محتويات
تصفية القضية الفلسطينية وقيادة الشرق الأوسط“طوفان الأقصى” وصراع التحولات الاستراتيجيةفرض الوقائع على الأرضالجهوزية الإسرائيلية لكل الخيارات الأمريكية
“نعمل بمنهجية لتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط كله”، بهذه الجملة لخّص بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال ما يصبو إلى الوصول إليه: تغيير شامل وواسع بأفق استراتيجي جديد لشرق أوسط جديد.
“الشرق الأوسط الجديد” مصطلح قديم جديد حاولت عبره العديد من الإدارات الأمريكية إعادة صياغة المشهد الشرق الأوسطي، بأدوات التدخل المباشر والعدوان والحروب، أو بأدوات الحرب الناعمة والحروب بالوكالة والثورات المضادة، التي لم تؤدِّ في خواتيمها إلى نتيجة فعلية سوى الإبقاء على الواقع المأزوم لدول المنطقة وأنظمتها، وزيادة مأساة شعوبها المضطهدة والمكبّلة بالديكتاتوريات.
يعيد نتنياهو الكرّة مرة أخرى، ويبحث عن تحويل الضربة الكبرى التي تلقتها “إسرائيل” ومسّت أُسُس قوتها، وهددت كينونتها في السابع من أكتوبر 2023 وتجليات “طوفان الأقصى”، إلى فرصة لتحقيق حلم استراتيجي فوق أنقاض الدمار الكبير الذي تحدثه آلة القتل الإسرائيلية.
يرى نتنياهو فرصة ذهبية سانحة توفرها اللحظة التاريخية الراهنة، إذ لم تسقط حرب الإبادة السماء على الأرض، ولم تقلب موازين الدول العربية، ولم تقلب الموقف الغربي من “إسرائيل” والانحياز المطلق لها، ولم تشعل انتفاضةً فلسطينية، فما المانع إذًا من الخوض إلى النهاية في إزالة العديد من العقبات التي تحول دون تحقيق حلمه، في شرق أوسط تقوده “إسرائيل”، لا مكان للفلسطينيين للتأثير فيه، وخالٍ من أية أدوات للمواجهة؟
تصفية القضية الفلسطينية وقيادة الشرق الأوسط
شكّلت الضربة الكبرى للمقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 الصعقة التي ضربت “إسرائيل”، وصدمت الائتلاف اليميني الذي مثّل “ائتلاف الأحلام” بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو، بعد سنوات من انعدام الاستقرار في النظام السياسي في “إسرائيل”.
وجد رئيس حكومة الاحتلال في ائتلافه ضالته التي انتظرها كثيرًا للخوض في مسارات متعددة من التغيير في العديد من السياسات الداخلية والخارجية، وفي القلب منها التعامل مع القضية الفلسطينية، مع شركاء كان جوهر اتفاقهم على إنجاز الائتلاف يرتكز على فكرة التوسع الاستيطاني وابتلاع الأرض الفلسطينية، وتقويض كل أشكال الحقوق الفلسطينية، وفي الخلفية منه قرار الانتقال من استراتيجية “إدارة الصراع” التي سادت لسنوات إلى استراتيجية “حسم الصراع” التي تبناها بتسلئيل سموتريتش، ولم يعارضها بنيامين نتنياهو.
حمل نتنياهو قبل أقل من شهر من “طوفان الأقصى” خريطة للشرق الأوسط الجديد من على منصة الجمعية العام للأمم المتحدة في دورتها الـ 78، قدّم فيها رؤيته لشكل الشرق الأوسط المنشود الذي لا يحتوي على أية دولة فلسطينية، ويتشكل من الدول المنخرطة في عملية التطبيع مع الاحتلال.
ارتكز خطاب نتنياهو على فكرة أن المرحلة الحالية مرحلة تجاوز الفلسطينيين بوصفهم عقبة أمام العلاقات مع بقية الدول العربية، عادًّا أن النموذج الذي وفّرته “الاتفاقيات الإبراهيمية” يجب أن يعمَّم، طامحًا إلى إتمام التطبيع مع السعودية بوصفه بوابة لإنجاز أوسع حالة تطبيع عربي يساهم في تحويل “إسرائيل” من كيان غاصب إلى مكون طبيعي، بل قيادي في المنطقة العربية.
