2024-11-14 10:35 م

4 سنوات على اتفاق أبراهام: الإمارات أولًا والبقية تأتي

2024-09-14

اكتمل اليوم 15 سبتمبر/ أيلول 4 سنوات على اتفاق التطبيع الذي جمع دولة الإمارات العربية المتحدة بدولة الاحتلال على طاولة واحدة في البيت الأبيض، الاتفاق الذي جمع ثالث دولة عربية وأول دولة خليجية بالاحتلال لم يكن أكثر من إعلان رسمي عن انتهاء القطيعة التي تفتّتت تحت الطاولة لسنوات، وبمبررات رياضية وثقافية واقتصادية وأمنية، لكنها كانت بحاجة إلى هالة دونالد ترامب لتصبح في العرف الدولي “اتفاقية أبراهام” التي جمعت زعماء الديانات الثلاث، الإسلامية واليهودية والمسيحية، على السلام والوئام.

ورغم أن كلًّا من مصر والأردن كانا قد سبقا بعقود الإمارات في اتفاق سلام تاريخي غيّر وجه المنطقة العربية إلى الأبد، إلا أن اتفاقية التطبيع مع الإمارات كانت مختلفةً لعدة أسباب، أولها أن الإمارات لا تشترك مع دولة الاحتلال بأي حدود برّية، ما يفقدها مبرر الحاجة إلى السلم والأمن على حدودها بالتوجه نحو الاتفاق، لكنها وسّعت اتفاقها ليشمل مجالات واسعة وربطته بمختلف طبقات شعبها، وطورت مكاسب الاتفاقيتَين السابقتَين لصالحها.

الاختلاف الآخر هو أن الاتفاق لم يُسبق بجولة مباحثات ومفاوضات وشدّ وجذب حول مضامينه كاتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة، بل سبقته جولات تطبيع بلا اتفاق، وزيارات رسمية وعلنية وانفتاح اقتصادي وثقافي كان الاتفاق متوّجًا لها.

أما الاختلاف الأخير فهو أن الاتفاق مبني على تحقيق مصلحة خاصة بالإمارات، وهي مصلحة مقدمة على غيرها بما فيها القضية الفلسطينية، دون أن ينصّ الاتفاق على ما يخالف القضية الفلسطينية أو يمسّ بها وفق المنظور السياسي الإماراتي.

التطبيع خطوة بخطوة
بينما يعيد البعض أساس التآلف الإماراتي الإسرائيلي إلى الشعور المشترك من خطر الإسلام السياسي المتعاظم إبّان الربيع العربي 2011 وما تلاه، فإن وجود شراكات اقتصادية استراتيجية تجمع البلدين قبل هذا التاريخ، تحيل الإدراك إلى أن بنية العلاقات تتجاوز ردود الأفعال على المنافسين والأخطار.

فقد وقّعت هيئة المنشآت والمرافق الحيوية في أبوظبي عام 2008، عقدًا بلغت قيمته 816 مليون دولار مع شركة “آي جي تي إنترناشونال” السويسرية المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي ماتي كوتشافي، بهدف شراء معدّات مراقبة للبنية التحتية الحيوية في الإمارات، بما في ذلك منشآت النفط والغاز.

وعلى مدى فترة 2008-2016 اتّسع التعاون الأمني بين الشركة وأبوظبي، مدفوعًا بمحاولة إسرائيلية لحلّ أزمة الثقة التي نشأت إبّان اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في الإمارات عام 2010، وهو ما دفع الإمارات إلى اشتراط تزويدها بمنظومات سلاح متطورة، فيما تتعهّد بعدم نقل السلاح إلى جهات معادية لـ”إسرائيل”.

