بخلاف ما كان عليه الأمر خلال الأشهر الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى المصدر الوحيد للغذاء، وحتى حركة التجارة والاقتصاد؛ إذ لا مصانع ولا بضائع تجارية تدخل من المعابر بشكل منتظم، وأصلاً، تعطّلت مصالح كل الطبقات الاجتماعية، وأضحى الموظفون والتجار والعمال، بلا عمل ولا مدخول شهري. كما أن ما يُعرض في أسواق شمال القطاع وجنوبه مثلاً، معظمه من البضائع والمواد التموينية التي وصلت في شكل طرود غذائية يقوم الأهالي ببيعها للتجار المحليين، لتحصيل مبالغ نقدية يشترون بها ما يحتاجونه من ملابس وأغطية وأدوية، فيما يعتمدون في غذائهم على الطعام الذي توزّعه التكايا الخيرية بالمجان.
أمام هذا الواقع، باتت شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع، ورقة ابتزاز وتطويع، وأداة لصناعة واقع مجتمعي وأمني جديد يتحكم فيه جيش الاحتلال، الذي تعمّد أخيراً استهداف قوات التأمين الشعبية والعشائرية التي تعمل على حماية الشاحنات من النهب. وتكرّر، خلال الشهرين الماضيين، قصف عناصر الأمن الذين يتبعون لـ«اللجان الشعبية»، أثناء انتظارهم وصول شاحنات المساعدات لتأمين وصولها إلى مخازن المؤسسات الدولية. وبعد تكرار حالات الاستهداف واستشهاد العشرات من عناصر وحدات التأمين، يفتح جيش الاحتلال المجال لعصابات السرقة المنظمة لنهب كل ما تطاله أيديها من شاحنات، ما يسهم في خدمة الدعاية الكاذبة؛ حيث يظهر العدو وكأنه يسمح بمرور المساعدات إلى شمال القطاع، بينما لا تصل هذه الأخيرة إلى مخازن المؤسسات الموكلة بتوزيعها، بل تتفاقم حالة الفوضى والاقتتال الداخلية على خلفيتها.
أما في جنوب القطاع ووسطه، فقد تحوّلت ورقة المساعدات إلى أداة لصناعة «مافيا عائلية» تمارس أدواراً خطيرة. ووفقاً لمصادر محلية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن عدداً من العائلات المتنفذة، تقطع الطريق أمام شاحنات البضائع التجارية والمساعدات، وتجبر سائقي الشاحنات على دفع مبالغ مالية كبيرة جداً مقابل السماح بمرورها، ومن يرفض دفع تلك المبالغ تُنهب شاحناته. وتقول المصادر إن الأمر بدأ بحالات سرقة فردية، ثم تطوّر إلى عصابات عائلية منظمة ومسلحة تعمل في مناطق قريبة من جيش الاحتلال، من دون أي احتكاك مع العدو.
وفي هذا السياق، كشف تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» العبرية عن تواطؤ جيش الاحتلال مع عصابات في القطاع لنهب المساعدات الإنسانية، وقال إن «الجيش يتيح لعصابات في جنوب القطاع السيطرة على المساعدات ونهبها والحصول على إتاوات للسماح بمرورها». ولفتت الصحيفة إلى أن «عمليات السرقة والنهب تتم على بعد مئات الأمتار من الجيش وأمام أعين قواته»، ونقلت عن مسؤول في منظمة دولية تأكيده «مشاهدة مسلح ببندقية كلاشنكوف من أفراد العصابات يقف على مقربة من دبابة إسرائيلية جنوب القطاع». ووفقاً لتحقيق «هآرتس»، فإن جيش الاحتلال يجبر سائقي الشاحنات على المرور من مسارات يعلم سلفاً أنها مقطوعة من عصابات السرقة. بل إن منسق أعمال حكومة العدو، نصح المنظمات الدولية بالتعامل مع شركات وسيطة مع العصابات، ودفع الإتاوات لتأمين وصول المساعدات. كذلك، وصفت مؤسسة «الضمير» لحقوق الإنسان الواقع الجديد بأنه «نهج إسرائيلي»، وأكد مديرها، علاء السكافي، أن العدو «يتواطأ مع عصابات مسلحة لتسهيل نهب شاحنات المساعدات التي يسمح بدخولها»، مضيفاً أن «جيش الاحتلال يتعمّد استهداف قوات الشرطة وعناصر الأمن لإشاعة حالة من الفوضى، تسهم في استدامة الجوع وعدم وصول المساعدات إلى مستحقيها».
وفي سياق ذي صلة، ادعت «القناة 12» العبرية أن مجلس الوزراء السياسي والأمني وافق على توسيع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وذلك في أعقاب التهديد بفرض حظر على توريد الأسلحة من الإدارة الأميركية. وزعمت القناة أن المجلس قرّر توسيع مساحة المنطقة الإنسانية في جنوب القطاع ووسطه، ووقف الترحيل القسري حتى من مناطق القتال. وذيّلت الخبر بتصريح لرئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، قال فيه إنه «رغم فوز (دونالد) ترامب، فهناك حاجة إلى المناورة خلال الشهرين المقبلين ضد إدارة (جو) بايدن الحالية». وفي ما بدا مناقضاً تماماً لتلك المزاعم، توغّل جيش العدو، فجر أمس، في مدينة بيت حانون أقصى شمال غزة، وداهم أربع مدارس تؤوي الآلاف من النازحين، وأجبر سكانها على الإخلاء تحت دوي القصف وإطلاق النار، ثم قام بحرق تلك المراكز وإتلاف شاحنتي مساعدات كانتا قد دخلتا أول من أمس، لأول مرة، إلى المحاصرين منذ 40 يوماً.
المصدر: الاخبار اللبنانية