تقوم رؤية نتنياهو على فكرة المراكمة تدريجيًا في تغييرات تتحول إلى أمر واقع، يقضي بموجبها على أي أفق لأية دولة فلسطينية، ويحاصر تدريجيًا كل أشكال التعبير السياسي للفلسطينيين عن هويتهم الجمعية، لصالح ابتلاع “إسرائيل” للضفة الغربية، وخوض مسار اندماج وتفاهم مع الدول العربية “المعتدلة” بمعزل عن القضية الفلسطينية.
نجح نتنياهو في أن يحمّل الإدارات الأمريكية رؤيته بتفاوت ما بين اللامبالاة بالأفق السياسي للفلسطينيين، والدعم المطلق لجولات العدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، وتوفير المظلة السياسية وتمهيد الطريق لمشاريع التطبيع، إلى غضّ النظر عن مشاريع التوسع الاستيطاني.
شكّل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الفرصة الأكثر مثالية لأن يحمّله بنيامين نتنياهو المشروع السياسي القاضي بالإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني، وتقويض كل شرايين حياته، وإخراج العديد من اتفاقيات التطبيع إلى النور، وضمّ التجمعات الاستيطانية في الضفة إلى أراضي المستعمرة الكبرى “إسرائيل”، وما بين ذلك من إجراءات هادفة إلى صدم الوعي الجمعي للجمهور العربي، في مقدمتها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومحاصرة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” دفعًا لتصفيتها بوصفها شاهدًا على حق العودة.
حققت هذه الخطة، التي وصفها ترامب بـ”صفقة القرن” الكفيلة بإنهاء الصراع بالشرق الأوسط، جزءًا مهمًّا من القفزات النوعية التي بحث عنها نتنياهو، خصوصًا اتفاقيات التطبيع ونقل السفارة وخطوات تقويض قدرة الفلسطينيين على الممانعة.
لكن من جانب آخر لم يكتمل المشهد باستكمال الضم والتهويد الكامل للمسجد الأقصى، بسبب مخاوف الإدارة الأمريكية من تحول الوضع إلى انفجار في الشرق الأوسط، خصوصًا بعد تهديد المقاومة بعد الضمّ بمثابة إعلان حرب، والموقف الفلسطيني الجمعي الرافض لـ”صفقة القرن”، وعامين من التظاهرات الكبرى التي تمثلت بـ”مسيرات العودة” المنطلقة أساسًا تعبيرًا عن الاحتجاج الفلسطيني الشعبي الأضخم على “صفقة القرن”.
لم ييأس بنيامين نتنياهو من المراكمة على رؤيته مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، بل بدأ يتحيّن الفرصة لإنجاز صفقة التطبيع مع السعودية، كخطوة تراكم على ما حققه في عهد الرئيس الأمريكي السابق من قفزات نوعية، وتحويل رغبة إدارة بايدن في إعادة التموضع الأمريكي خارج الشرق الأوسط إلى الفرصة الأمثل لإنجاز ترتيبات أمريكية واسعة لحلفائها في المنطقة مع “إسرائيل”، تتولى فيه الأخيرة الموقع القيادي للحلف الأمريكي في المنطقة العربية.
“طوفان الأقصى” وصراع التحولات الاستراتيجية
على عكس الحسابات، باغت “طوفان الأقصى” أحلام نتنياهو في لحظة تاريخية فارقة، لينقل كل المعادلات إلى طور جديد، في السياسة والميدان، وحسابات الإقليم والعالم، فمن جانب قد رفع الطوفان سقف المواجهة إلى مستوى وجد فيه الإسرائيلي تهديدًا وجوديًا حقيقيًا على أبواب “لعنة العقد الثامن”، التي يطمح نتنياهو لأن يكون زعيم “إسرائيل” الذي يتجاوزها، ومن جانب آخر أعادت للقضية الفلسطينية زخمها وحضورها وبريقها ومركزيتها في الشرق الأوسط والعالم.
حلَّ “طوفان الأقصى” كمشروع ينشد التحول الاستراتيجي لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته، في مواجهة مشروع استراتيجي يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتجاوز حضورها، وصولًا إلى تخليق شرق أوسط جديد تقوده “إسرائيل”، وعليه بات ينطوي على مخرجات الحرب الحالية المدخل الرئيسي لشكل المنطقة.
كان نتنياهو يعي جيدًا أن ممكنات التعطيل لرؤيته الاستراتيجية للمنطقة تتمثل بدرجة أساسية بقدرة الفلسطينيين على الرفض والمواجهة، وفي الإطار ذاته وجود مجموعة من “خصوم إسرائيل” في المنطقة، لا يزالون مستعدين لأن يشكلوا عنوان مواجهة واشتباك، وبالتالي إن شريان الحياة الرئيسي للمشروع الصهيوني الكبير، وضمانة تجاوز دولة الاحتلال لعنة عقدها الثامن، تتمثل بتحييد كل مظاهر المواجهة في المنطقة لصالح “الشرق الأوسط الجديد” الذي تقوده “إسرائيل”.