نتج عن ذلك تزويد إمارة أبوظبي بـ 3 طائرات مسيّرة، وبنظام مركزي للمراقبة الأمنية يعرَف باسم “عين الصقر (Falcon Eye)” خاص بشرطة أبوظبي، اُستتبع ذلك بصفقة تكنولوجيا قرصنة متطورة اشترتها الإمارات عام 2018 من مجموعة “إن إس أو” الإسرائيلية، هدفت من خلالها إلى تطوير وسائل التجسُّس على معارضيها في الداخل والخارج، حيث قدّرت قيمة الصفقات عام 2018-2019 بـ 3 مليارات دولار، شملت تزويدًا للإمارات بقدرات استخباراتية متقدمة، وعقود عمل لضباط في جيش الاحتلال.

أما على الصعيد العسكري، فقد شاركت الإمارات جنبًا إلى جنب مع “إسرائيل” في عدد من التدريبات البحرية والجوية الإقليمية ما بين عامَي 2017 و2019، من بينها تمرين “العلم الأحمر” بإشراف القوات الأمريكية، وتمرين “إينيوهوس” في اليونان الخاص بسلاح الجو الإماراتي، وبجهود ملحّة من إدارة ترامب التي رسمت خطوط هذا التعاون تحت مظلة تحالف ميسا الاستراتيجي الإقليمي.

وعلى المستوى الدبلوماسي، ففي نهاية عام 2015 أعلنت دولة الاحتلال عن افتتاحها مكتبًا دبلوماسيًا لها في الإمارات، ما اُعتبر أول وجود رسمي لها في الخليج العربي بعدما أغلقت قطر مكتبها التجاري الذي بقيَ مفتوحًا ما بين الأعوام 1996-2000، تزامن ذلك مع تعاون طبّي متزايد تحت وطأة جائحة كورونا، تمثل في تبادل معدّات صحية، وتطوير حلول تكنولوجية للتعامل مع الفيروس.

أما التطبيع الرياضي فقد سبق ذلك من خلال مشاركة لاعبَين إسرائيليَّين في مسابقات الجودو عام 2018، بحضور وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف، ومشاركة فريق الطواف الإسرائيلي 2020.

وفي كل خطوة من خطوات التطبيع كان المسؤولون الإسرائيليون يخطون أعمق في قلب الإمارات، بدءًا بوزيرة الثقافة والرياضة، مرورًا برئيس الموساد يوسي كوهين، ووزير الاتصال أيوب قرا، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي مائير بن شبات، ووزير الخارجية والاستخبارات الإسرائيلي يسرائيل كاتس، وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان قد زار الإمارات سرًّا لمرتَين على الأقل، قبل الإعلان عن الاتفاق في 13 أغسطس/ آب 2020.

دوافع جيوسياسية
الفترة الفاصلة ما بين الإعلان عن الاتفاق في 13 أغسطس/ آب 2020 وتوقيعه في 15 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، أكّدت أنه سيمثل انعطافة كبيرة على المستوى العربي والإقليمي، حيث انضمت إليه البحرين بشكل متسارع، أعقبها المغرب والسودان، مدفوعة بضغط أو تحفيز إماراتي ما مثل حقبة جديدة في العلاقات السياسية بين الاحتلال والدول العربية.

وهو ما نتج عنه اختلاف في طبيعة الاتفاق انطلق من استغلال إماراتي مطلق لجميع ميزات اتفاقيات السلام السابقة مع مصر والأردن، وتفعيلها رسميًا وشعبيًا، وتوسيعها على مختلف المجالات، دون أن تنسى إضفاء “رشة” طفيفة من متطلبات الشرعية العربية التقليدية، عنوانها “حل الدولتين والسلام العادل والشامل”.

ليغدو الاتفاق المتنوع بين الإمارات ودولة الاحتلال متعدد الأوجُه، رياضيًا وثقافيًا وبيئيًا وعسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا وقانونيًا، مشفوعًا بكونه تنفيذًا لنظرة استراتيجية وجدت الإمارات نفسها مدفوعةً إلى تحقيقها بإلحاح متزايد من عدة متغيرات، انطلقت من رؤية الإمارات لكينونتها ومستقبلها وأدوارها عربيًا وإقليميًا ودوليًا، وفي تجاهل تامّ للقضية الفلسطينية إلا في حدود ما يمنح الاتفاق مزيدًا من الشرعية دون أن يهدده.

