أطلقت إيران وابلًا من الصواريخ الباليستية إلى أهداف في عمق “إسرائيل”، مساء أمس الثلاثاء 1 أكتوبر/تشرين الأول، أصابت عددًا من المواقع العسكرية والأمنية في العاصمة تل أبيب وبعض المناطق الأخرى، فيما قال الحرس الثوري إن العملية، التي أسماها “الوعد الصادق 2″ نُفّذت بناء على قرار من المجلس الأعلى للأمن القومي ودعم الجيش، ردًا على استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، والأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله.
وتناقلت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي عشرات المقاطع المصورة التي تنقل حجم الإصابات التي أحدثتها تلك الضربات، التي تعد الأكبر منذ بداية الحرب في غزة قبل عام تقريبًا، وحالة الهلع التي خيمت على الإسرائيليين الذين هرول الملايين منهم صوب الملاجئ هربًا من القصف الذي استمر لأكثر من نصف ساعة متواصلة.
وتباينت الرؤى بشأن الخسائر الناجمة عن تلك العملية، بين تقليل أمريكي إسرائيلي ومبالغة إيرانية، وسط توعد رئيس حكومة الاحتلال وجنرالات جيشه بالرد السريع والقاسي على طهران جراء تلك الضربة، التي رغم أنها كانت متوقعة فإنها باغتت الجميع.
وكانت إيران قد وجدت نفسها في حجر زاوية ضيق للغاية، وضع سمعتها وسيادتها في خطر، جراء تلكؤها في الرد على ما تعرضت له من ضربات مؤخرًا على أيدي الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي قلص ما لديها من خيارات الصمت الاستراتيجي وحشرها في مواجهة خيار واحد فقط، الرد الرادع، والذي يجب أن يكون متوازيًا مع حجم الضربات التي تلقتها.. فهل جاء الرد مختلفًا فعلًا؟ وما أوجه الشبه والاختلاف بين ردي إبريل/نيسان وأكتوبر/تشرين الأول؟
تفاصيل الضربة
بدأت العملية تقريبًا عند الساعة السابعة والنصف مساء بتوقيت القدس المحتلة، حيث بدأت صافرات الإنذار تدوي في جميع مدن الكيان المحتل، فيما تباينت التقديرات بين الإعلام الإسرائيلي وجيش الاحتلال بشأن عدد الصواريخ التي أطلقت من الأراضي الإيرانية، حيث تأرجحت بين 200-400 صاروخ، منها قرابة 180 صاروخًا باليستيًا.
وبحسب ما نقله التلفزيون الإيراني فإن الحرس الثوري الإيراني استخدم في الهجوم، ولأول مرة منذ بداية الحرب في غزة، صواريخ “فتّاح” الفرط صوتية (تعد من أبرز إنجازات الصناعات العسكرية الإيرانية) ودمر بها الدرع الصاروخي لمنظومة السهم 2 و3 الإسرائيلية.
ودوت صافرات الإنذار في 1864 موقعًا في “إسرائيل”، شملت تلك المواقع عدة مدن على امتداد فلسطين التاريخية، أبرزها تل أبيب والقدس المحتلة، وكذا مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية، بحسب هيئة البث الرسمية، فيما أشار الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري، أن الصواريخ الإيرانية أصابت بشكل مباشر مناطق في وسط وجنوبي “إسرائيل”، مضيفًا أن الجيش سيرد على الهجمات الإيرانية.
أما الحرس الثوري وفي بيان له أشار إلى أن الهجمات استهدفت “مواقع استراتيجية” داخل الأراضي المحتلة، منها قواعد جوية وقواعد رادارية و”مراكز المؤامرة والتخطيط لاغتيالات ضد قادة المقاومة”، لافتًا إلى أنه “رغم أن المنطقة كانت تحرس بأحدث منظومات الدفاع الجوي لكن 90% من الصواريخ قد أصابت أهدافها بنجاح، والكيان الصهيوني قد أصابه الرعب بسبب السيطرة الأمنية والعملياتية للجمهورية الإسلامية الإيرانية” متوعدًا بأن “أي حماقة من العدو ستواجه الرد بشكل مدمر وباعث على الندم”.
وأحدثت الضربة حالة من الهلع في شوارع تل أبيب ومحيطها، دفعت نحو أكثر من 8 ملايين إسرائيلي للاختباء داخل الملاجئ، فيما أفادت هيئة البث الرسمية أن الكابينت الأمني والسياسي كان ينعقد في مقر محصن تحت الأرض في جبال القدس للمرة الأولى منذ بداية الحرب.
