2024-10-07 09:28 ص

حصاد طوفان الأقصى.. مكاسب فلسطين كقضية تحريرية

2024-10-07

لم تكن الحرب في غزة كبقية الحروب التقليدية التي عرفها العالم، سواء من حيث التخطيط اللوجستي الاستراتيجي والتنفيذ الاستخباراتي، أو الأداء العملياتي الميداني، ولا من حيث النتائج، فقط، بل هي مغايرة تمامًا حتى من حيث معايير النصر والهزيمة، عسكريًا وسياسيًا، وهذا ما يجعلها واحدة من أهم المعارك التي شهدها العالم خلال العقود الماضية.

وبعيدًا عن النجاحات التي حققها جيش الاحتلال ميدانيًا، والتي تعود في جذورها إلى الاستئساد على المدنيين، لزيادة حصيلة الضحايا (معظمهم من الأطفال والنساء) إلى أرقام غير مسبوقة في مسيرة المواجهات مع المقاومة، واللجوء إلى سياسة الأرض المحروقة كنوع من الانتقام الذي يعكس حالة الألم التي تسيطر على المجتمع الإسرائيلي، إلا أن نتنياهو وحكومته فشلا بعد مرور عام كامل من الحرب في تحقيق أهدافها المعلنة وهي (القضاء على حماس – تحرير المحتجزين – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي).

وبينما تدخل الحرب عامها الثاني وفي ظل الصورة السوداوية التي تخيم على المشهد، ورغم الكلفة الباهظة التي دفعها الفلسطينيون على مدار عام كامل، بشريًا وعمرانيًا، ثمة نجاحات ومكاسب عدة على كل المستويات، حققتها القضية الفلسطينية والمقاومة معًا من خلال عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب إبادة مكتملة الأركان.

تحطيم أسطورة “إسرائيل” المزيفة
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان الكيان المحتل يعيش واحدة من أكثر محطاته التاريخية زهوًا وانتشاءً، تفوق استخباراتي غير مسبوق، تحجيم المقاومة بشكل أو بآخر، فرض قواعد اشتباك تُميل كفة التوازنات لصالحه، تمدد إقليمي وانخراط استثنائي في الخريطة العربية بفعل التطبيع.

وطالما صورت الآلة الإعلامية الإسرائيلية منظومتها الأمنية (جهاز الأمن العام “الشاباك” – جهاز الاستخبارات الخارجية والمهام الخاصة “الموساد” – شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” – “وحدة 8200″(التابعة للاستخبارات العسكرية) – الوحدات الاستخباراتية الخاصة) على أنها الجدار الذي لا يمكن اختراقه، وسوقت لتلك السردية لخدمة مشروعها الاستيطاني (الكيبوتس) عبر جذب اليهود من مختلف دول العالم للعيش في الأراضي المحتلة.

حتى الجبهة الداخلية كانت قبل الطوفان أحد أبرز محاور القوة الإسرائيلية، وواحدة من الجدران الصلبة التي يرتكز عليها الكيان المحتل لتعظيم إمكانياته وقدراته العسكرية والسياسية في مواجهة التحديات التي يواجهها على المستويات كافة، ففي مجتمع مهلهل مثل المجتمع الإسرائيلي تصبح الجبهة الداخلية ورقة فاعلة وسلاح رئيسي.

جاء الطوفان ليطيح بكل هذا، الصورة المزيفة عن قوة الاستخبارات الإسرائيلية، واللوحة الوردية عن الجدار الصلب للمؤسسة العسكرية والأمنية بصفة عامة، والجبهة الداخلية المتماسكة التي لا يمكن الاقتراب منها، لتغرق دولة الاحتلال في مستنقع من التشتت والشتات والارتباك وفقدان التوازن في غضون دقائق معدودة.

ويومًا تلو الآخر بدأت الإمبراطورية القوية المزعومة تفقد سمعتها شيئًا فشيئًا، حيث باتت في مرمى الاستهداف من كل اتجاه في ظل فشل أنظمة الدفاع الجوية في حماية سمائها من صواريخ ومسيرات جبهات المقاومة المختلفة، فيما لم تعد تل أبيب بمعزل عن رشقات فصائل المقاومة، ولأول مرة منذ سنوات طويلة تضيق الملاجئ في مختلف المناطق الإسرائيلية عن استيعاب الملايين من الفارين هربًا من الاستهدافات المتتالية بين الحين والآخر.

وتحول الجيش الذي لا يقهر إلى مثار سخرية الجميع، داخل “إسرائيل” وخارجها، الانقسام ذاته على المستوى السياسي بين الحكومة والنخبة، حتى الجبهة الداخلية تعرضت لتفسخات وتشققات لم تعرفها من قبل، فانقسم المجتمع الإسرائيلي إلى أطياف وتيارات متناحرة، وصلت إلى التراشق والسجال وتبادل الاتهامات وقطع الطرق والدعوات لإضرابات عامة والتحريض على التصدي لنتنياهو وحكومته.