يشي بذلك الإعلان الإماراتي عن التطبيع في تدوينة لولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، قال فيها: “في اتصالي الهاتفي اليوم مع الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين) نتنياهو، تم الاتفاق على إيقاف ضمّ إسرائيل للأراضي الفلسطينية. كما اتفقت الإمارات وإسرائيل على وضع خارطة طريق نحو تدشين التعاون المشترك وصولًا إلى علاقات ثنائية”.

وبغض النظر عن حقيقة إيقاف الضمّ الذي أنكره نتنياهو لاحقًا واصفًا إياه بـ”التجميد”، وعن خطوات حكومته المتسارعة نحوه منذ عام 2019، وارتفاع وتيرتها بل انكشاف حقيقتها في ضوء السابع من أكتوبر وما بعده، فإن آلية الإعلان لا تعكس حقيقة الاهتمام الفعلي بالقضية الفلسطينية في اتفاق التطبيع، وهو ما عبّر عنه نتنياهو بقوله إن اتفاق التطبيع أنهى مبدأ “الأرض مقابل السلام” لصالح “السلام مقابل السلام” و”السلام من منطلق قوة إسرائيل“.

أما المتغيرات التي دفعت الإمارات للسعي إلى الإعلان عن علاقاتها بدولة الاحتلال، وصبغها بقوة قانونية ودولية رسمية، فهي التهديدات الإقليمية، وأولها التهديد الإيراني المتنامي والذي برز في ضرب الحوثيين لمواقع حيوية في الإمارات ما بين عامَي 2017 و2019، دون أي تحرك دفاعي أو هجومي للحليف الأمريكي المتواجد بكثافة في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن.

في مقابل تحرك دولة الاحتلال لتزويد الإمارات بآليات تكنولوجية دفاعية ولوجستية متطورة، مدعومة بتعاون عسكري بحري وجوي نتج عنه إقامة منشآت عسكرية واستخباراتية جديدة إماراتية وإسرائيلية في جزيرة سقطرى، وتعاون في قواعد “إسرائيل” العسكرية في البحر الأحمر، بدءًا من دهلك ورواجيات ومكلهاوي، فيما يتاح للاحتلال الاستفادة من قواعد الإمارات في عصب بأريتيريا وميناء جيبوتي والموانئ السعودية والموانئ الإماراتية، ما بين المحيط الهندي والهادئ.

من بين المتغيرات التي توخّتها الإمارات في اتفاقها، هو أنه ينقل دكة القيادة من السعودية إلى الإمارات، ويمنح الأخيرة تفوقًا يثبت استقلاليتها عن المجموع العربي الذي تحكمه السعودية، وقدرة على موازنة المواقف انطلاقًا من مصلحتها أولًا، كما أنه يقدمها خطوات في الساحات الدولية والغربية على حساب المملكة العربية السعودية، التي ستظل مساعيها للتطبيع تابعةً لإنجاز الإمارات ليس إلا.

حتى أن الاتفاق يتجاوز الهالة الدينية للسعودية، بتقديمه الإمارات واجهة للإسلام ودولة قادرة على بناء واقع جديد في الشرق الأوسط، “يعيش فيه معًا المسلمون واليهود والمسيحيون والشعوب من جميع الأديان والطوائف والمعتقدات والقوميات، ويلتزمون بروح التعايش والتفاهم والاحترام المتبادل”.

وفي الوقت نفسه يعكس الاتفاق هاجس الإمارات بتحقيق اختراق على صعيد العلاقات الغربية والأمريكية، يرفعها إلى درجة مقاربة من علاقة الأخيرة مع دولة الاحتلال، لا سيما مع تشاركية المواقف والمصالح، وهو ما تمثّلَ بمرونتها السياسية دون تبعات لافتة في علاقتها بواشنطن، سواءً عند اتخاذها مواقف محايدة في الحرب الروسية الأوكرانية، أو توسُّع علاقاتها مع الصين وروسيا، وهو ما لا ينطبق على دول عربية أخرى بما فيها الرياض.

