بعد غيابه عن البيت الأبيض لمدة 4 سنوات، منذ هزيمته أمام المرشح الديمقراطي، جو بايدن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، يعود الرئيس الأمريكي الجمهوري، دونالد ترامب، لحكم “سيّدة العالم”، مُحملًا بإرث ثقيل من عهده السابق، وبملفات عالمية مشتعلة، يشكّل الشرق الأوسط وأوكرانيا، الأكثر توترًا فيها.
وصنع ترامب التاريخ كأول رئيس منذ أكثر من 120 عامًا يعود إلى البيت الأبيض بعد الإطاحة به قبل أربع سنوات، بعد فوزه -غير الرسميّ بعد- أمام منافسته الديمقراطية كامالا هاريس.
وحسم المرشح الجمهوري السباق الرئاسي ليصبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، بعد فوزه في معظم الولايات المتأرجحة الرئيسية، وهي: أريزونا، جورجيا، ميشيغان، نيفادا، كارولينا الشمالية، بنسلفانيا، وويسكونسن، فيما لم تعلن النتائج الرسمية بعد، ولم تتكشف النتيجة النهائية لانتخابات.
ومن نافلة القول، أن العالم بأسره كان ينتظر نتيجة السباق للمكتب البيضاوي، الذي يؤثر بدوره في مجمل سياسات الكوكب بكل المجالات، ففي حين كانت المرشحة الديمقراطية، كاميلا هاريس، تمثل خط الاستمرارية لعهدي أوباما وبايدن، فإن ترامب “العائد بقوة”، يمثل في نظر خصومه وحلفائه وجه الفوضى والشعبوية السياسية، التي أسس لها وطبقها عمليًا منذ فوزه بانتخابات 2016، حتى إن منهجه السياسي بات ذا جمهور عريض في أنحاء العالم كافة، بما عُرف باسم “الترامبية السياسية”.
ترامب: معالم أساسية في العهد السابق
“الترامبية السياسية” التي أصبحت علامة مسجلة باسم الرئيس الأمريكي السابع والأربعين، دونالد ترامب، شكلت ما يمكن تسميته بـ”الخلطة الفريدة”، التي جمعت عدة متناقضات براغماتية، يمكن القول إنها لم تحصل في تاريخ الولايات المتحدة.
فالرئيس الذي حرص على التقارب مع أشد أعداء أمريكا شراسة، ورسم مشهدًا سرياليًا عند لقائه بزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وارتبط بعلاقة ودية شخصية مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، أعلن حربًا اقتصادية عنيفة ضد الصين، وشن حملة اقتصادية شعواء ضد الأوروبيين، الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة.
وتحت شعار “أمريكا أولًا”، لم يكن مفهوما “الحرب والسلام” يشكلان لدى ترامب أي أهمية تاريخية أو استراتيجية بالمفهوم الذي تعرفه الدول، إنما هما فقط مؤشران للاقتصاد، فالرئيس “التاجر” كان يقيس كل سياسته بهذا الميزان، ما كان بمثابة كلمة السر في سنواته الأربعة السالفة. ومن أجل كلمة السر هذه، كانت أول زيارة خارجية لترامب في 20 مايو/أيار 2017، نحو المملكة العربية السعودية، التي حظي فيها باستقبال استثنائي حافل، وكانت حصيلتها توقيع عقود واتفاقيات بقيمة 380 مليار دولار، وُصفت بأنها الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة.
وباعتبار أن الزيارة الخارجية الأولى لترامب في عهده الأول كانت إلى السعودية، فيمكن إجمال سياسته في الشرق الأوسط بعدة نقاط:
1- محاولة كسر النفوذ الإيراني
كان الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران من أهم وعود ترامب الانتخابية في 2016، وهذا ما فعله بالضبط في مايو/أيار 2018، حين فرضت إدارته عقوبات تاريخية ضد طهران، مقابل تنفيذ عدة المطالب، فيما امتدت سياسة مجابهة إيران نحو مناطق نفوذها العربية، لا سيما في حدث اغتيال قائد “فيلق القدس”، قاسم سليماني، الذي كسر قواعد الاشتباك بين الجانبين.
