2024-11-14 10:33 م

أهالي غزة يحوّلون ركام منازلهم إلى بيوت طينية

2024-11-12

وسط مشاهد الدمار والمجازر التي لا تتوقف، وبين مشاهد التهجير والتجويع وانتظار نهاية حرب طال أمدها، تظهر إلى الواجهة بعض التجارب الملهمة في قطاع غزة، حيث الإصرار على المواجهة رغم كل الصعوبات وانهيار احتمالات وآمال النجاة أمام آلة القتل الإسرائيلية.

وفي أرضٍ لم يبق فيها شبر واحد خالٍ من آثار القصف الإسرائيلي، الذي دمر كل مقومات الحياة، تاركًا وراءه خرابًا ودماء وإبادة لكل مظاهر الوجود الإنساني، لم يكن أمام الفلسطينيين في غزة، الذين هُجروا قسرًا من منازلهم، سوى البحث عن سبل تمكنهم من الحفاظ على كرامتهم والتشبث بالأمل في النجاة، بطريقة تعكس صمودهم وإرادتهم.

صمود فوق الأنقاض
رامي أبو غزال، البالغ من العمر 37 عامًا، والذي يقيم في منطقة الزنة شرق خانيونس، قرر بناء منزل جديد لعائلته بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي منزله خلال حرب الإبادة على المدينة، وتمعن في تفجير ما حوله من مبان قائمة، رافقها تجريف الأراضي الزراعية، وتحويل المنطقة إلى خراب.

وفي حديثه لـ”نون بوست”، يوضح أبو غزال أنه قام ببناء منزله الجديد من الحجر والطين على غرار البيوت القديمة، حيث استخدم الحجارة التي جمعها من تحت أنقاض منزله المدمر، وخلط الطين بالتبن ليستخدمه في البناء بدلاً من الإسمنت.

أوضح رامي أبو غزال أن خيمته تعرضت للتجريف والحرق عدة مرات، وفي المرة الأخيرة، أثناء شروعه في بناء منزله من الحجارة والطين، تعرضت المنطقة لعملية توغل بري من جيش الاحتلال، مما أدى إلى جرف المنزل مجددًا.

لكن رغم هذه المآسي، أصر أبو غزال على إعادة بناء منزله بنفس الطريقة. فغطى سقفه بألواح “الزينقو” وغطى جدرانه بالنايلون لحمايتها من المطر والعوامل الجوية، كما أعاد تدوير الأثاث المدمر ليصنع منه أبوابًا وشبابيك، وذلك وسط استمرار أصوات القصف والمدفعية والطائرات المسيّرة الإسرائيلية.

كان مجدي بركة، البالغ من العمر 50 عامًا، جارًا لرامي أبو غزال، ويشاركه نفس الألم والمعاناة بعد أن فقد منزله هو أيضًا، وفي حديثه لـ”نون بوست”، روى بركة معاناته في بناء منزله الذي استغرق منه سنوات طويلة، ليأتي الاحتلال فجأة ويقصفه، محوّلاً إياه إلى كومة من الحجارة بلمح البصر، متسائلًا عن السبب وراء تدمير منازل المدنيين العزل.

ومع عائلته، يحاول بركة بناء غرفة من الطين ليأوي إليها مع أبنائه، بعدما جرفت دبابات الاحتلال خيمته خلال توغلها في المنطقة.

وفي وصفه لوضعه، قال بركة: “هذه الحرب أعادتنا إلى ما قبل 100 عام، إلى العصر الحجري القديم، في الوقت الذي كانت منطقتنا قد وصلت فيه إلى مرحلة من الرقي والحضارة التي لم نرَها من قبل”، وأضاف أن جيرانه سكنوا منازلهم قبل الحرب بشهور قليلة، وبعضهم لم يسعفهم الوقت للاستقرار فيها قبل أن يهدمها الاحتلال.

بينما يتنقل بين الخيمة وبيت الطين، أكد المسن عطران المدني من شرق خانيونس أن العيش في غرفة من الحجر والطين أفضل بكثير من العيش في خيمة، وأوضح أن حرارة الخيمة الشديدة في النهار لا يمكن تحمّلها، فهي ليست سوى بيت بلاستيكي يصلح للزراعة أكثر من كونه مكانًا صالحًا للحياة الإنسانية، خاصة وأن الخيمة التي يعيش فيها قد تعرضت للتجريف أكثر من مرة.

