يمثّل الإسلام السياسي اليوم قوةً محرّكة ضدّ الوضع القائم في دول عربية كثيرة، ويشكّل الخيار الرئيس لأغلب الشعوب العربية في الاحتجاج وعدم القبول بالوضع الحالي، وفي البحث عن أيّ أفق سياسي. تاريخياً وجدت الدول العربية صعوبةً شديدةً في القضاء على هذا التيّار، فمنذ ما يزيد على 70 عاماً، بات "الإسلام السياسي" خصماً عنيداً، يكاد يكون لسان حال عديد من الأنظمة العربية: ما لهذا العدو لا يموت؟! هل استنفدنا الأدوات كلّها في هزيمته والقضاء عليه وإيجاد بدائل منه، علمانية أو حتى دينية مختلفة، من طريق القوة أو الاحتواء أو العسكرتارية أو السياسة؟! ما السرّ وراء هذا الشبح الإسلامي، الذي تعجز الدول العربية عن مواجهته، ويرتبك الغرب في التعامل معه، وتراه إسرائيل عدوّاً متربّصاً أخطر من الأنظمة الحالية على المدى البعيد؟!
المفارقة أنّ كثيراً من الباحثين والخبراء الذين تنبّأوا في أكثر من مناسبة بانتهاء الإسلام السياسي، سواء في منتصف التسعينيّات، ثمّ في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" أيضاً أساؤوا التقدير والتحليل، فالإسلاميون كلّما بدوا وكأنّهم في خسارات كبيرة، وأنّهم قوىً آفلةٌ، يعودون بصيغ واستراتيجيات وقيادات جديدة، ويعود الباحثون مرّة أخرى لمحاولة فهم هذه الظاهرة وأسبابها وسياقاتها، فإذا نجحت الأنظمة العربية في التعامل مع القوى الإسلامية عبر العملية السياسية وإقصائهم منها، أو عبر إضعافهم في صندوق الاقتراع، يخرج لهم الفريق الآخر من الإسلاميين المسلّحين، الذين يرون السلاح والثورة طريقين وحيدين لمواجهة هذه الأنظمة وأجهزتها الأمنية، وإذا تراجع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فترةً، وقرّر أن يعيد بناء قدراته، وانتظار الظرف الأنسب، تعود حركة حماس إلى الواجهة في عملية "طوفان الأقصى"، وتهزّ، ليس إسرائيل فقط، بل المنطقة، بل المجتمع الدولي بأسره.
وعندما يصمت العالم العربي ويعجز عن مواجهة إسرائيل، ويكتفي بالنظر إلى المجزرة التي لحقت بالشعب الفلسطيني في غزّة، فإن ذلك يؤذن بصعود جديد للإسلامية الراديكالية، كما حدث مع جميع موجات هذه الحركات، عبر العقود السابقة، ثمّ تبدأ "نسخة جديدة" غير مسبوقة بالبروز، هي الجهادية المحلّية، هيئة تحرير الشام، التي أسقطت نظام بشّار الأسد. كذلك، لم يعد الإسلاميون لاعباً محلّياً، بل أصبحوا فاعلاً إقليمياً مهمّاً، وجزءاً من السياسات الدولية والإقليمية، فصعود هيئة تحرير الشام يرتبط بالدور التركي في المنطقة، بينما حزب الله في لبنان، وكتائب القسّام في غزّة، جزء من المحور الإيراني. حتى في داخل "حماس" نفسها، هنالك جناح أقرب إلى الإيرانيين وآخر إلى الأتراك.
من الواضح أنّه بعد ما يقارب من عقد ونصف من "الربيع العربي" والثورة المضادة، فإنّ الإسلاميين لم ينتهوا (ولن يتراجعوا)، ليس بالضرورة لأنّهم أقوياء جدّاً، أو يقدّمون مشروعات مستقبلية تحمل الحلول والآفاق المتاحة، بل لأنّهم يمثّلون الوجه الآخر لأزمة النظام الرسمي العربي على صعيد الشرعية السياسية والتنمية، والفشل في التعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية. فالإسلاميون هم البديل الوحيد حالياً المتاح أمام الشرائح الغاضبة والمحبطة من المجتمعات والشعوب العربية. فالحكومات التي قايضت الأمن بالديمقراطية والحرّية، جعلت من الأمن سلاحاً قاسياً مهيناً لكرامة الإنسان العربي، ولم تنجح في توفير الأمن الشمولي بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم تقدّم أيَّ شيء لأهل غزّة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، بالرغم من أنّ الشعوب دفعت من ثرواتها ثمناً باهظاً وكبيراً، على حساب الرفاه والحرّية، بذريعة بناء جيوش عربية قوية، والأسلحة الحديثة التي لم ترها الشعوب إلّا في معاركَ داخلية، كما يحدث في السودان وليبيا، وحدث سابقاً في سورية. لم تعد لعبة "شيطنة الإسلاميين" قادرةً على إقناع جيل الشباب، الذي يحمل عبء الفشل العربي في السياسة والاقتصاد والتنمية والحرّية، بأنّ الوضع الراهن أفضل من التغيير.
وعلى النقيض من مقولة ماركس التاريخية "الدين أفيون الشعوب"، فإنّ الوازع الديني – العاطفي، الذي توظّفه الحركات الإسلامية في خطابها التعبوي ضدّ الوضع القائم بات أقرب إلى "لاهوت التحرير"، ما دامت الأنظمة القائمة لا تقدّم خيارات مقنعة على صعيد الديمقراطية والحرّية والعدالة الاجتماعية، أو حتى مواجهة التحدّيات الخارجية والإقليمية، والقوى السياسية الأخرى، مثل الليبراليين واليساريين، لا تزال عاجزةً عن تقديم بدائلَ شعبيةٍ للإسلام السياسي، الذي لا يزال منذ أكثر من ثلاثة عقود هو القوى الشعبية المهيمنة في دولٍ عديدة.
الجانب الآخر من قوة الإسلاميين مرتبط بعدم حسم مسألة العلاقة بين الدين والدولة في العالمين العربي والإسلامي، ما يشكّل مصدرَ قوة لهذه التيّارات، التي يسهل عليها توظيف الدين في مواجهة "التيّارات العلمانية"، بخاصّة أنّ استطلاعات الرأي في العالم العربي من العديد من الجهات، مثل الاستطلاع الذي تجريه مؤسّسة فريدريش أيبرت، والباروميتر العربي، تؤشّر على أنّ الدين لا يزال حاضراً بقوة في المجال العربي، وأنّ محاولات العلمنة التي جرت على مرّ عقود طويلة لم تكن ناجحة، لأنّها كانت ذاتَ طابع قسري من أعلى إلى أسفل، كما يشير نادر هاشمي في كتابه المهمّ "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية".
بكلمات أخرى، الطريق إلى تجاوز الإسلام السياسي، كما أثبتت التجارب السابقة بصورة كبيرة، ليس الإقصاء أو التحجيم أو السجون أو الاعتقالات أو حتى النفي، بل الإدماج أكثر في العملية السياسية، واستدخالهم في اللعبة، وتطوير خطاب إسلامي متصالح مع الديمقراطية والتعددية، وأكثر واقعيةً، وهي عملية مفتاحها مرتبط بالديمقراطية، العنصر الرئيس الغائب في هذه المعادلة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الحلول الأمنية لم تؤدِّ إلا إلى تعزيز الأزمة العربية، والعجز عن بناء دول مدنية حديثة تتأسّس على قيم المواطنة والتعددية.
المصدر: العربي الجديد