هذا المتغير مدعوم بحزمة منافع تكنولوجية واقتصادية وسياسية وعسكرية يقدمها الاتفاق لكلا الطرفين، بدءًا من رفع الحظر عن الإمارات أمريكيًا وإسرائيليًا فيما يخص عددًا من أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، ومن معدّات التكنولوجيا فائقة التطور، مرورًا باتّساع مجالات التعاون لتشمل الطب والتكنولوجيا والبيئة والفضاء، والتي تكرّست في منتدى النقب الذي ضمّ كلًّا من الإمارات ودولة الاحتلال، بالإضافة إلى مصر والبحرين والمغرب والولايات المتحدة.

وفي الواقع، إن التركيز على هذا المجال يكاد يظهر وكأن التجارة والاقتصاد هما عصب الاتفاق وعنوانه، حتى بلسان بنيامين نتنياهو الذي اعتبر أن الاتفاق يوفّر “بضائع ومنتجات أرخص بجودة عالية”، فيما تشير بيانات رسمية إماراتية إلى أن حجم التبادل التجاري الإماراتي الإسرائيلي بلغ نحو 1.154 مليار دولار أمريكي في أول عام له، ليتجاوز 3 مليارات عام 2023 مدفوعًا باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، التي نصّت على استثناء 96% من الرسوم الجمركية على جميع السلع فورًا أو تدريجيًا.

وهو ما وجد فيه الكثيرون تفسيرًا لاستمرار التطبيع رغم خطوات الضمّ المتسارعة للجولان وغور الأردن والضفة الغربية، ورغم الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2022 وعام 2024، وذلك باعتباره منفعيًا اقتصاديًا وليس سياسيًا بالمقام الأول.

لماذا تتصاعد وتيرة التطبيع رغم الإبادة؟
رغم كم المكاسب التي تروّج لها الإمارات لاتفاق التطبيع، إلا أن السؤال الذي تردد طويلًا عن الأثر السلبي للاتفاق على القضية الفلسطينية ظل قائمًا منذ توقيع الاتفاق، بل ازداد إلحاحًا مع الحرب الإسرائيلية على غزة 2023-2024، التي لم تؤثر حجم الوحشية والإبادة فيها على استمرار الاتفاق، ليتحول إلى تعجُّب واستنكار قوامه “لماذا تتصاعد وتيرة التطبيع رغم الإبادة؟”.

يمكن الإجابة عن السؤال باتجاهين، الأول هو إعادة النظر بالاتفاق من منطلق تأثيره على القضية الفلسطينية، إلى منطلق المكاسب الإماراتية المتحققة من ورائه، والثاني هو فهم منظور الحل للقضية الفلسطينية الذي تروّجه الإمارات في ضوء الاتفاق أو عدمه.

فطبقًا للاتجاه الأول، وبالنظر إلى صياغة الاتفاق وتوسّعه، وحجم المنافع الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية التي جبتها الإمارات منه، يتضح أن تجاهلها للقضية الفلسطينية على حساب مكاسبها هو تصرف طبيعي لأي دولة “غير عربية وغير إسلامية”.

وهو ما عبّر عنه بيان وزارة خارجيتها بالقول إن الاتفاق يأتي “في إطار سيادة الدولة الوطنية على قراراتها، كما أنه غير موجّه ضد أي طرف، بل يسعى في مضمونه الأساسي إلى التمييز بين الموقف السياسي والعلاقات الطبيعية التي تؤمن الإمارات بأنها ستؤدي إلى فتح آفاق جديدة تدعم قضايا الازدهار والاستقرار في المنطقة”.

