الصحفي التلفزيوني الأشهر في بلغاريا الذي عرف بتغطياته لحربي لبنان وكمبوديا والأزمة القبرصية والقضية الفلسطينية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وصفه الرئيس البلغاري بأنه "أحد أكثر الشخصيات المرموقة في الصحافة البلغارية".
تتراوح ألقابه في بلده بـين "الأسطورة" و"الأكثر معرفة بالموضوع الفلسطيني".
كانت موهبته تشده إلى أي مكان من شأنه أن يقدم لمشاهديه رؤية تحليلية اجتماعية، بحسب رفاقه الذي عملوا معه.
الظروف وحدها قادت إيفان غاريلوف المولود في عام 1943 في قرية سميليتس، في منطقة بازارجيك الجنوبية، إلى مهنته التي اختارها: مهنة الصحفي.
فعندما كان يبلغ من العمر 14 عاما وفي بازارجيك وأثناء انتظار في طابور للصعود إلى الحافلة، كان السائق يمنعهم من ركوب الحافلة تحت المطر، فكتب الشاب الغاضب قصة عن ذلك وأرسلها إلى إحدى الصحف المحلية، ونشرت القصة، بل وتقاضى غاريلوف أجرا مقابلها، وفي ذلك الوقت قرر أن يصبح صحفيا ولم يندم أبدا على اختياره.
تخرج غاريلوف من جامعة صوفيا في عام 1972 حيث درس الصحافة، وعمل أثناء دراسته في وكالة الأنباء الروسية "بي تي إيه".
وأثناء دراسته عين في وكالة أنباء بلغاريا، وذلك بفضل إتقانه للغة اليونانية إلى حد كبير التي تعلمها بعد الانتهاء من الجامعة، عندما أرسل إلى اليونان لمدة خمسة أشهر في مهمة من قبل لجنة العلاقات الثقافية الخارجية.
وبعد التخرج عين في صحيفة "نارودنا ملاديتش" اليومية.
ثم التحق بالعمل التلفزيوني عبر برنامجه الحواري "بانوراما" على مدى ما يزيد على الربع قرن لغاية عام 1991 إلى جانب الأفلام الوثائقية التي أعدها، وبينها وثائقي بعنوان "قادم من إسرائيل: ريبورتاجات من الأراضي المقدسة والأراضي الفلسطينية المحتلة" حيث أجرى مقابلات مع جميع السياسيين والمثقفين البلغاريين البارزين خلال تلك الفترة.
وأصبح مصطلح "الأسطورة" كثير التداول في الإعلام المكتوب عند الإشارة إلى اسمه حتى عندما تتخذ أخباره طابعا شخصيا كانتقاله للعمل في محطة تلفزيونية جديدة أو تفرغه لإعداد كتاب جديد.
غاريلوف هو أيضا مؤلف سلسلة من الأفلام الوثائقية، أشهرها فيلمه عن كمبوديا بعد الانتصار على الخمير الحمر، وكان طاقم التلفزيون البلغاري أول من دخل البلاد المدمرة بسبب الإبادة الجماعية التي ارتكبها بول بوت.
كما أنه أصدر عددا من الكتب التي استمد مضمونها من رحلاته إلى المناطق الساخنة وأبرزها "أتيلا بمواجهة أفروديتا " حول الأزمة القبرصية.
وفي كتابه "همنغواي لم يكن هنا قط" فإنه خصص فصلين للعالم العربي، أحدهما عنوانه "في ضيافة صدام حسين" والثاني "غداء مع ياسر عرفات في بيروت المدمرة".
وصدر له أيضا "عش الكراهية" حول الصراع العربي الإسرائيلي، وكتاب آخر بعنوان "روك آند رول وتجسس.. والفالس الأخير"، و"رسائل لم تبعث إلى مرغريتا"، و"هنا والآن".
لكن ما كان لافتا في مسيرته الصحفية هو أن فلسطين والفلسطينيين كانوا وكأنهم قضية شخصية بالنسبة له، وتجلى ذلك في تبنيه للفتى الفلسطيني أحمد المليجي.
وتعود القصة إلى عام 1982 حين قابله في رحلة عمل إلى بيروت أثناء الحرب اللبنانية لإعداد فيلم عن الأطفال الفلسطينيين، وكيفية تدريبهم ليصبحوا محاربين.
وفي تلك الفترة كان يتردد غاريلوف على رئيس الصليب الأحمر البلغاري، حيث كان يطلب المزيد من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين أو يقدم التماسا للحصول على الجنسية البلغارية لابنه بالتبني أحمد.
غاريلوف تحدث بالتفاصيل عن رحلة أحمد في بلغاريا بعد شروعه في تعلم اللغة ثم التحاقه بمدارسها وصولا إلى الجامعة التي درس فيها الطب ثم زواجه وولادة طفله الأول الذي أسماه إيفان تيمنا براعيه ووالده بالتبني، وهو ما كرره المليجي عام 2005 عندما ولدت له طفلة أسماها إيفا.
مع إخفاق محاولة أحمد العودة مجددا إلى لبنان جراء إحدى جولات الحرب فيه، واستحالة ممارسته لمهنة الطب غير المتاحة للفلسطينيين، ساعده غاريلوف مجددا على الاستقرار في قرية ستارسيفو على الحدود مع اليونان، حيث عاد إلى ستارسيفو مع أسرته وعمل فيها، لكن وضعه الصحي ما لبث أن تدهور بسبب مرض في الدم.