في المقابل، تعي المقاومة الفلسطينية أن المواجهة الشاملة الدرب الأسلم لإعادة خلط أوراق المنطقة، والوقوف في وجه نتنياهو الذي حظيَ بائتلاف أحلامه اليميني، وإدارة أمريكية باهتة تسعى إلى الخروج من الشرق الأوسط مع ترتيبات مستدامة لحلفائها، وبالتالي فإنه ينبغي أن يكون قطع الطريق هذه المرة بتسخير كل الممكنات لمواجهة “إسرائيل” ومشروعها.
ما بين مخطط التصفية وخطة المواجهة وضعت “إسرائيل” كل أثقالها، فالمحطة المفصلية تتطلب الاستثمار الأمثل لحالة الإرباك الدولي، والمرحلة الانتقالية ما بين إدارتين أمريكيتين، والمزاج العربي الرسمي المواتي جدًّا لتمرير أبشع الجرائم الإسرائيلية وأكبرها.
فرض الوقائع على الأرض
يسعى نتنياهو من خلال وضع كل أثقال آلته العسكرية، واستخدام شتى صنوف القتل والدمار، إلى خلق وقائع جديدة يسابق من أجل إنجازها الزمن، ترتكز بدرجة أساسية إلى تقييم شامل وتشخيص لعوامل التعطيل في المراحل السابقة.
في قلب عوامل التعطيل يكمن وجود قدرة لدى مكونات الشعب الفلسطيني على المواجهة، وبالتالي إن أي شكل من أشكال فرض التصور الإسرائيلي سيحمل بين طياته بذور المواجهة والانفجار، وهو ما قد يتحول إلى انتفاضة فلسطينية عارمة نجحت “إسرائيل” حتى الآن إلى تأخيرها، لكنها تعي تمامًا أن بذورها باتت تنمو وتكبر، خصوصًا في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، وللفعل المقاوم في قطاع غزة دور رئيسي وبارز في هذا النمو والتوسع، وفي الخلفية تحضر “مسيرات العودة الكبرى” وجولة “سيف القدس”، وعودة حالة المقاومة المسلحة إلى شوارع الضفة الغربية ومخيماتها.
وبناءً عليه، فإن أولى الخطوات بالنسبة إلى دولة الاحتلال تتمثل بالإجهاز على هذه القدرة، وتحييد قاعدتها الثابتة التي تركزت في قطاع غزة وتنظمت وتعاظمت، بوصفها قوى منظمة، وحاضنة شعبية، وهو ما يتطلب خوض مسار تصفية طويل الأمد لقطاع غزة، يتحول عبره القطاع إلى كتلة بشرية محيَّدة تبحث عن قوت يومها ومقومات حياتها الأساسية، وفق نظام إسرائيلي جديد يضمن إخراجها من دائرة المساهمة الفعلية لعقود قادمة.
إقليميًا، يستند المشروع الإسرائيلي جوهريًا إلى فكرة التطبيع مع الأنظمة العربية، وهو ما يمرّ بدرجة أساسية بالحاجة لإنجاز اتفاق التطبيع مع السعودية، بوصفه بوابة لتثبيت فكرة أن التطبيع تمّ مع كل الأمة العربية والإسلامية، وأن “إسرائيل” باتت كيانًا طبيعيًا في الشرق الأوسط، بل طليعيًا رياديًا يستثمر في كل ممكنات المنطقة ومواردها.
وهو ما يتطلب شرقًا أوسط تحيَّد فيه أدوات المواجهة، مع “إسرائيل” أولًا، وأدوات المواجهة مع الدول الحليفة لـ”إسرائيل” ثانيًا، ما يعني أنه مطلوب من “إسرائيل” في هذه الحالة إثبات تفوقها العسكري المطلق على كل خصومها، وتحييد الأخطار الرئيسية المحيطة بها، لتضمن ألا تتحول إيران والقوى المتحالفة معها إلى حجر عثرة رئيسي يهدد “إسرائيل” تهديدًا مباشرًا، أو يخلق حائط خشية لدى الدول العربية من الدخول في توترات أمنية ناتجة عن تفاهمهم مع “إسرائيل” بدرجة ثانية.