وهذا البيان يعبّر عن السياسة الخارجية الإماراتية تجاه جميع القضايا العربية والإسلامية والدولية، التي تنطلق في التعامل معها من منظورها الخاص والمحدد بمصلحتها فقط، دون استثناء للقضية الفلسطينية، أو لحقوق الشعوب في الحرية كما في الحالة السورية، أو في الاستقلال والتخلُّص من التبعية كما في الحالة الليبية، أو في الأمن والسلم الداخلي كما في الحالة السودانية، أو حتى في تقرير المصير كما في حالة مسلمي الإيغور في الصين، أو مسلمي الهند، أو ثوار بنغلاديش.

أما فيما يتعلق بمنظور الإمارات الخاص للقضية الفلسطينية، فرغم ارتباطه بالاتجاه الأول باعتبارها المعادلة الفلسطينية “الحالية” خاسرة وفقًا لموازينها، ولم تعد ذات بريق عربيًا أو إسلاميًا، مفضلة الرهان فيه على “الأقوى” الذي تراه فائزًا وأكثر قدرة على حفظ مصلحتها الخاصة، فإنها في الوقت نفسه لا ترى الحل متحققًا في أي من القيادات الفلسطينية الموجودة حاليًا، ولا في ضوء أي من الحلول المطروحة على الأرض في ظل كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس.

ففي علاقتها بالأخيرة ما يتجاوز الجفاء إلى العداء، انطلاقًا من الرفض السياسي والأمني الإماراتي للإخوان المسلمين وكل ما يتصل بهم، والشعور بمقومات التهديد بوجودهم، بدءًا بجماعة الدعوة والإصلاح الإماراتية، مرورًا بأي وجود لأفراد من حماس في الإمارات، وهو ما كشف الغطاء عن طبيعة العلاقة بين حماس والإمارات منذ عام 2006.

حيث ساهمت الإمارات في حصار حكومة حماس وضغطت على مصر لتشديد الحصار عليها، مرورًا باغتيال المبحوح عام 2010 والقفز الإماراتي عليه بعوائد تطبيعية أعلى، ومن ثم موجة الربيع العربي التي أكدت اعتبار الإمارات للإسلام السياسي الذي تعبّر عنه كل من حماس والإخوان المسلمين تهديدًا.

ولم يهدأ الحال فترة 2014-2017، حين لعبت الإمارات دورًا استخباراتيًا في الحرب على قطاع غزة، تمثل في إدخال طاقم إماراتي من ضباط المخابرات تحت ستار تأسيس مشفى ميداني للهلال الأحمر الإماراتي، ليتضح أنهم عملوا على جمع معلومات استخباراتية عن مواقع كتائب القسام ومنصات إطلاق الصواريخ.

أما في عام 2017، ومع القطيعة الخليجية لقطر، أضحت حماس أمام مفترقين: قطر أم الإمارات، وأمام تاريخ من العداء وعمق العلاقات الإسرائيلية الإماراتية اختارت حماس قطر.

بينما عززت الإمارات من متانة علاقتها مع دولة الاحتلال، وتبنّت وجهة نظره بالتنديد بعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، والإشارة إلى حماس باعتبار ما قامت به هجومًا يستحق الإدانة، وبأنها لا تمثل الشعب الفلسطيني، وذلك في خطاب لممثلة الإمارات أمام الأمم المتحدة.

في المقابل، وبينما كانت الإمارات من أوائل الدول العربية الداعمة لمنظمة التحرير، والمعترفة بالدولة الفلسطينية بعد إعلان الاستقلال عام 1988، فإن استمرار عجز السلطة الفلسطينية عن السيطرة على الأرض، وفشلها الأمني المتفاقم رغم الدعم الدولي والعربي إبّان انتفاضة الأقصى 2004-2005، وتفشي مظاهر الفساد في الحكم والإدارة، وغياب الثقة الدولية والعربية بمحمود عباس وقدرته على تغيير الواقع الفلسطيني.

