُعلن عن ميلاد اللجنة كأحد أشكال التوافق الاضطراري بين حماس وفتح.
التقت فتح وحماس عشرات المرات على امتداد 17 عامًا من عمر الانقسام، ولم يفلح أيّ لقاءٍ في الذهاب عمليًا صوب اتّفاقٍ يُنهي سنوات الانقسام العجاف، حتّى لجنة الإسناد المجتمعي لم تكن قرارًا فلسطينيًا وطنيًا مستقلًا، بقدر ما كانت استجابةٌ لمقترحٍ مصريٍ؛ واستدارةٌ موائمةٌ وملائمةٌ لجملة متغيراتٍ تكاد أن تُخرج كلا الحركتين، فتح وحماس، من المشهد، بعدما تكونت بعض ملامح تآكل حاضنتهما الشعبية أولًا، وتجاوز القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في القضية الفلسطينية كلتا الحركتين ثانيًا، فكان الاتّفاق الاضطراري إجباريًا.
قبل بضعة شهورٍ من الاتّفاق المُفخخ على لجنة الإسناد المجتمعي، الذي لم يبرح مكانه، ولم يرَ النور حتى تعطل وتعثر وعَلقَ في انتظار مرسومٍ رئاسيٍ، التقت فتح وحماس في بكين، في 23 يوليو/تموز الماضي؛ وتمخض اللقاء عن إصدار ما عُرف بـ"إعلان بكين"، وجاء في نصه: "اتّفقت الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر، المشاركة في الاجتماع، على تشكيل حكومة وفاقٍ وطنيٍ مؤقتةٍ بتوافق الفصائل الفلسطينية، وبقرارٍ من الرئيس (محمود عباس)، بناءً على القانون الأساسي الفلسطيني المعمول به، لتمارس الحكومة المشكلة سلطاتها وصلاحياتها على الأراضي الفلسطينية كافّة، بما يؤكد على وحدة الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة". لكن خلص هذا الإعلان إلى مصير مثيلاته من الإعلانات واللقاءات، التي انتهت كلّها إلى لا شيء.
يُذكر أنّه في اتّفاق القاهرة 2017، اتّفقت حماس وفتح على تسلم السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزّة، وهو ما لم يحدث. ثم كان اتّفاق الجزائر أكتوبر/تشرين الأول 2022، وجاء فيه "تلتزم الفصائل الفلسطينية بإجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ في غضون عامٍ"، وهو ما لم يحدث أيضًا، وهُمِّش إعلان بكين وتلاشت كلّ محددات الذهاب وضروراته لاجتراح حكومة وحدةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ.
بعد أكثر من 45 ألف شهيد، و100 ألف جريحٍ و11 ألف أسير، و12 ألف مفقود، ونزوح أكثر من مليون ونصف مليون فلسطينيٍ في قطاع غزّة من بيوتهم وحشرهم في خيامٍ، وبعد تدمير كلّ مناحي الحياة في قطاع غزّة من مدارس ومستشفيات وطرق وبيوت، وبعد حرب إبادةٍ متواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، وبعد تآكل كلّ عوامل صمود الحضانة الشعبية، واستنزاف مقدراتها البشرية والاقتصادية والاجتماعية، وتمدد الجوع والمجاعة، وبعد نفاد رصيد الحركة الوطنية الفلسطينية بكافّة مكوناتها، من دون مبالغةٍ في ذلك، تواصل حركتا حماس وفتح لعبة الدوران في الدائرة المفرغة، في حين يواصل الناس ثباتهم وتمسكهم بمواجهة مشاريع التهجير والتطهير العرقي، إذ تذهب فتح وحماس لاختصار المشهد بكلّ حيثياته وتضحياته في لجنة إسنادٍ مجتمعيٍ.
ذهبت بعض الأدبيات السياسية الأكاديمية التي تناولت مسار ومشوار الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة في حركتي فتح وحماس الى نتيجة مفادها أنه:" عندما قررت فتح الذهاب للكفاح المسلح قرر إخوان فلسطين الذهاب إلى البناء والتربية والإعداد، وعندما قررت حماس كذراع للإخوان في فلسطين الذهاب إلى المقاومة والجهاد قررت فتح الذهاب إلى لتسوية السياسية السلمية"، ومنذ ذلك الحين والافتراق والانقسام هما محدد العلاقة بين الحركتين. والتوافق بينهما هو الاستثناء.
تتواصل حلقات التراجيديا في المشهد الفلسطيني، الذي تتنازعه وتتقاسمه سياسيًا وجغرافيًا كلٌّ من حماس وفتح، في حين يقاوم الناس كلّ أشكال القتل والإبادة؛ وتقدم المقاومة نموذجًا منفردًا في المعارك التي تخوضها، تتكئ كلٌّ من حركتي حماس وفتح على إرادةٍ سياسيةٍ عاجزةٍ حتّى اللحظة عن الارتقاء لمستوى تضحيات وتطلعات الشعب الفلسطيني، وحقّه في أن تكون له حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، أو أيّة هيكليةٍ، أو مؤسسةٍ رسميةٍ تمثّله وتدافع عنه، مع العلم أن جعل الشعب الفلسطيني من دون جهةٍ رسميةٍ تمثّله وتعبر عنه هدفٌ إسرائيليٌ معلن، ورغم ذلك لم تلتقط الحركتان هذا كلّه.