وبعد قرابة نصف ساعة من القصف المتواصل، خرجت طهران لتحذر من أن أي رد إسرائيلي سيقابل بتصعيد أكثر خطورة، معلنة بشكل ضمني غير مباشر انتهاء الرد على عمليات الاغتيالات التي طالت قادة المقاومة، فيما توالت ردود الفعل الإقليمية والدولية المنددة والمحذرة من تبعات خروج التصعيد عن السيطرة، في الوقت الذي اكتفت فيه تل أبيب بالتهديد والتوعد بالرد على تلك العملية.
إبريل-أكتوبر.. ما الفارق؟
ثمة خلافات محورية بين رد طهران الأول على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق إبريل/نيسان الماضي والرد الأخير، وذلك من خلال 3 محاور رئيسية:
أولًا: عنصر المباغتة
في إبريل/نيسان الماضي كانت إيران قد أبلغت عددًا من الدول، ومنها الولايات المتحدة، بموعد الضربة قبلها بعدة أيام، بل كان الجميع يتابع مسار المسيّرات والصواريخ المطلقة من الأراضي الإيرانية بالصوت والصورة، ما منح الاحتلال الوقت الكافي لتجهيز كل أوجه الاستعداد للتصدي لتلك الضربة، وسط حالة سخرية حادة من هذا الأمر الذي وصفه البعص بـ”المسرحية”
أما الضربة الحالية فلم يتم الإفصاح عنها إلا قبل دقائق قليلة لا تتجاوز ساعة أو ساعتين على أقصى تقدير، وهو ما منحها جزئيًا عنصر المباغتة وإن لم يكن بالشكل الكامل، الأمر الذي كان له انعكاساته الواضحة على حالة الارتباك سواء على المستوى الشعبي أم العسكري.
ثانيًا: الأسلحة المستخدمة
استخدمت طهران في الرد الأول قبل 6 أشهر العشرات من الطائرات المسيرة (185 طائرة تقريبًا) التي تحتاج بطبيعة الحال إلى ساعات طويلة من الطيران لقطع المسافة الكبيرة بين إيران والأراضي الفلسطينية المحتلة (تتراوح المسافة بينهما من 1724 إلى 2150 كيلومترًا)، بجانب 36 صاروخ كروز و110 صواريخ من نوع خيبر.
أما الضربة الأخيرة فاستخدمت إيران فيها ولأول مرة منذ بداية الحرب صاروخ “فتّاح”، أول صاروخ باليستي إيراني فرط صوتي، الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، وكان قد كشف عنه الحرس الثوري في السادس من يونيو/حزيران 2023، في حفل عسكري كبير حضره كبار القادة العسكريين والنخبة السياسية.
الصاروخ يتكون من قسمين، الأول عبارة عن محرك يبلغ طوله 10 أمتار، ويمتلك القدرة على دفع الصاروخ بسرعة فائقة داخل الغلاف الجوي وخارجه، أما الجزء الثاني الذي يبلغ طوله 3 أمتار و60 سنتيمترًا، فإنه يعتبر صاروخًا كاملًا يحتوي على محرك كروي ورأس حربي وفوهة متحركة تمكنه من المناورة في الاتجاهات كافة.
ويبلغ مدى الصاروخ 1400 كيلومتر تقريبًا، وتبلغ سرعته 13-15 ماخًا قبل إصابة الهدف (الماخ هو سرعة الصوت ويساوي الواحد منه تقريبا 1224 كيلومترًا)، ويستطيع إصابة الهدف على بعد 1400 كيلومتر في غضون 400 ثانية فقط من الإطلاق.
ثالثًا: التأثير والخسائر
في الهجوم الأول، قال جيش الاحتلال إنه اعترض 99% من الصواريخ والطائرات المسيرة، فيما سقط كثير منها قبل دخوله للأراضي المحتلة، فيما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية وقتها أن الصواريخ استهدفت قاعدة جوية إسرائيلية في النقب، كانت منطلقة للهجوم على القنصلية بدمشق، كما أعلن الكيان المحتل إصابة مطار عسكري في هذا الهجوم.