إضافةً إلى حالة الصراع الداخلي المتفاقم بين قياداتها، خاصة فريق محمود عباس وفريق محمد دحلان الذي تدعمه الإمارات، حيث يشغل منصب المستشار الخاص لولي العهد الإماراتي، ويعتبر خصمًا شخصيًا لرئيس السلطة الفلسطينية، دفعت السلطة إلى قطيعة مع الإمارات تكلّلت بإيقاف علاقاتها الدبلوماسية عام 2014، وشملت سلسلة مناكفات ممتدة حتى اتفاق التطبيع.

ففي ردّ فعل رسمي لها، وصفت السلطة الأمر بـ”خيانة للقدس والمسجد الأقصى والقضية الفلسطينية”، بل أكدت أنه “لا يحق لدولة الإمارات أو أية جهة أخرى التحدث بالنيابة عن الشعب الفلسطيني. ولا تسمح القيادة لأي أحد كان بالتدخل في الشأن الفلسطيني أو التقرير بالنيابة عنه في حقوقه المشروعة في وطنه”.

وهو ما ردّت عليه الإمارات في بيان وزارة خارجيتها باللمز بالقيادة الفلسطينية، باعتبار اتفاقية التطبيع تنقل التعاطي الرسمي مع قضية فلسطين “من مرحلة المزايدات والمتاجرة السياسية إلى التعاطي المنطقي المتوافق مع القراءة الجيوسياسية للأوضاع في المنطقة والعالم”، وأن “خيار السلام مع إسرائيل لن يكون على حساب دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق”.

فيما لم يغب عن البيان التذكير بأن الإمارات رابع أكبر دولة في العالم في تقديم المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1994، بقيمة 2 مليار و104 ملايين دولار أمريكي، وهي من أكبر الجهات المانحة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، بمساهمات بلغت أكثر من 828.2 مليون دولار بين عامَي 2013 و2020، فضلًا عن مشاريعها الإنمائية والإغاثية التي طالت مختلف المناطق الفلسطينية خلال سنوات طويلة.

ورغم أن “القيادة” نفسها أعادت سفراءها إلى الإمارات ومن ثم البحرين بعد ذلك بشهرَين، إلا أن ذلك جاء من ضعف وقلة حيلة، ولم يحسّن من موقفها أو يرفع من شعبيتها عربيًا أو دوليًا، وهو ما ظهر جليًا في إهمالها وتجاهلها في المباحثات الدولية إبّان السابع من أكتوبر، إلا فيما يتعلق بالحاجة إليها كشرطي أمني لخدمة أمن الاحتلال.

دفع ذلك وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، إلى التعبير عن فساد السلطة أمام ممثلها حسين الشيخ، وأمام وزير الخارجية الأمريكي بلينكين، بوصفها بأنها “علي بابا والأربعين حرامي“، مترجمًا بذلك سياسته الرسمية تجاهها التي تجدها “عديمة الفائدة”.

والحال كذلك، فإن السياسة الإماراتية تجاه القضية الفلسطينية المدعومة بمساعدات إنسانية وجسور جوية وقرارات أممية هنا وهناك، تتيح لها هلامية مرنة في اعتبار خطواتها بدءًا من التطبيع وما تلاه خدمة للشعب الفلسطيني، الذي لا ترى حتى الآن طرفًا فلسطينيًا يمكنها التعامل معه وفقًا لأجندتها، أو لم تستطع حتى الآن فرض طرف يرضيها، تجد فيه ممثلًا للشعب الفلسطيني وحارسًا على مقدراته، وأجندتها المتعاطية مع الاحتلال.

هذا فيما تواصل تطوير علاقاتها مع دولة الاحتلال وإنعاش اقتصاده وتدعيم أمنه مدفوعةً بالخوف على مكاسبها في خسارته، ومحفوفةً بصمت عربي وبدعم دولي وأممي وغربي متجدد لإبقاء آخر ممالك الإمبريالية صامدةً بحماية عربية مخلصة، تجد في بقائه بقاءها وفي ضعفه الفناء.


المصدر: نون بوست