2024-11-21 05:00 م

حاجز نتساريم.. قطّع أوصال غزة وجعل لم شمل العائلات مستحيلًا

2024-10-03

يتمنى الغزيون الذين فرّقهم الاحتلال الإسرائيلي داخل البقعة الجغرافية الواحدة، بلقاء واحد يجمعهم بعد أن فصلهم حاجز نتساريم الذي أقامه الجيش الإسرائيلي، ليفصل جنوب ووسط القطاع عن شماله.

فماذا يعني أن يفصل الغزي عن أهله حاجز وجنود؟ ماذا يعني ألّا يفصلهم ساعة ونيف عن بعضهم البعض ولا أمل باللقاء حتى تأذن “إسرائيل”؟ يسألون أنفسهم على الدوام منذ أكثر من 10 أشهر هل سنموت حقًّا مشتاقين لعناق أخير مع عوائلنا في الجنوب؟ هل المعجزات تحدث وسيزول الحاجز لنعود من جديد نسرح في أرض غزة بحرّية دون قيود؟

هنا نحكي مع خديجة منصور، فتاة وقف الحظ معها فالتقت بشقيقها يوسف النازح في الجنوب لبضع دقائق على أرض شمال غزة التي رفضت النزوح منها، وهذا لا يحدث مع الجميع، فهي محظوظة كون شقيقها يعمل مع المنظمة الدولية “أوتشا” كسائق، فدخل رفقة وفد أجنبي لشمال غزة في رحلة عمل قصيرة، فكان اللقاء المهيب الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

لقاء شمال غزة بالجنوب “معجزة”
في 17 يوليو/ تموز 2023، وفي تمام الساعة الثانية ظهرًا، كان اللقاء الذي وصفته خديجة بالمبكي، حيث تقول لـ”نون بوست”: “أخبرني شقيقي يوسف قبلها بيوم أن منظمة “أوتشا” نسقت مع الاحتلال للدخول إلى شمال القطاع، وأنه سيكون من ضمن سائقين السيارات، فرحت جدًّا وأخبرته أنني أنتظره بفارغ الصبر، خفت جدًّا أن يحتجزهم الاحتلال على حاجز نتساريم لساعات ثم يرجعهم للجنوب مرة أخرى فلا أحظى باللقاء المنتظر، ولكن بعد قلق وتوتر دخل يوسف شمال غزة”.

تكمل: “انتظرته في مجمع الصحابة وكان قد طلب مني أن اصطحب أطفالي الخمسة ليراهم، لكن لم تسنح الظروف ذلك، فكنت وحدي، وحين رأيته ركضت نحوه وبكيت وكأنني أبكي للمرة الأولى في حياتي، كان العناق لدقائق ولم تسنح لنا فرصة للحديث، ثم غادرت وانطلق هو لسيارة العمل نحو وجهته”.

أرادت خديجة ألا تتركه من بين يديها أبدًا، وأن يبقى معها بالشمال وليحدث ما يحدث، إذ رأت فيه وجه والدتها وشقيقاتها وأشقائها كلهم، كان اشتياقها وصل حد السماء، فتضيف لـ”نون بوست”: “كنت أود أن أخبره بكل القصص التي كتمتها بقلبي، وأشكو له عن فترة انقطاع الاتصالات، عن النزوح والأحزمة النارية والمجاعة، لكن لم يسمح وقته بكل ذلك، اختصرت كل الأحاديث بشتقتلك يخو.. سلم على الحبايب كلهم.. ترجعولنا بالسلامة”.

بعدها توجّه يوسف برفقة الوفد الأجنبي الذي إلى عيادة وكالة الغوث الدولية “الأونروا” في معسكر جباليا شمالي غزة، ليتلقي بوالده أيضًا، تقول خديجة: “كتير كان لقاء مؤثر أنا ما حضرته إلا بفيديو بس عيطت كتير، حتى الوفد الأجنبي اللي كان حاضر بكى مع أبويا ويوسف لحظة لقائهم بعد ما يقارب العام من المنع”.

في السياق ذاته، وفيما يتعلق بدخول المنظمات الدولية إلى شمال غزة، أكّد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية على أن فريقًا له مشتركًا مع الوكالات قد استطاع الدخول للشمال لأول مرة منذ 4 أسابيع، ولم يستطع العبور إلا بعد انتظار دام لما يزيد عن 5 ساعات قبل نقطة التفتيش عند حاجز نتساريم على الطريق الساحلي.

وقال المكتب إنه خلال النصف الأول من شهر سبتمبر/ أيلول 2024، تم التنسيق لحوالي 50 مهمة تقوم بها 7 وكالات تابعة للأمم المتحدة، لكن لم تستطع غير ربعها من دخول شمال غزة، وحتى عندما عبرت الحاجز الإسرائيلي واجهت البعثات المتجهة للشمال عقبات عديدة منها إيقاف بعض القوافل تحت التهديد، وتعمُّد إطلاق النار عليها، وإجبارها على الانتظار لوقت طويل ما يعرض موظفي الأمم المتحدة للخطر.

خديجة واحدة من 2 مليون غزاوي فرّقهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بإقامته لحاجز نتساريم، لم يكتفِ بعمليات القتل الممنهجة التي استهدفت النساء والأطفال والرجال والشيوخ، بل جعل باقي الأحياء يتمنون لحظة لقاء بعوائلهم الذين يسكنون ذات الأرض، فأصبح أسمى أمل لهم العودة للدار وللأهل، فنغّص عليهم حياتهم وهم أصلًا ينظرون في عيني الموت.

