تُساهم اقتصادات منطقة الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي، بنحو 4 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهذه النسبة تبقى ضعيفة نظرا للقدرات المالية والثروات الطبيعية والبشرية، التي تمتلكها المنطقة. فالتأثير الكبير لهذه الدول في أسواق الطاقة العالمية، وطرق التجارة، والتدفقات الاستثمارية يتجاوز حجمه النسبي في الاقتصاد العالمي، أضف إلى ذلك التأثير المتزايد في التنويع والاستثمار في تقنيات المستقبل والبنية التحتية.
تواجه منطقة الشرق الأوسط العديد من التحديات التي تعيق ازدهارها الاقتصادي. هذه التحديات مترابطة بشكل عميق مع الأبعاد السياسية والاجتماعية للمنطقة، ويختلف تأثير هذه الأبعاد من دولة إلى أخرى. وتتأثر نسبة مساهمة اقتصادات منطقة الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي، بعدد من العوامل مثل النفط والغاز، وتنويع الاقتصاد، والتجارة واللوجستيات، والتمويل والاستثمار. إلا أن بعض العوامل تُشكّل عائقا جوهريا أمام زيادة مساهمة الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي.
الاستقرار السياسي والنزاعات
تعاني العديد من دول المنطقة من نزاعات داخلية وخارجية لها تأثيرها المباشر في التجارة، وفي البنية التحتية، وفي اليد العاملة والهيكلية الاجتماعية، وفي طريقة استخدام الموارد الاقتصادية، التي تذهب بقسم كبير منها إلى التسلّح أي زيادة الإنفاق العسكري على حساب التنمية.
وساهمت بعض الأنظمة السياسية في بعض الدول خلال عقود، في تفشّي الفساد وضعف الحوكمة وغياب الإصلاحات، مما ضرب الاستثمارات وغيّب الخطط الاقتصادية والإنمائية وضرب هيكلية النمو الاقتصادي.
الاعتماد على موارد محدّدة
أدّى النقص في التنويع الاقتصادي إلى جعل دول المنطقة رهينة تقلّبات أسعار السلع التي تعتمد عليها (مثل النفط)، أو رهينة التطورات الأمنية والسياسية (السياحة، وهو ما أدّى إلى خلق دورات اقتصادية (كساد وانتعاش) تتبع الصدمات أو الإيجابيات العالمية بشكلٍ عنيف.
وإذا كانت بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المُتحدة والكويت قد دخلت في عملية تنويع اقتصادي كبيرة، إلا أن محركات النمو الاقتصادي العالمي، تتمحور حول قطاعات مثل التكنولوجيا والصناعة والطاقة المتجددة، التي لا تزال المنطقة بأكملها بعيدة عن الوصول إلى معدل الاستثمارات العالمية (كنسبة مئوية للناتج المحلّي الإجمالي) في هذه القطاعات، وهو ما يجعل المنطقة تحتاج إلى سنين طويلة للحاق بالمركب.
سوق العمل
وتُشير أرقام المؤسسات العالمية أن منطقة الشرق الأوسط هي من الأعلى بين الدول من ناحية البطالة تحديدًا بين الشباب. وينبع هذا الأمر من منطلق النمو السكاني الكبير في المنطقة، ولكن أيضًا من منطلق عجز هيكلية اقتصادات المنطقة عن استيعاب اليد العاملة، التي تدفع فاتورة الفارق بين المناهج التعليمية وحاجات الأسواق، ولكن أيضًا نتيجة ضعف الاستثمارات في بعض القطاعات الآنفة الذكر. وهذا ما يجعل اليد العاملة الكفوءة تُهاجر بظاهرة تُسمّى «هجرة الأدمغة» ، وهو ما يعني أن الاستثمار في هذه اليد العاملة دفعته هذه الدول، ولكن الاستفادة منها تعود إلى اقتصادات أخرى.
ونرى في العديد من الدول اعتماد اقتصاداتها على العمالة الأجنبية بشكلٍ كبير، والتي تصل إلى 85% في بعض الدول، وهذا الأمر يؤدّي إلى اختلالات في سوق العمل وزيادة البطالة. من هنا ضرورة إصلاح سوق العمل، لخلق مزيد من الفرص لمواطني البلد بعيدًا عن العنصرية.
الهيكلية الاجتماعية
لا تزال الفوارق الاجتماعية كبيرة في العديد من دول المنطقة، حيث ان نسبة الطبقة الفقيرة لا تزال عالية مقارنة بالطبقة الوسطى، التي تُعدّ الأهم على صعيد المجتمعات، بحكم أنها هي المساهم الأكبر في النشاط الاقتصادي وفي دفع الضرائب. أضف إلى ذلك، يؤدّي الفساد في العديد من هذه الدول، إلى تركيز الثروات بين قلّة قليلة من الشعب، وهو ما يحرم الاقتصاد من نمو اقتصادي حتمي، لو كانت التوزيع عادلًا كلٌ بحسب مساهمته في الاقتصاد، وهو ما يُلقي بالمسؤولية على السياسات الحكومية التي من واجبها تأمين فرص العمل في القطاع الخاص من باب السياسات الضريية.