أما العملية الأخيرة فيبدو أنها كانت أكثر تأثيرًا، سواء من حيث رقعة الاستهداف حيث شملت المئات من المناطق الإسرائيلية بما فيها تل أبيب بأكملها، أم من حيث الأهداف، حيث تشير التقديرات إلى استهداف 3 قواعد جوية رئيسة إسرائيلية في تل أبيب، ومقر للموساد، وقاعدة نفتايم التي تضم مقاتلات إف-35، بجانب رادارات وتجمع للدبابات وناقلات الجند في محيط غزة، وقاعدة حتسريم المسؤولة عن اغتيال نصر الله.
كما أشار الإعلام العبري إلى حدوث تعطل جزئي في شبكة الكهرباء في بئر السبع والقدس، بجانب تضرر أكثر من 100 منزل في تل أبيب ومحيطها، وإصابة الحالة المرورية في قلب الكيان المحتل بالشلل التام، فيما هرول الملايين نحو الملاجئ، بما فيهم القيادة السياسية والعسكرية للحكومة والكابينت.
حجر الزاوية الضيق ورسائل الردع
بداية ما كان لدى طهران أي خيار آخر سوى الرد، فبعد استهداف هنية أواخر يوليو/تموز الماضي، والتلكؤ في الأخذ بالثأر الذي تعهد به قادة وجنرالات إيران، باتت سمعة الجمهورية الإسلامية على المحك، ووجدت نفسها محشورة في حجز زاوية ضيق للغاية، لا مخرج منه سوى كسر حالة الصمت الاستراتيجي التي طالت أكثر من المتوقع.
وقد أغرى هذا الصمت نتنياهو وحكومته لتوجيه المزيد من الضربات لطهران، وتحقيق العديد من المكاسب الاستراتيجية على حساب الصبر الإيراني الاستراتيجي المزعوم، وبالفعل شهدت الساحة منذ اغتيال هنية وحتى الأمس سقوط العشرات من قادة محور المقاومة، على رأسهم أمين “حزب الله” حسن نصر الله والصف الأول من قيادات الحزب.
ووصل استهانة نتنياهو بالتهديدات الإيرانية حد الحديث عن عملية برية في الداخل اللبناني واجتثاث جذور “حزب الله”، الذراع الأهم والأبرز لطهران في الشرق الأوسط، الأمر الذي ما كان يحتمل معه المزيد من الصمت الذي تحول إلى ما يشبه الفشل الاستراتيجي، ومن ثم جاءت عملية “الوعد الصادق 2”.
اللافت في تلك العملية أنها ورغم حجمها وتأثيرها مقارنة بالضربة الأولى، فإن طهران لم تفارق بعد قواعد الاشتباك المعمول بها، سواء من حيث تجنب استهداف المدنيين والمنشآت الاقتصادية، والاكتفاء بالأهداف العسكرية فقط، أم من خلال حجم الخسائر المتوقعة، حيث كان الحرص على إيصال الرسائل أكثر منه إيقاع الخسائر.
وعليه كانت محاولة استعادة الاتزان في معادلة الردع، وترميم الشروخات التي أحدثتها “إسرائيل” في جدار توازن القوى عبر تجاوزها للخطوط الحمراء الآونة الأخيرة، الرسالة الأبرز من وراء تلك الضربة التي حاولت طهران من خلالها حفظ ماء وجهها.
لا شك أن إيران أكثر حرصًا من أي كيان إقليمي على تجنب التصعيد، غير أن الضوء الأخضر الممنوح لنتنياهو ويمينه المتطرف وحالة الغرور والعنجهية المسيطرة على العقلية الإسرائيلية في الظرف الاستثنائي الحالي، والتي دفعت به نحو تخطي سقوف الاشتباك الموضوعة منذ سنوات، وضع النظام الإيراني في مأزق وحرج كبير، بين دوافع الانتقام لإعادة التوازن لمعادلة الردع ومقاربات عدم التصعيد حفاظًا على نفوذه ومشروعه النووي الذي قد يكون الثمن حال التماهي مع نتنياهو وجنونه.
تحاول إيران بتلك العملية أن تنفض يدها – هكذا ترى – من دماء هنية ونصر الله، وتُلقي من على كاهلها حمل الانتقام والرد الذي شكل عليها ضغوطًا كبيرة خلال الشهرين الماضيين، معتقدة أنها بذلك باتت في منأى عن أي مطالبات جديدة، وإن كان هذا الأمر سيتوقف بشكل أو بآخر على رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي.