كي تستعيد “إسرائيل”، التي تلقت الضربة الأكبر في تاريخها في السابع من أكتوبر، ثقة مكونات المنطقة بقدرتها على الضرب، فإنها بحاجة إلى ترميم ردعها بطريقة صارخة وفاقعة، وإلى تحييد كل خصومها من معادلات الصراع والمواجهة، وهو ما يجعل الخطوة الكبرى ترتكز على القضاء على المقاومة الفلسطينية، وتحييد “حزب الله” وتدمير قدراته، وتهشيم قوى “محور المقاومة”، ودفع إيران إلى الانكفاء من جديد وتعقيد حساباتها وتصعيد ميزان الخسارة على ميزان الربح في أي معادلة مواجهة قادمة.
يسابق نتنياهو الزمن ليستبق نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة، ويستثمر تمامًا في اللحظة الراهنة التي يحولها إلى الفرصة الأمثل لإعادة صياغة معادلات المنطقة، عبر هجومه المرتد الذي بدأ في مواجهة “طوفان الأقصى”، ويبحث عن إنهائه بترتيبات مستدامة للشرق الأوسط الجديد، والجهوزية لتحميل أية إدارة أمريكية قادمة مشروعه الممهّد له على الأرض بوقائع ملموسة.
الجهوزية الإسرائيلية لكل الخيارات الأمريكية
يعي نتنياهو أن أية إدارة أمريكية قادمة ستفرزها نتائج الانتخابات الأمريكية، لن تختلف جوهريًا مع المصلحة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، ولا مع ترتيب أوراق الشرق الأوسط بشكل أكثر انسجامًا مع المصالح الأمريكية التي تشكّل “إسرائيل” إحدى أهم التعبيرات عنها، وأن أي مظهر للخلاف يرتبط ببعض القشور الشكلية، و”كليشيهات” المواقف، خصوصًا من القضية الفلسطينية، وحل الدولتين، والسلطة الفلسطينية بوصفها تعبيرًا عن الكينونة الفلسطينية.
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض: من الجليّ في كل الأحوال أن نتنياهو يفضّل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ويمكن الربط بوضوح بين سلوك نتنياهو التصاعدي والتدحرج في سعيه إلى تحقيق طموحه الاستراتيجي من ناحية، ومن ناحية أخرى زيارته للولايات المتحدة التي ثبّت فيها إمساكه بالعديد من مفاتيح التأثير في جماعات الضغط في الولايات المتحدة، والتي دللت من جانب آخر إلى وجود نوع من التفاهم الضمني ما بين ترامب ونتنياهو حول شكل الخطوات القادمة، والمساحة المتاحة للأخير حتى موعد الانتخابات لفرض الوقائع اللازمة على الأرض.
يتمسك ترامب بأن رؤيته لشكل إنهاء الصراع في الشرق الأوسط (صفقة القرن) كانت الشكل الأجدى والأمثل لوضع حد للقضية الفلسطينية وأزمات المنطقة، وأنها الرؤية الأمثل والأكثر انسجامًا مع نتنياهو واليمين الصهيوني، ووفقًا لهذا يعمل الأخير على تهيئة وتجهيز الظرف المواتي لأن ينجح ترامب في تقديم نسخته المحدثة “صفقة القرن 2” التي ستستند إلى ما حققته دورته الرئاسية السابقة، وما حقق نتنياهو من وقائع على الأرض.
سيقدم ترامب في حينه خطته بوصفها خطة “لإحلال السلام” لا خطة “لإشعال الحرب” المشتعلة أصلًا، وتتضمن رؤية شاملة لمسخ التمثيل الفلسطيني بدولة منزوعة السلاح والسيطرة الأمنية يكون مركزها غزة، يقام فيها نظام حكم منسجم مع “إسرائيل” ويعمل وفق محدداتها، فيما تُبتلع أراضي الضفة الغربية بمخطط الضمّ، والإجهاز الكامل على حق العودة بتصفية وكالة الأونروا، والسماح بفرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على مدينة القدس وتغيير الوضع القائم فيها، وفق رؤية اليمين الصهيوني.
إقليميًا، ترتكز رؤية ترامب إلى ضرورة التزام دول المنطقة باتفاقيات أمنية تفضي إلى توفير الولايات المتحدة الحماية اللازمة للدول الحليفة في الشرق الأوسط، مقابل التزامات مالية واقتصادية تقدمها هذه الدول للولايات المتحدة، فيما يرى أن لـ”إسرائيل” الموقع المركزي في تنسيق الجهود العسكرية في المنطقة بما يتلاءم مع مقتضياتها الأمنية، إضافةً إلى استكمال مشروع التطبيع مع بقية الدول العربية.