عودة القضية الفلسطينية للأضواء
تعرضت القضية الفلسطينية خلال العقد الأخير لمخططات تشويه وتسطيح ممنهجة تمهيدًا لتمييعها ثم تغييبها عن المشهد بصورة كاملة، ساعد على ذلك موجات التطبيع التي شهدتها الساحة منذ عام 2020 عبر اتفاق أبراهام الذي أدرج أربع دول عربية دفعة واحدة (الإمارات – البحرين – المغرب – السودان) في حظيرة التطبيع المجاني، وسط توقعات بضم دول أخرى لهذا المسار في مقدمتها السعودية.

في تلك الأجواء انزوى الحديث عن القضية الفلسطينية بشكل كبير، ولم يعد لها حضور فعال على موائد النقاش على المستويات كافة، عربيًا وإقليميًا ودوليًا، تزامن ذلك مع الحديث عن مخططات استيطانية جديدة يبتلع بها المحتل أراضي الفلسطينيين في الضفة وغيرها، ومن هنا كان التصدي لهذا المخطط مسألة غاية في الأهمية للحفاظ على القضية ومسارها.. وكان الطوفان كلمة السر.

المستوى الدولي.. فرضت القضية الفلسطينية نفسها على منصات المنظمات الدولية: مجلس الأمن والأمم المتحدة، وأروقة المحاكم الدولية، الجنائية والعدالة الدوليتين، وتحولت القضية إلى الملف الأكثر حضورًا، وبعدما كان التخوف من وأدها بالكلية، تغيرت بوصلة الحديث للإشارة إلى مسألة حل الدولتين وحق الشعب الفلسطيني في الحياة وفي دولة مستقلة.

المزاج الشعبي العالمي فلسطيني.. بالتوازي مع الحضور الدولي على منصات المؤسسات الأممية، كان المزاج الشعبي العالمي يهتف بدعم فلسطين وغزة ويندد بإجرام “إسرائيل” وانتهاكاتها الوحشية، وباتت فلسطين أحد أهم أولويات جيل Z وشباب الجامعات في الدول الغربية، والذي لم يسمع قط قبل ذلك عن دولة تسمى فلسطين ولا يعرف شيئًا عن الوجه العنصري الآخر لـ”إسرائيل” التي كانت تُصور على أنها معقل الديمقراطية في العالم.

وفجأة افترش الطلاب في عشرات الجامعات بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الحرم الجامعي وساحات الجامعات ونصبوا بها الخيام دعمًا لفلسطيني غزة، وتحملوا لأجل القضية الكثير من العقوبات والخسائر، هذا بخلاف التظاهرات المليونية التي أغلقت شوارع لندن وباريس وواشنطن ونيويورك وبرلين وغيرها من عواصم العالم.

وفي غضون أيام قليلة من الطوفان، تحولت القضية الفلسطينية من مسألة مهمشة داخل أدراج المؤسسات الدولية وفي ذيل اهتمامات الشارع الغربي إلى القضية الأهم والمسألة الأكثر حضورًا على المسارات كافة، وبات النقاش حولها وحول سبل حلها أولوية دولية وخيار ملح للجميع.

موجة الاعتراف بفلسطين
كان للطوفان الفضل في نشوب موجة اعترافات جديدة بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة، حيث أعلنت أيرلندا والنرويج وإسبانيا اعترافهم الرسمي بدولة فلسطين المستقلة، لتنضم إلى ثماني الاتحاد الأوروبي السابق الذين اعترفوا بفلسطين وهم: بلغاريا وبولندا وتشيكيا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وإدارة جنوب قبرص الرومية والسويد، كما أعربت بعض الدول الأخرى عن نيتها دراسة خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعدما كانت من المحرمات في السابق.

وتزامن هذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية مع تقليص واضح للدعم الدولي للكيان المحتل، لا سيما في دول أمريكا اللاتينية التي جمدت بعضها العلاقات مع تل أبيب، فيما هددت الأخرى بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، لتفقد دولة الاحتلال حضورها في تلك المنطقة التي نجحت خلال السنوات الأخيرة في تحقيق اختراقات دبلوماسية فيها بفضل الدعم الأمريكي.

وكما هو معروف فإن أي دعم وتأييد واعتراف بالدولة الفلسطينية يصاحبه في المقابل عزلة لدولة الاحتلال التي وجدت نفسها ولأول مرة في موقف “الدولة المنبوذة” شعبيًا وسياسيًا، وهو ما أجهض عقودًا طويلة من العمل الدبلوماسي ومئات المليارات من الدولارات التي أنفقها الاحتلال لتسويق صورته دوليًا.