تخبرنا خديجة أن كل أشقائها وشقيقاتها بأطفالهم جميعًا في جنوب غزة، إضافة إلى والدتها، وبقيَ والدها في الشمال رفقتها وزوجها وعائلته، فتكمل لـ”نون بوست”: “أُصيبت والدتي وابن أخي في استهداف مباشر بالمناطق الذي ادّعى الجيش أنها آمنة، ويوم إصابة أمي كانت خائفة عليّ وأسرتي جدًّا، ولكن قدّر الله أن تصاب هي وتفقد عينيها ويتشوّه وجهها الجميل، فسافرت ضمن كشوفات الجرحى للعلاج في قطر مع ابن أخي المصاب أيضًا”.

نزوح وموت في حضرة الاشتياق
وبينما كانت خديجة تتمنى أن ترى وجه والدتها لتعانقها وتبكي، وفي أوج اشتياقها انقطع الاتصال بين الشمال والجنوب، فلم تعد تعلم خبرًا عن والدتها وكل العائلة القابعة هناك تواجه الأحزمة النارية العنيفة. تقول لـ”نون بوست” عن النزوح: “رفضنا الخروج من البيت ولم يبقَ أحد غيرنا في المنطقة، حتى وقعت القذائف علينا، فاضطررنا لمغادرة المنزل، وضعنا والدة زوجي على كرسيها المتحرك، وقلت لأولادي اركضوا ولا تنظروا خلفكم مهما حصل، فلاحَ وجه أمي أمامي في ذلك النزوح ولعنت الحاجز الذي فرقنا”.

وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وبينما خديجة وأسرتها تركض في الشوارع بحثًا عن مكان آمن قليلًا، وقفت في الشارع لتأخذ أنفاسها، وإذ بشخص من المعارف يقول لها: “عظّم الله أجرك.. الله يصبرك ويرحم إبراهيم”. جَمَدَت هنيهة، ثم استوعبت أنه يعزيها بشقيقها، ثم توالى الشهداء من عائلتها يحلقون إلى السماء بدءًا من شقيقها مرورًا بزوجة عمّها التي أصرّت البقاء بمنزلها، قائلة لها: “بدي استشهد في بيتي”، إضافة إلى أبناء عمّها الذين استشهدوا أيضًا.

لم تودّع خديجة الشهداء فحسب، بل ودّعت بيتها أيضًا الذي قصفه الجيش الإسرائيلي، وهي التي لم تنتهِ من أقساطه بعد، ثم جاءها خبر قصف منزل أهلها وأشقاء زوجها ومنازل أشقائها، 8 منازل أصبحت ذكرى لأصحابها، فأُضيف إلى قائمة اشتياقها ضيف جديد معنوي تشتاقه.

تعيش الآن على أمل اللقاء الجديد مع شقيقها يوسف، وتأمل أن يدخل شمال غزة قريبًا جدًّا، فتقول: “التنسيقات متاحة للمؤسسات حاليًا، لكن مؤسسة شقيقي تمّ رفض التنسيق لها لدخول شمال غزة مرات عديدة، لكني ما زلت أملك الأمل”.

تنهي حديثها لـ”نون بوست”: “حبوا بعض، الموت أقرب لنا من أي شيء، وأنا بتمنى ينشال الحاجز لحتى أقدر أشوف كل أهلي ويرجعوا لشمال غزة بسلامة وأمان”.

يُذكر أن محور نتساريم “مفرق الشهداء” هو ممر يفصل مدينة غزة وشمالها عن وسط وجنوب غزة، وتمّت تسميته بنتساريم على اسم مستوطنة إسرائيلية كانت قائمة في تلك المنطقة قبل عام 2005، إذ أُنشئت في العام 1972 وتم الانسحاب منها في العام 2005، لتتحول إلى منطقة زراعية بها بعض المنشآت، لكن غالبيتها أراضٍ، أما عن تسميتها بـ”مفرق الشهداء” بسبب كثرة الشهداء في انتفاضة الأقصى الذي كان أبرزهم محمد الدرة وسائق الإسعاف بسام البلبيسي.

عاد الاحتلال إلى نتساريم منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأنشأ الممر الفاصل الذي فصل غزة وشمالها عن الجنوب، حيث جرف الجيش الإسرائيلي مساحات كبيرة محيطة لنتساريم، ووضع قاعدة عسكرية للجنود تمنع الحركة بين الشمال والجنوب، ومن يفكر بالعودة للشمال واجتياز الحاجز تقتله قوات الجيش المتمركزة على الفور، ويوجد عدد في عداد المفقودين من أرادوا التوجه للشمال عبر الحاجز.

وعندما كانت هناك حركة نزوح من مواطني الشمال إلى الجنوب كان يتعرض كثيرون للتنكيل والاعتقال والتفتيش المذل، والسرقات من قبل جنود الجيش الإسرائيلي، وذلك بحسب شهادات مواطنين غزيين، كما يضيّق الاحتلال الخناق على سيارات الإسعاف المنسق لها للتوجه للجنوب، فتوقفها عند حاجز نتساريم وتمنعها من المرور إلا بعد ساعات طوال.

المصدر: نون بوست