الضعف المؤسساتي
ضعف الحوكمة الرشيدة في العديد من دول المنطقة، وضعف القرار المؤسساتي وتأثّره بالفساد، قوّض ويُقوّض كفاءة الإدارة العامة التي تُعيق نمو القطاع الخاص (محرّك النمو الاقتصادي) وتُبعد الاستثمارات (فيول الاقتصاد) وتزيد التكاليف على الشركات، وهو ما يدفع رواد الأعمال إلى اختيار بلدان أخرى، حيث بيئة العمل أفضل والحوكمة الرشيدة أقوى.
ضعف التكامل الاقتصادي
تنسحب الخلافات السياسية والصراعات بين دول المنطقة على النشاط البيني من تجارة واستثمارات. وما لبنان إلا مثال على ذلك، حيث انسحبت الاستثمارات العربية من لبنان في العام 2011 ن، تيجة الخيارات السياسية التي قام بها لبنان آنذاك. وإذا أخذنا مثال المياه، نرى أنه في بعض الدول تذهب المتساقطات في البحر (حال لبنان)، في حين أنه في بعض الدول الأخرى تتمّ تحلية مياه البحر لاستخدامها كمياه شفّه. ولو كان هناك استثمارات عربية في لبنان في قطاع المياه لكان الأمر أجدّى على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي لدول المنطقة.
وهذا الأمر ينسحب على الزراعة وغيرها من القطاعات، التي كانت لتخلق تكامل اقتصادي بين دول المنطقة ، وتعفيها من الاندماج العامودي في الاقتصاد العالمي ، الذي يؤدّي إلى استيراد ميكانيكي للأزمات، في حين أن التكامل الاقتصادي يجعلها تندمج أفقيًا، وهو ما يحميها من الأزمات والصدمات في ظل العولمة.
بالطبع، هناك العديد من التحديات الأخرى التي يجب على دول المنطقة تخطيها، ضمن إطار الجامعة العربية أو ضمن اتفاقيات ثنائية، تسمح بخلق تكتلات اقتصادية قوية قادرة على مواجهة الصدمات لما فيه خير الشعوب.
أي دور للبنان في كل هذا؟
أدّى لبنان تاريخيًا دورًا فريدًا في الازدهار الإقتصادي لدول منطقة الشرق الأوسط. ولعل القطاع الخدماتي، كان على رأس المساهمين في هذا الازدهار. فدور لبنان التاريخي كمركز مالي إقليمي، وقطاعه المصرفي الذي كان قبل العام 2019 واحدًا من الأكثر تطورًا في المنطقة، استطاع جذب الودائع والاستثمارات من جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. واضطلعت المصارف اللبنانية بدور أساسي في تمويل المشاريع الإقليمية، وسهلت التجارة، والاستثمارات، والخدمات المالية عبر الحدود.
أيضًا هناك قطاع التجارة الذي كان لبنان من خلاله شريكًا تجاريًا أساسيًا في الشرق الأوسط من خلال مرفأ بيروت، الذي أدى بدوره صلة الوصل بين العالم ودول المنطقة. وعلى الرغم من كل ما حصل من تفجير للمرفأ ومن أزمة اقتصادية وحروب، فإن لهذا المرفأ دورا لا يزال مُهمًا في المرحلة المقبلة، خصوصًا من ناحية إعادة الإعمار في سوريا وغيرها.
كذلك كان للسياحة دور كبير في تعزيز التجارة البينية مع دول المنطقة، حيث كان لبنان قبل بدء الأزمة السورية الوجهة الرئيسية للسياحة في المنطقة. ولهذا القطاع دوره في المرحلة المقبلة من باب التراث الثقافي اللبناني الغني، وموقع لبنان التاريخي، وصناعة السياحة اللبنانية التي تعج بالحياة النابضة.
ويُعتبر لبنان تاريخيًا مُصدّرا مهمّا لليد العاملة الكفوءة، حيث يمتلك عددا من أرقى الجامعات على الصعيد الإقليمي وحتى العالمي. وبالتالي، سيبقى لبنان يؤدي هذا الدور الكبير، الذي ساهم ويُساهم في ازدهار شعوب دول المنطقة بدون أدنى شكّ، خصوصًا في مجال الأعمال والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
إلا أن لبنان لا يمكنه أن يضطلع بهذا الدور في المرحلة المقبلة، ما لم يتخطّ عددًا من التحديات التي تحدّ من قدرته على المساهمة بكل إمكاناته في ازدهار المنطقة الاقتصادي. وأهمّ هذه التحديات الاستقرار السياسي، الحياد، الأزمة الاقتصادية والإصلاحات الواجب القيام بها، والعلاقات مع دول المنطقة.
المصدر/ الديار اللبنانية