2024-12-24 06:58 م

كتاب جديد يوثّق سيرتها المهنية والنضالية: احتلال أرعبه تابوت شيرين أبو عاقلة

2024-12-13

كانت ترتدي زيّها الصحافي أثناء تغطيتها لاقتحام قوّات الاحتلال مدينة جنين في عام 2022. وكان يفترض أن يحميها هذا الزي. لكنّ الاحتلال قتلها عمداً أمام أعين العالم أجمع. ثمّ حاول طمس الحقيقة تماماً كما حدث مع أكثر من 190 صحافياً في غزّة

«اخترتُ الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلاً ربما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم». هكذا قالت الصحافيّة الفلسطينيّة الشهيدة شيرين أبو عاقلة (1971 ــ 2022) في إحدى مقابلاتها مع قناة «الجزيرة»، التي تعدّ أبو عاقلة من الرعيل الأول للمراسلين الميدانيين فيها. أبو عاقلة، التي اغتيلت برصاص الاحتلال الاسرائيلي عام 2022، كانت تدرك أنّ الصحافة كما تجعلها قريبة من الإنسان، تجعلها أيضاً، أقرب إلى الموت في ظلّ الاحتلال.
لم تكن أبو عاقلة أول الصحافيين الذين وقعوا ضحايا الإجرام الصهيوني. قبل استشهادها، ووفقاً لتقرير صادر عن منظّمة «مراسلون بلا حدود»، تَعرَّض أكثر من 144 صحافياً، فلسطينياً وأجنبياً، لاعتداءات من قوات الاحتلال أثناء تغطيتهم الأحداث في فلسطين. وأسفرت هذه الاعتداءات، عن استشهاد عدد من الصحافيين، من بينهم يوسف أبو حسين، مذيع «صوت الأقصى»، الذي استشهد في قصف مدفعي صهيوني، استهدف مدينة غزّة عام 2021. وفي عام 2018، استشهد الصحافي أحمد أبو حسين، العامل في إذاعة «صوت الشعب»، بعد إصابته برصاص صهيوني متفجّر في الرأس والبطن. كما استشهد الصحافي باسل إبراهيم فرج في غزّة عام 2009، جراء قصف الاحتلال خلال عدوان «الرصاص المصبوب» (معركة الفرقان). قائمة أسماء شهداء صحافيين طويلة، تضمّ عدداً ممَّن سبقوا أبو عاقلة في الشهادة، من بينهم: محمد أبو حليمة، وخليل الزبن، وعصام حمزة تلاوي، وعماد أبو زهرة، ومحمود الكومي، وسامح العريان، وعاهد زقوت وغيرهم.

أبو عاقلة لم تكن أيضاً الأخيرة. منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، أسفرت الإبادة الجماعيّة التي يشنّها الاحتلال الصهيوني على قطاع غزّة، عن استشهاد أكثر من 190 صحافياً حتّى الآن، بينهم: حمزة الدحدوح، نجل الصحافي وائل الدحدوح، وأحمد بدير، وعصام اللولو، وزيد أبو زايد، ومحمد ياغي، وآمنة حميد، ومصطفى عياد، وإسماعيل الغول، وعلاء فوزي برهوم، وحيدر إبراهيم، ونادية عماد السيد، وعبد الرحمن سمير الطناني، حمزة أبو سلمية، وحنين محمود بارود وغيرهم...