وفي السياق ذاته فإنه وفي ظل تصاعد المخاوف الإيرانية بشأن ضربة استباقية إسرائيلية ربما تستهدف قواعدها النووية، كان لابد من إرسال رسالة تحذير عاجلة للداخل الإسرائيلي والتأكيد على أن تل أبيب ليست بمأمن ولا ببعيد عن صواريخ طهران إذا ما فكر نتنياهو الإقدام على أي عملية نوعية في الداخل الإيراني.
ما التداعيات المحتملة؟
تسعى طهران – بتلك الضربة – إلى إخراج نفسها من دائرة المواجهة المباشرة مع الاحتلال، لتعاود مجددًا العمل من خلال الحرب بالوكالة، عبر أذرعها في لبنان واليمن والعراق وسوريا، وهي المعركة التي يفضلها الإيرانيون نظرًا لكلفتها الأقل سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا من كلفة الحروب المباشرة.
لكن على الجانب الآخر، ورغم التقليل على طول الخط من شأن الرد الإيراني، فإن الإسرائيلي بتلك الضربة يكون قد تجرد من الضغوط الواقعة عليه منذ اغتيال هنية في انتظار رد طهران، ما يمنحه الأريحية الكاملة في نشاطه العسكري داخل غزة وعلى الحدود اللبنانية، أفقيًا كان أو رأسيًا.
وربما تذهب “إسرائيل” والولايات المتحدة إلى التروي قليلًا قبل الرد على الضربة الإيرانية، في محاولة لتقييم المشهد من كل الجوانب، لا سيما إذا ما استقر في يقين البلدين أن طهران قد تكتفي بعمليتها الأخيرة التي تحاول تصديرها للداخل على أنها انتصار وانتقام مرضي لاغتيال هنية ونصر الله وبقية قادة محور المقاومة.
ورغم فقدان إدارة جو بايدن السيطرة على جنون نتنياهو وحكومته فإن هناك آراء تذهب باتجاه تكثيف الضغط الأمريكي عليها لابتلاع تلك الضربة، والاكتفاء بتلك الجولة من المواجهات تجنبًا لإشعال المنطقة، وإن كان البعض يقلل من فرص نجاح واشنطن في هذا الضغط، في ظل غرور نتنياهو ومحاولته توظيف واستثمار المشهد لأقصى درجة ممكنة دون أي حسابات أو مقاربات.
وفي المقابل، لا يمكن قراءة الضربة الإيرانية وتداعياتها بمعزل عن السياق العام الذي جاءت فيه، والتطورات المتزامنة معها، التي على رأسها عملية يافا التي نفذها فلسطينيان من الخليل، ظهر أمس الثلاثاء، وأوقعت 8 قتلى وأكثر من 15 مصابًا، بعضهم إصابته حرجة.
وقبل ذلك بساعات كان استهداف “حزب الله” بصواريخه الباليستية قلب تل أبيب، وذلك لأول مرة منذ بداية الحرب، الذي جاء عكس الاتجاه الراهن، ما أحدث خلطًا للأوراق وإرباكًا لحسابات حكومة نتنياهو، كونها رسالة إنذار شديدة اللهجة لجيش الاحتلال قبل بدء العملية البرية المزمعة في الجنوب.
في ضوء ما سبق فإن الضربة الإيرانية الأخيرة ربما تكون أكثر قوة من نظيرتها في إبريل/نيسان الماضي، من حيث مستويات عدة، لكنها حتمًا لم تُظهر بأي شكل من الأشكال الردع الذي يجبر نتنياهو وحكومته على إعادة النظر في خططهم الاستراتيجية بشأن لبنان، ما يعني أن المعادلة الإقليمية لن تتغير بالشكل المأمول.
وعليه وبعدما خرجت طهران بعيدًا عن دائرة المواجهة المباشرة مع الاحتلال، ما لم يحدث جديد بشأن رد إسرائيلي يعيد الإيرانيين مجددًا إلى حجر الزاوية الضيق، بما يمنح نتنياهو أريحية التحرك كما أشير سابقًا، فإن الفيصل في المشهد وفرس الرهان الأكثر قوة الذي يملك وحده فرصة تغيير المعادلة هو الميدان، وأداء المقاومة على كل الجبهات، ما يعني أن المنطقة كما هو الحال مفتوحة على الخيارات كافة.
المصدر: نون بوست