2- دعم لا محدود لـ”إسرائيل”
ثلاثة قرارات تاريخية شهدها عهد ترامب فيما يخص دعم “إسرائيل”: الأول هو الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” في ديسمبر/كانون الأول 2017، وهي الخطوة التي تجنب جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين الإقدام عليها، رغم ولائهم المُطلق لتل أبيب، ونقلت واشنطن سفارتها إلى القدس في مايو/أيار 2018.
أما القرار الثاني، فهو الاعتراف بسيادة “إسرائيل” على هضبة الجولان السورية المحتلة، في مارس/آذار 2019، فيما كان القرار الثالث هو “صفقة القرن”، في يناير/كانون الثاني 2020، التي وصفها ترامب بأنها “عظيمة وستنجح”، وتقوم على عدة نقاط تؤدي في مجملها إلى تصفية القضية الفلسطينية ونزع سلاح المقاومة، مقابل امتيازات اقتصادية.
3- اضطراب تجاه الديكتاتوريات
يمكن البدء هنا من سوريا، التي وصف ترامب رئيس نظامها، بشار الأسد، بـ”الحيوان” في مناسبتين، كما رد عسكريًا على هجوم خان شيخون الكيماوي في أبريل/نيسان 2017، عبر ضربة صاروخية لمطار الشعيرات في حمص، إضافة إلى توقيع قانون قيصر، في ديسمبر/كانون الأول 2019، الذي فُرِضت بموجبه أقسى العقوبات الاقتصادية ضد دمشق.
بالمقابل، اتخذ ترامب في أواخر شهور عهده، قرارًا صادمًا بسحب القوات الأمريكية بشكل نهائي من سوريا، واصفًا إياها بأنها “رمال متحركة لا فائدة منها”، وهو ما أثار مخاوف القادة العسكريين الأمريكيين بأن تملأ إيران فراغ الانسحاب، وتم التراجع عن القرار مع تنفيذ قرار تقليل عدد الجنود الأمريكيين في شمال شرق سوريا وقاعدة التنف جنوب البلاد.
وفيما يخص الاضطراب في الملف السوري تحديدًا، لا يمكن إغفال عدة نقاط في عهد ترامب، أبرزها يتعلق بوقف برنامج دعم المعارضة السورية المعتدلة، في يوليو/تموز 2017، واصفًا إياه بأنه “مُكلف ماليًّا وغير فعّال وخطير”، رغم أن صحيفة “واشنطن بوست”، وصفت القرار بأنه يأتي ضمن سعي ترامب لتحسين العلاقات مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
كما تميز عهد ترامب بتنسيق غير مسبوق مع تركيا فيما يخص سوريا، وتُوج هذا التنسيق بتوقيع اتفاق مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أوقفت بموجبه عملية “نبع السلام” العسكرية في شمال شرق سوريا، مقابل انسحاب الميليشيات الكردية وتسيير دوريات أمريكية تركية مشتركة في المناطق الحدودية.
وتبدو قضية الديكتاتورية في سياسة ترامب مجرد وصف اعتيادي، لا يستدعي اتخاذ أي إجراء تجاه الديكتاتور، ما دام هذا الديكتاتور يتماشى مع رغبة ترامب، لذلك لم يتوان عن إبداء إعجابه بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي وصفه بعبارة: “ديكتاتوري المفضّل”، إضافة إلى بناء علاقة قوية مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي قال عنه: “أداء الأمير محمد بن سلمان مُذهل، ولقاؤه يشرِّفني، وأعتبره صديقًا لي”، وذلك بعد شهور قليلة من ملف اغتيال الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في إسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018.
برنامج “العهد الجديد”
لا شك أن فترة ترامب الأولى شهدت الكثير من الأحداث المهمة في الشرق الأوسط والعالم، غير أن سنواته الأربعة بين 2016 و2020، كانت بمثابة “نزهة سياسية”، بالمقارنة مع الوضع الحالي.