رغم أنّ شيرين أبو عاقلة لم تكن أول الصحافيين الذين استشهدوا في فلسطين، ولا آخرهم، إلّا أنّ اغتيالها لفت انتباه العالم إلى الاعتداءات الصهيونيّة الممنهجة ضد الصحافيين، التي تهدف إلى سحق العمل الصحافي وإسكات صوت الحقيقة الذي يفضح وحشية الاحتلال في فلسطين. الشعب الفلسطيني وشعوب المناطق المجاورة له، الذين عانوا طويلاً من وطأة الاحتلال، لم تفاجئهم محاولة الأخير إسقاط نعش أبو عاقلة خلال التشييع، لكن المشهد الذي نُقل مباشرة على الفضائيات، أكّد لشعوب العالم أنّ هذا الكيان الغاصب، مُجَرَّد من جميع أشكال الإنسانيّة. اقتحمت قوات الاحتلال حرم المستشفى الفرنسي في القدس المحتلة، وهاجمت مشيّعي جثمان أبو عاقلة، وحاولت إسقاط النعش ومنعت رفع العلم الفلسطيني، فعكست في هذا المشهد، وحشيّة الاستعمار.
هو المشهد نفسه، الذي دفع الباحثة والكاتبة اللبنانيّة، غيداء ماجد، إلى جمع كتاب «شيرين اصحي» الصادر عن مكتبة «فيلوسوفيا»، الذي يوثّق سيرة الصحافيّة الشهيدة، ويجمع أرشيفاً من تصريحاتها وتغطياتها وشهادات عدّة عنها وعن استشهادها. تكتب ماجد في مقدمة الكتاب عن الاعتداء على نعش أبو عاقلة: «شُلَّ تفكيري من هول ما رأيت... كان إيذاناً لي للتفكير بعملٍ ما، ردّاً على أولئك الذين أرعبهم جثمان في تابوت، واستفزتهم أعلامٌ ذات ألوانٍ أربعة».
وُلدت شيرين أبو عاقلة، في القدس المحتلة عام 1971 لعائلة فلسطينية من بيت لحم. حصلت على الجنسية الأميركية من والديها، لكنها لم تعش في الولايات المتحدة، وقد توفي والداها قبل اغتيالها بمدة قصيرة. لها أخ واحد يدعى طوني. أكملت دراستها الثانوية في مدرسة «راهبات الوردية» ببيت حنينا في القدس. بدأت دراستها في الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية تحقيقاً لرغبة والديها، لكنها اتجهت لاحقاً إلى الإعلام، وحصلت على بكالوريوس الصحافة من جامعة اليرموك في الأردن. نالت أيضاً شهادة دبلوم في الإعلام الرقمي من جامعة بيرزيت في فلسطين. بعد عودتها إلى فلسطين، عملت في مؤسسات عدة، منها وكالة «الأونروا»، وإذاعة «صوت فلسطين»، وقناة عمان الفضائية، وإذاعة «مونتي كارلو»، ومؤسسة «مفتاح». انضمت إلى قناة «الجزيرة» عام 1997، وكانت من أوائل مراسليها في فلسطين. استمرت أبو عاقلة في عملها كمراسلة ميدانية لمدة 25 عاماً، حتى يوم استشهادها أثناء تغطية اقتحام قوات الاحتلال لمدينة جنين عام 2022. شهدت أبو عاقلة عدداً من الأحداث المفصلية في فلسطين، منها انتفاضة الأقصى (2000-2004)، واجتياح مخيم جنين وطولكرم عام 2002، والعمليات العسكرية على قطاع غزة. كانت أيضاً أول صحافية عربية تدخل سجن عسقلان عام 2005، حيث التقت بالأسرى الفلسطينيين ونقلت معاناتهم إلى العالم. واعتُبرت هذه التجربة من أكثر محطات حياتها تأثيراً.