تطرح تراجيديا التوافق الاضطراري، على لجنة الإسناد المجتمعي، بين حماس وفتح سؤالًا من شقين الأول: لماذا ذهبت حماس وفتح إلى التوافق؟ وما سيناريوهات التوافق واحتماليته؟
ذهبت حماس وفتح صوب لجنة الإسناد الاجتماعي لإرضاء مصر، ليكون محددًا أكبر من محدد الحاجة الفلسطينية سياسيًا وشعبيًا، ومن استدراكٍ لقطع الطريق على مخططاتٍ إسرائيليةٍ تستهدف إخراج حماس وفتح من المشهد وتغييبهما، واستدعاء قيادةٍ جديدةٍ لإدارة قطاع غزّة من العائلات والعشائر والوجهاء، وقد حاولت إسرائيل ذلك؛ وفشلها لا يعني توقفها، وما زالت تسعى إلى إحداث تغييرٍ كبيرٍ في شكل النظام السياسي الفلسطيني وطبيعته ومهامه ليوائم ويلائم المصالح والأهداف والمخططات الإسرائيلية، خصوصًا "الشرق الأوسط الحديث" الذي يسعى بنيامين نتنياهو إلى إقراره".
حتّى عندما ذهبت فتح وحماس إلى التوافق على لجنة الإسناد، كان الاتّفاق عبارةً عن حقل ألغام، فالأمن لغم، وموظفو حماس لغم، وسلاح المقاومة لغم، وأسماء اللجنة ومواصفاتها لغم، لم يكن اتّفاقًا شاملًا وقادرًا على مواجهة تحديات اليوم التالي في إعادة الإعمار، وفي ضمان الوصول إلى اتّفاق وقف إطلاق النار.
أتيحت لحماس وفتح فرصةٌ تاريخيةٌ كان يمكنها أن تجبّ ما قبلها وتنهي الانقسام، لو وافقت الحركتان على الذهاب إلى اجتراح اتّفاقٍ وطنيٍ فلسطينيٍ مستقلٍ، وتقديم رؤيةٍ وطنيةٍ موحدةٍ، وبرنامج يضمن إلا تضيع تضحيات الشعب الفلسطيني، وألا تستفرد إسرائيل بقطاع غزّة وتكمل تدمير كلّ مقومات بناء الدولة الفلسطينية، وتحيلها من قضيةٍ سياسيةٍ، وقضية تحريرٍ، وقضية الحق في تقرير المصير إلى مجرد قضيةٍ إنسانيةٍ تُختصر في مساعداتٍ إغاثيةٍ وغذائيةٍ.
في ثنايا الاتّفاق الاضطراري، وفي الجزء المسكوت عنه، توافق الطريق إلى لجنة الإسناد المجتمعي مع ما تريده إسرائيل؛ وهو خلو اللجنة من الفصائل، ألا يكون للجنة أي دورٍ سياسيٍ، ولا تكون حماس في اللجنة، ألا تكون اللجنة امتدادًا لحكم السلطة في قطاع غزّة؛ وهكذا بدلًا من أن تصبح لجنة الإسناد المجتمعي بوابةً للوحدة والتوافق، باتت محطةً جديدةً للتراشق والانقسام، فالمنظّمة ترفض اللجنة، والرئاسة لم تصدر مرسومًا رئاسيًا، وحماس لا يمكنها أن تخرج من المشهد بخُفي حنين، أو تحلّ نفسها نهائيًا، وتعطي للجنة أو السلطة كلّ شيءٍ، ونعود إلى تجربة عام 2007، لتتواصل التراجيديا الفلسطينية.
يتساءل كاتب المقالة بمنطق النازح الفلسطيني، الذي فقد بيته وأهله؛ ومقومات صموده، ومقتضيات بقائه، لماذا رفُضت لجنة الإسناد المجتمعي من طرف رئيس السلطة ورئيس المنظمة ورئيس فتح؟، ولماذا تم التوافق عليها من قبل؟ لماذا تبقى أمال ملايين الفلسطينيين معلقةً على إرادةٍ سياسيةٍ فلسطينيةٍ ترفض التوافق، رغم استمرار المحرقة والإبادة، وقد بات التصالح بين فتح وحماس إحدى متطلبات الذهاب إلى إنهاء الحرب.
أما السيناريوهات والخيارات فهي محصورةٌ في التالي؛ أولًا: العودة إلى التوافق على لجنة الإسناد المجتمعي، على اعتباره أفضل اتّفاقٍ اضطراريٍ إجباريٍ، وتصبح اللجنة بموجب مرسومٍ رئاسيٍ أمرًا واقعًا. ثانيًا: أن نبقى في مربع الرفض، مع ما يترتب عليه من تداعياتٍ وتبعاتٍ على مستوى تآكل ثقة الحاضنة الشعبية بالسلطة الفلسطينية، ثالثًا: تجاوز ضرورة التوافق، لتُطبخ لجنةٌ جديدةٌ بديلةٌ مصنعةٌ بمقاييس إسرائيليةٍ أميركيةٍ ومدعومةٌ وممولةٌ عربيًا.
المصدر: العربي الجديد