سوف يدخل ترامب المكتب البيضاوي، بعد أداء اليمين الدستورية في يناير/كانون الثاني 2025، وقد مر على الحرب الروسية الأوكرانية مدة 3 سنوات، ومر على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة نحو عام و4 أشهر، وعلى بدء الحرب الإسرائيلية في لبنان نحو 5 أشهر، مع بلوغ التوتر بين “إسرائيل” وإيران أوجَه، وعدم وجود أي آفاق لتسويات سياسية في جميع الملفات السابقة، فما هي أهم الملامح التي رسمها ترامب لسياسته خلال “العهد الجديد”؟
في يوليو/تموز الماضي، تعهد ترامب بـ”إحلال السلام بالشرق الأوسط”، خلال لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كما حذّر من حرب عالمية ثالثة في حال عدم فوزه بالانتخابات.
ونقلت صحيفة “فايننشيال” البريطانية عن حلفاء ومستشارين من أوكرانيا والشرق الأوسط، أن لدى الرئيس الأمريكي “خطة عالمية متشددة” تقوم على ممارسة الضغوط على أصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها، فيما يؤكد معاونو ترامب أنه مع عودته إلى البيت الأبيض “سيتصرف بسرعة تصيب المرء بالدوار”، لوضع حد للحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط.
ولعل العبارة الأخيرة ترسم الملامح الرئيسية لخطط ترامب إزاء مناطق التوتر في العالم والشرق والأوسط، إذ تعهد مرارًا بإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، خلال 24 ساعة فقط، وانتقد حصول أوكرانيا على الدعم اللامحدود.
وفيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزة، شدد ترامب على ضرورة إنهائها، رغم أنه لم يشرح الطريقة التي سيتبعها، ورغم أنه تعهد كذلك بتوفير الدعم القوي لـ”إسرائيل”، ووصف نفسه دائمًا بأنه “أفضل صديق لإسرائيل”. كما شدد قبل 4 أيام من الانتخابات على ضرورة إنهاء الحرب في لبنان، قائلًا: “أعرف الكثيرين من لبنان، وعلينا إنهاء هذا الأمر برُمته”، و”سأضع حدًا للمعاناة والدمار في لبنان”.
وتبقى سياسة ترامب تجاه إيران هي الاستثناء الوحيد من حديثه عن “السلام العالمي”، وهذا ما يفسره تصريحه في 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين أكد أن على “إسرائيل” ضرب المنشآت النووية في إيران، ردًا على هجوم أطلقته الأخيرة تجاه الدولة العبرية في مطلع الشهر نفسه، وهذا ما يؤشّر على اتباع سياسة أكثر تشددًا تجاه طهران، رغم تصريحه في يوم بدء الانتخابات بأن “الولايات المتحدة لا تسعى لإلحاق الأذى بإيران، وتريدها أن تكون دولة ناجحة”.
ويرى مقال في مجلة “إيكونوميست” البريطانية، أن حلم بنيامين نتنياهو بضرب منشآت إيران النووية – وهو ما واجه فيتو قويًا من إدارة بايدن – قد يتحقق في عهد ترامب.
في العموم، تعهد ترامب قبل فوزه بـ”قيادة أمريكا والعالم نحو قمم مجد جديدة” و”إعادة السلام إلى الشرق الأوسط قريبًا جدًا” وإصلاح ما وصفها بـ”الأخطاء الكارثية لسلفه بايدن ونائبته هاريس”، لكن تبقى البرامج الانتخابية بالعادة مجرد وعود خلابة، ووحدها الأسابيع والشهور القادمة كفيلةً بترجمة وعود ترامب إلى حقائق واقعية، أو يصدق تكهن الرئيس الأسبق، باراك أوباما، عندما علق على فوز ترامب في ولايته السابقة بالقول: “سيصطدم بواقعٍ يخالف وعوده الانتخابية”.
المصدر: نون بوست