هذه محطّات رئيسيّة في حياة أبو عاقلة، قد يعرفها كثيرون ممّن تأثّروا باستشهادها. ولذلك، تحتفظ المؤلفة غيداء ماجد باستذكارهم لها إلى آخر صفحات كتابها. أمّا في صلب الكتاب، فتحاول ماجد تقديم صورة أقرب عن أبو عاقلة، إذ تتحدّث عن علاقتها ببنات أخيها، مستندة إلى شهاداتهنّ من مقابلات سابقة معهنّ، أو من منشوراتهنّ على منصّات التواصل الاجتماعي. تقول لينا أبو عاقلة عن عمّتها: «إنّ عمل شيرين وإنجازاتها، كانا السبب وراء سعيي إلى نيل شهادة البكالوريوس في الدراسات السياسية والاتصالات الإعلامية. (...) لم تكن مرشدتي فقط، بل كانت أيضاً صديقتي المفضلة، وأمّي الثانية. كنت قلقة على سلامتها، لكنني لم أتخيّل أبداً أنني سأفقدها في هذه الطريقة القاسية. فقد كانت صديقتي المقرّبة، وأكثر من استمتعت بالسفر معها، وكانت تزوّدني دائماً بحلول واقعيّة لأي مشكلات كنت أواجهها».
وتسلّط ماجد الضوء، على علاقة أبو عاقلة بصديقاتها وزميلاتها في المحطّة، وأسلوب تعاملها معهنّ، وطريقتها المثلى في التعاطي مع التقارير الصحافيّة، فيقع اختيارها على شهادة للصحافية جيفارا البديري، من لقاء عبر موقع «راصد» الإخباري، حيث تتحدّث عن شيرين: «بعد اقتحام أرييل شارون للحرم القدسي الشريف بأشهر، انتقلت إلى مكتب «الجزيرة». حينها، كانت شيرين تؤازرني عندما أخبرها بعدم قدرتي على القيام بتغطيات معيّنة، لأنّني أصغرها سنّاً بكثير، فتبادر إلى تحفيزي بقولها: «مع التدريب كلّ شي بصير». على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، كانت مواضيعنا التي نغطّيها تتمحور حول الجدار، والاستيطان، والأسرى، والشهداء، وسرقة الأراضي، وفصل القدس وعزلها، وإزالة الوصاية الهاشمية عن المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتحديداً مسجد الأقصى (...) لم يكن بإمكاننا أن نقارب هذه المواضيع من الزاوية نفسها في كلّ مرة، بمعنى أن نعيد ونزيد في القصة نفسها، لذا كنّا نبحث عن الإنسان في تلك القصص. هذا ما كانت تبحث عنه شيرين وتعلّمنا إيّاه: «ابحث عن الإنسان، هو من سيسرد القصّة، هو من سيروي للعالم قصّة فلسطين».
تُسلّط ماجد الضوء على الجانب الإنساني من أبو عاقلة، وهو جانب يصعب إخفاؤه بطبيعة الحال. تعاطت أبو عاقلة مع الحالات التي تولّت تغطيتها، بما يتناسب مع مسؤولياتها والتزاماتها الصحافيّة، فنقلتها بموضوعيّة أمام الكاميرا، أمّا من خلفها، فحرصت على تأدية واجبها الإنساني دون أن تتفاخر بالتزامها به. هذا ما تؤكده شهادات جمعتها ماجد، من فلسطينيين، عملت أبو عاقلة على نقل معاناتهم. من بين هذه الشهادات، شهادة أم أحمد خلال تشييع أبو عاقلة، وهي إحدى سُكّان مخيّم جنين، تعرفت إلى أبو عاقلة أثناء تغطيتها لاجتياح قوّات الاحتلال للمخيّم عام 2002. تقول أم أحمد: «والله خاضت معركة جنين من أول يوم لآخر يوم. بقت تدوّر معاي على أولادي، كانوا هدموا الدار وهُمَّ طيبين، أخدوهم درع بشري وهدموا الدار. صرت أنا صيّح وصرّخ، قالتلي (شيرين): أنا بدوّر معك عليهم، أعطيني صورهم». بقت مهدومة دارنا هدم جزئي، يعني بصعوبة تلقيت صورهم، وهي واقفة تستنّى. جيت أعطيها إياهن، صارت تسأل وتستفسر. لَقِت واحد بسالم وواحد بعوفر، صارت تقلّي، «هيّاهم بيّنوا». جيت أنا عانقتها، وصرت أبوّس فيها، قلتلها: «أنا بدي أنزل عرجلك أبوسها، لإنك لقيتيلي ياهم»، قالتلي: أعوذ بالله، هذا واجبي، من واجبي إنّي أدوّر عليهم وعغيرهم». وبقت تدوّر على المُصاب، تتصل بالإسعاف يسعفه، وتدوّر بين الركام عالشهدا، وهي ريقها ناشف، قنينة مي ما فينا نسقيها بمخيّم جنين، أواعيها توسّخت، رحت جبتلها أواعي. اللي عملته شيرين ما حدا عملو، وعزّت عتراب المخيّم، عحجار المخيّم، على كلّ فلسطين».