خسائر عسكرية واقتصادية فادحة
تكبد جيش الاحتلال في حرب غزة على مدار هذا العام خسائر لم يتكبدها منذ احتلال الأراضي الفلسطينية، حيث تشير التقديرات الرسمية الصادرة عن جيش الاحتلال إلى أن 690 جنديًا وضابطًا قتلوا منذ بداية الحرب، بينهم 330 بالمعارك البرية في قطاع غزة، كما استقبل قسم إعادة التأهيل في وزارة الدفاع الإسرائيلية 10 آلاف و56 جنديًا جريحًا منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بمعدل أكثر من ألف جريح جديد كل شهر.

ووفق بيانات وزارة الدفاع الإسرائيلية يعاني أكثر من 3700 من المصابين من إصابات في الأطراف، بما في ذلك 192 إصابة في الرأس، و168 مصابًا بجروح في العين، و690 مصابًا بجروح في الحبل الشوكي، و50 مصابًا من مبتوري الأطراف يعالجون في قسم إعادة التأهيل، فيما قالت هيئة البث الإسرائيلية إن 35% من الجرحى الجنود يعانون من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، و37% يعانون من إصابات في الأطراف.

أما على المستوى الميداني فسحب جيش الاحتلال عقب عملية طوفان الأقصى أكثر من 15 لواءً عسكريًا من القطاع بعد اشتباكات ضارية وخسائر بشرية ومادية كبيرة، شملت تلك الانسحابات ألوية بارزة لها ثقل عسكري كبير داخل جيش الاحتلال مثل لواء غولاني واللواء السابع ولواء 188 (باراك) ولواء المظليين (اللواء 35) ولواء غفعاتي.

أما على المستوى الاقتصادي فأظهرت بيانات لوزارة المالية الإسرائيلية أن كلفة الحرب منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى نهاية مارس/آذار الماضي فقط بلغت أكثر من 270 مليار شيكل (73 مليار دولار)، بمعدل وسطي 427 مليون دولار يوميًا، فيما قدرت وزارة الأمن الإسرائيلية الكلفة اليومية للحرب بمليار شيكل (270 مليون دولار)، كما رفعت وزارة الدفاع موازنتها في يونيو/حزيران الماضي من 87.45 مليار شيكل (23.52 مليار دولار) إلى 98.75 مليار شيكل (26.56 مليار دولار) وهو ما يعادل – تقريبًا – 72.76 مليون دولار يوميًا، هذا بخلاف تراجع تصنيف الاقتصاد الإسرائيلي وارتفاع معدلات البطالة والتضخم بصورة كبيرة.

جدير بالذكر أنه رغم تلك الكلفة، عسكريًا واقتصاديًا، كان الفشل سيد الموقف، إذ لم يحقق الاحتلال الأهداف المنشودة من الحرب، فلا حرر أسراه ولا قضى على حماس ولا تزال رشقات المقاومة تقصف تل أبيب وعسقلان وغيرها من مدن الغلاف رغم الخراب والدمار الذي فرضه المحتل في معظم مناطق القطاع.

مكاسب رغم الثمن الفادح
في قضايا التحرر الوطني طويلة الأمد مثل القضية الفلسطينية لا تُقيم الأمور وفق الأثمان المدفوعة نظريًا، الخسائر المادية والبشرية، لا سيما أن المواجهة في أغلبها تكون بين جيش نظامي مدجج بأعتى أنواع السلاح وفصيل مسلح مقاوم، وإنما بالنفس الطويل وما يتحقق في ساحات المعارك الممتدة عبر سنوات من نقاط تراكمية يتم جمعها جولة تلو الأخرى، تقود في النهاية إلى التحرر الكامل من ربقة الاستعمار.

وعلى مدار عام كامل من الحرب في غزة، تكبد الفلسطينيون خسائر باهظة، حيث وصل عدد الضحايا إلى 41870 شهيدًا و97 ألفًا و166 مصابًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فضلًا عن أكثر من مليوني نازح، وعشرات آلاف الأطفال والنساء على قوائم الموت جوعًا، بجانب تدمير ما يزيد على ثلثي البنية التحتية للقطاع، علاوة على خسارة المقاومة للمئات من مقاتليها وبنيتها التسليحية.

وفي المجمل ورغم تلك الخسائر الباهظة والمكلفة والثمن الفادح، فإن الطوفان نجح في تغيير قواعد اللعبة وفرض معادلة ردع مختلفة، لم يعد فيها جيش الكيان المحتل هو الأقوى (خسائر بالجملة في صفوف الجنود والضباط والعتاد العسكري) ولا استخباراته هي الأعظم (الفشل في تحرير الأسرى ومعرفة أماكنهم والوصول إلى قادة المقاومة)، ولا جبهته الداخلية هي الأكثر تماسكًا (تفسخ داخلي وانقسامات بين النخبة والمستوى العسكري والشعبي).. لتبقى حرب غزة جولة استثنائية في معركة التحرير أيًا كانت النتائج.


المصدر: نون بوست