ظلت قصة أحمد المليجي محط اهتمام الإعلام البلغاري عندما يتعلق الأمر بغاريلوف لغاية عام 2018، عندما كتب في صفحته على فيسبوك ما نصه: "هذا الصباح توفي أحمد الفتى الفلسطيني الذي استقدمته من لبنان. وبناء على رغبة زوجته رجاء فسيدفن الدكتور أحمد المليجي في لبنان".
حتى وهو في فترة انشغاله بكتابه الجديد فإنه وجد نفسه غارقا من جديد بالشأن الفلسطيني بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وقد استفزه انحياز الإعلام البلغاري بأكمله للرواية والسرد الصهيوني.
وكان الاختراق الأول لهذا الانحياز الإعلامي بقيادة اتحاد الصحفيين البلغار عندما نظم وقفة ذات بعدين إنساني وسياسي قبالة قصر الثقافة في العاصمة صوفيا. وخلال الوقفة التضامنية عبرت رئيسة الاتحاد سنيغانا تودوروفا عن تعاطفها مع الصحفيين الفلسطينيين ضحايا الحرب، وطالبت "بالتوقف عن قتل رواة الحقيقة، ووقف الحرب".
اقرأ أيضا:
ابن حي الشجاعية رائد العمل الخيري في الأردن (بورتريه)
كان للصحفي الأشهر غاريلوف كلمة تضامنية مكتوبة تليت أمام الجمع، ما لبث أن عززها بمقابلة صحفية تناول فيها أسباب استنكاف الإعلام البلغاري عن تقديم تغطية متوازنة لوقائع الحرب.
كان غاريلوف يرى أن هناك ارتباكا مرضيا غطى جزءا كبيرا من الصحافة البلغارية، يقول موضحا: "من المعروف أن هدفنا هو أن نكون أوروبيين-أطلسيين. ومن المعروف أيضا أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائما بشكل نشط على مر السنين. ولذلك فإن السياسة تجاه إسرائيل تعتبر بمثابة السياسة تجاه الولايات المتحدة".
ويقول في مقابلة مع الصحفية كادرينكا كادرينوفا بشأن مآلات الحرب على غزة: "أعتقد أنه في ما يتعلق بوقف إطلاق النار وتبادل الرهائن، فلا بد أن يحدث شيء ما، لكن هذا سيكون أمرا مؤقتا.. لا يوجد حديث عن إنهاء الحرب على الإطلاق، وإسرائيل لم تعلن أنها حققت أهدافها، ولا أحد يعرف إلى أي مدى سيصل الأمر. 30 ألف قتيل حتى الآن (وقت إجراء المقابلة) والتوقف رهن بمشيئة إسرائيل...
بإمكانها أن تعلن القضاء على قائد مهم جدا في حماس أو حتى قيادتها بأكملها ما يتيح لها الزعم بأن هدف الحرب قد تحقق".
أما عن صحفيي فلسطين الذين يجاهر بتضامنه اللامحدود معهم، فيقول في ذات المقابلة: "صحفيو فلسطين إخوتي في المهنة ودعمي لهم بلا حدود".
تصريحات غاريلوف عن فلسطين هي امتداد لمسيرة مهنية متوازنة ما زالت آثارها المكتوبة والمرئية قيد التداول.
وأحدث خبر وفاته حراكا إعلاميا وثقافيا كبيرا في بلاده وفي العالم حيث توفي في وحدة العناية المركزة العصبية بمستشفى بيروغوف للطوارئ في صوفيا حيث تم نقله بعد إصابته بصدمة خطيرة في الرأس في منتصف تموز/ يوليو الماضي بعد سقوطه في منتجع سفيتي فلاس وإصابة رأسه جراء حادث عارض أثناء عمله على كتاب جديد.
لقد بنيت احترافية إيفان غاريلوف، بحسب الإعلام البلغاري، على أسس أخلاقية متينة وسعة إطلاع ومعايير صحفية وأيضا على ضمير مدني، حماه من التدخلات غير اللائقة ليصبح مثالا للصحافة الشجاعة. وكانت قراءته الموضوعية للأحداث نقطة مرجعية موثوقة للجمهور وجزءا أساسيا من الجهود المبذولة للدفاع عن تعددية الآراء في بيئة الإعلام في بلغاريا.
رحل وكانت وصيته عبر وكالة الأنباء الروسية "بي تي إيه" في مقابلة بمناسبة عيد ميلاده الثمانين: "يجب على المذيعين، الذين هم وجه الصحافة، أن يخوضوا معركة من أجل الحقيقة، وأن يضحوا بأنفسهم ومصالحهم الخاصة ووسائل الراحة التافهة، باسم السعي وراء الحقيقة. الناس يقدرون ذلك".
لقد أمضى "الأسطورة" البلغارية حياته وهو يخوض معاركه مع الحقيقة والدفاع عن الشعوب المحتلة والمضطهدة، وكان الشعب الفلسطيني علامة فارقة في حياته المهنية.
المصدر: عربي ٢١