«أنا بنت القدس، وعايشة في القدس. وأكبر أمل بالنسبة لإلي، إني إتنقّل من مدينة لأخرى بدون ما أشعر إنو فيه حواجز بتوقّفني. القدس بالنسبة لإلي هي كل شيء، هي مدينتي، هي طفولتي، هي الألم الحاضر. إن شاء الله يجي اليوم، والقدس تكون مفتوحة لجميع الفلسطينيين». هكذا تتمنّى أبو عاقلة في أحد منشوراتها على فايسبوك. هو كتاب يجمع سيرة أبو عاقلة، ومعها يجمع سيرة كلّ صحافي فلسطيني يعمل تحت ظلّ الاحتلال المتوحش، وسيرة كلّ صاحب أرض، عاش في أرضه تحت وطأة الاحتلال المغتصب. تتوقّف ماجد عند أحلام أبو عاقلة، التي تتشابه مع أحلام جميع فلسطينيي الداخل. عبر متابعة منشوراتها على فايسبوك، تخبرنا الكاتبة أنّها حلمت بـ«وطن دون حواجز»، وبـ«بيت في القدس». تتتبّع منشوراتها، شهادات المحيطين بها، لتشاركنا تفاصيل إنسانيّة عنها، كحبّها للحيوانات الأليفة، ورهابها من المرتفعات. كما تسرد رحلاتها السنوية إلى إسطنبول برفقة صديقتها وزميلتها نجوان سمري، وخبرتها المتواضعة جدّاً في الطبخ.
يقدّم الكتاب سيرة أبو عاقلة بأسلوب يعتمد على البحث وجمع الشهادات والتقارير. في مقدمة الكتاب، تسلط ماجد، التي سبق أن أصدرت كتابين آخرين، الضوء على التحديات التي واجهتها في توثيق سيرة أبو عاقلة. باعتبارها لبنانية مقيمة في لبنان، واجهت صعوبة في التواصل مع فلسطينيي الداخل المقربين من أبو عاقلة. حاولت جاهدة إيجاد وسطاء يربطونها بهم، لكنها لم تجد تجاوباً كافياً. مع ذلك، بذلت قصارى جهدها لرسم أقرب صورة ممكنة لأبو عاقلة، معتمدةً على شهادات أدلى بها أشخاص في مقابلات ومنشورات وتقارير سابقة، بالإضافة إلى تقارير ومنشورات أبو عاقلة نفسها.
أبو عاقلة كانت ترتدي زيّها الصحافي أثناء تغطيتها لاقتحام قوّات الاحتلال مدينة جنين شمالي الضفة الغربية. كان يفترض أن يحميها هذا الزي، لكنّ الاحتلال، قتلها عمداً أمام أعين العالم أجمع. ثمّ حاول طمس الحقيقة وتضليلها تماماً كما حدث مع أكثر من 190 صحافياً في غزّة، ممَّن كانوا يرتدون زيّهم الصحافي حين قتلهم الاحتلال عمداً. الفرق الوحيد اليوم أنّه لم يعد قادراً على طمس الحقيقة، ولا يهتم أساساً بمحاولات تضليلها، فالعالم كلّه يشاهد، لكنّه يقف متواطئاً وغير مبالٍ.
المصدر: الاخبار اللبنانية