يتقاطع كل ما يصبو إليه ترامب، فعليًا، مع رؤية نتنياهو وخطواته على الأرض، سواء فلسطينيًا من حيث السعي إلى تصفية الكينونة الفلسطينية، والقضاء على القوى والفصائل الفلسطينية الوطنية، وتحويل قطاع غزة إلى بقعة محيَّدة، والعمل على تشييد نظام محلي جديد يعمل وفق المحددات الأمنية الاسرائيلية، تحتفظ خلاله “إسرائيل” بسيطرتها الأمنية والعسكرية على القطاع، فيما تخوض مسارًا مستمرًّا من أجل فرض وقائع الضم على أرض الواقع في الضفة، وتتخذ خطوات مباشرةً للحدّ من أي فعل وتأثير للأونروا في الأراضي الفلسطينية، مع حملة تحريض كبرى تستهدف القضاء عليها وتجفيف منابع تمويلها.
نجاح كاميلا هاريس: لا تختلف كاميلا هاريس جوهريًا في برنامجها تجاه الشرق الأوسط عن رؤية سلفها جو بايدن، ولا عن الإدارات الديمقراطية السابقة إجمالًا، والتي تشكل امتدادًا له ولرؤيته الاستراتيجية.
لا يولي الديمقراطيون أهمية كبرى للقضية الفلسطينية، ولا للنزاع في الشرق الأوسط، بل يعطون الأولوية للتناقضات الاستراتيجية مع الصين وروسيا، والسعي إلى تثبيت النفوذ العالمي للولايات المتحدة في مواجهة محاولات إقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
بناءً عليه، ترتكز رؤية الديمقراطيين إلى فكرة تخفيض الحضور المباشر في الشرق الأوسط لصالح الحلف الدفاعي المشترك لحلفاء الولايات المتحدة، تتولى “إسرائيل” الموقع المركزي فيه، وهو ما يتطلب إعادة صياغة العلاقات البينية لدول الشرق الأوسط، بحيث تتحول “إسرائيل” إلى شريك استراتيجي لأهم اللاعبين في المنطقة، وهو ما يوصل إلى استكمال المساعي الأمريكية للوصول إلى صفقة شاملة مع السعودية تشمل التطبيع مع “إسرائيل”.
وفلسطينيًا، تتمسك الإدارة الديمقراطية بحلّ الدولتين من بوابة الترديد الشعاراتي، دون رؤية حقيقية، وبالتالي هم جاهزون للتعامل مع أي تجلٍّ جديد تفرضه “إسرائيل” لشكل النظام السياسي الفلسطيني القادم، ولن يمثلوا حجر عثرة حقيقيًا أمام خطط “إسرائيل”، لا بضمّ الضفة الغربية، ولا بإعادة صياغة المشهد في قطاع غزة، بوصف أن ما يجري أمر واقع.
يتجهّز نتنياهو لتحميل أية إدارة أمريكية قادمة رؤيته، ويسابق الزمن، ليمنح الوافد الجديد إلى البيت الأبيض فرصة أن يمثل من يمتلك ورقة إنهاء القتال، وفق التعامل مع ما تفرضه “إسرائيل” على الأرض، بوصفه أمرًا واقعًا يتطلب واقعًا سياسيًا جديدًا، تنتج عنها تغييرات استراتيجية تكون “إسرائيل” قد حيّدت فيها كل قدرة على مواجهتها أو استمرار مقاومتها، ومهّدت الطريق لسيادتها المطلقة على مفاتيح القرار والتأثير في الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط الجديد الذي ينشده نتنياهو شرق أوسط إسرائيلي، تتمتع فيه “إسرائيل” باليد العليا، وتقود فيه دول المنطقة مثبتة تفوقها، ومشرعنة توسعها على حساب ما تبقى من أراضٍ فلسطينية، والتخلص من أي خطر استراتيجي متصاعد يهدد “إسرائيل” من جديد بتكرار لعنة العهد الثامن.
ما يجري حاليًا هو المواجهة الكبرى لمحطة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، فإما أن تنخرط قوى المقاومة في المواجهة بكل ثقلها، وتُفشل الطموح الصهيوني في تحويل خططه إلى وقائع على الأرض، وإما أن تنجح “إسرائيل” في توجيه ضربة قاضية للقضية الفلسطينية، ولكل مشروع الرفض والمواجهة في المنطقة، تؤمن لها عقودًا من حرية الحركة وسيادة المشروع الصهيوني.
المصدر:نون بوست | احمد الطناني