وفي حديثه لـ”نون بوست”، أضاف المدني أن الأبنية الطينية توفر درجة حرارة معتدلة تتناسب مع تغييرات المواسم، مما يجعلها أكثر راحة خاصة في فصل الشتاء.

خسر المدني منزله المكون من 4 طوابق، والذي كان يؤويه مع أبنائه وأحفاده، ومع استمرار الحصار وانعدام البنية الصناعية بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من عام، لم يتمكن من بناء غرفة باستخدام الحجارة والطين، بسبب نقص الحجارة الناتج عن إغلاق المصانع وتدمير البنية التحتية، ووسط هذه الظروف القاسية، اضطر إلى الاكتفاء ببناء مطبخ صغير وحمام لتلبية الحد الأدنى من احتياجات أسرته.

العمارة الطينية
يعدّ نمط البناء الطيني أحد أنماط العمارة التقليدية القديمة في العديد من دول العالم على وجه العموم، وفي فلسطين على وجه الخصوص، له تاريخ طويل، فقد كان النشاط العمراني على مرّ العصور يعتمد اعتمادًا أساسيًا على الطين، وكان طوب اللّبن أكثر مواد البناء شيوعًا في فلسطين واُستخدم في أرجائها كافة، ويعود تاريخيًا أقدم استخدام لطوب اللّبن في فلسطين إلى العصر الحجري الحديث.

“لبنة الطين” هي نوع من التربة الغنية بالطين، وتتميز بنعومة حبيباتها وقدرتها العالية على التماسك عندما تكون رطبة، بالإضافة إلى صلابتها عند الجفاف، وتتنوع ألوانها بين الأصفر والأحمر، مما يجعلها خيارًا طبيعيًا وفعالًا في البناء التقليدي.

قبل الحرب، كانت البيوت الطينية نادرة في قطاع غزة، حيث كان المتبقي منها يعد إرثًا حضاريًا من أجدادنا القدماء، يحتفي الناس به ويزورونه في رحلاتهم وسهراتهم، ويلتقطون فيه صورًا للذكرى، مثل منتجع الأكواخ على شاطئ رفح.

لكن، لم يكن أهالي قطاع غزة يتوقعون العودة إلى هذا النوع من العمارة التي تعود إلى مئات السنين، ونحن في القرن الـ 21، بعد أن شهد القطاع نهضة عمرانية وتطورًا تكنولوجيًا ملحوظًا شمل المباني والشركات والفنادق، التي باتت تتنافس في تصاميمها وديكوراتها مع العمارة الحديثة على مستوى العالم.

حجم الكارثة
في الوقت نفسه، يواصل الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة التي يشنّها على قطاع غزة منذ أكثر من عام، على نحو إبادي وتطهيري يسعى من خلاله إلى قتل أكبر عدد من الفلسطينيين وتهجير من يتبقى منهم في المنازل والأحياء، وذلك وسط تفاخر عدد من جنود الاحتلال بقصفهم لعمارات سكنية، وبدا ذلك واضحًا في الكثير من الفيديوهات على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعي، حيث أهدى أحدهم تفجير منزل فلسطيني لابنته في عيد ميلادها، وآخر أهدى التفجير لعشيقته.

وتعمّد الاحتلال أيضًا نسفه لمربعات سكنية وأحياء كاملة عن طريق القصف بالطيران الحربي، أو بقذائف المدفعية الإسرائيلية، أو باستخدام الألغام والروبوتات والبراميل المتفجرة التي تدمّر أكبر مساحة سكنية.

وبحسب آخر تقرير أصدره مكتب الإعلام الحكومي في غزة، كشف عن حجم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على القطاع، ووثّق التقرير تدمير مئات آلاف الوحدات السكنية والمنشآت الحيوية، مسلطًا الضوء على الأثر الكارثي للحرب.

وتسبّبت الحرب الإسرائيلية على غزة في تدمير 150 ألف وحدة سكنية بالكامل، ووفقًا للتقرير فقد تعرضت 200 ألف وحدة سكنية للتدمير الجزئي، فضلًا عن 80 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن، في وقت لا تزال فيه الحرب الإسرائيلية قائمة، وعمليات نسف المباني وتدميرها على رؤوس ساكنيها، مستمرة دون أي بوادر لوقف “إسرائيل” عن ارتكاب المزيد من الجرائم بحق نحو مليوني فلسطيني، على مرأى ومسمع العالم في بث حي ومباشر.


المصدر: نون بوست