2024-11-16 12:28 م

كيف تحولت الضفة الغريبة إلى ساحة قتال رئيسية مع الاحتلال؟

2024-09-06

دخلت العملية العسكرية الإسرائيلية الموسعة التي تستهدف مدن ومخيمات وقرى شمالي الضفة الغربية أسبوعها الثاني، ووفقًا للإعلام العبري فإن جيش الاحتلال قرر إطالة أمد العملية العسكرية، ارتباطًا باستمرار ورود معلومات استخباراتية حول أنشطة مقاومة فلسطينية ونوايا تنفيذ عمليات أخرى.

يأتي قرار تمديد العمليات العسكرية بعد ساعات من كشف صحيفة “إسرائيل هيوم” العبرية، أن أحداث الأيام الأخيرة في الضفة الغربية دفعت المؤسسة الأمنية والعسكرية إلى تغيير كبير في سياستها تجاهها، بحيث إن الضفة الغربية ستعرف من الآن فصاعدًا على أنها “ساحة قتال ثانية” مباشرة بعد غزة، بعدما كانت تعرف على أنها “ساحة قتال ثانوية منذ بداية الحرب”، وهو توجه سيبنى عليه توسيع نطاق ومساحة العمليات العسكرية.

رافق مجريات العملية العسكرية الإسرائيلية الموسعة، التي أعلن جيش الاحتلال أنها تستهدف القضاء على مجموعات المقاومة الناشطة في شمالي الضفة وتحييد خطر العمليات الفدائية، العديد من المفاجآت التي يمكن الجزم بأنها لم تكن بوارد تقديرات الاحتلال، لا في داخل مناطق الاستهداف، ولا في خارجها أيضًا.

رعب المخيمات في مواجهة “المخيمات الصيفية”
في الساعات الأولى من يوم 28 أغسطس/ آب 2024، أعلنت “إسرائيل” بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في مناطق شمالي الضفة الغربية، وتحديدًا في 3 مدن (خاصةً مخيماتها): جنين، وطولكرم، وطوباس. سمّت “إسرائيل” هذه العملية باسم “المخيمات الصيفية”، فيما سمّتها فصائل المقاومة بالضفة وتحديدًا سرايا القدس رعب المخيمات.

اتّسم نمط الهجوم الأول لجيش الاحتلال على المناطق المستهدفة بالمباغت، إذ تحركت الآليات تحركًا متزامنًا في اتجاه جنين وطولكرم وطوباس، وأغلقت مداخلها ومخارجها وحاصرت مستشفياتها، سعيًا إلى خلق حالة من الصدمة والإرباك في صفوف المقاومين والحيلولة دون تمكنهم من اتخاذ تدابير دفاعية، أو التعامل وفق خطط مجهّزة مسبقًا لإعادة الانتشار أو تأمين مقدرات المقاومة في المناطق المستهدفة.

أحاط الاحتلال عمليته العسكرية بدعاية مضخّمة حول حجم العملية وعدد القوات المشاركة، كما عمد إلى تكثيف استهداف البنية التحتية وإشاعة أخبار متعددة حول إفراغ المخيمات من سكانها ودفعهم إلى النزوح (على غرار عمليات الإخلاء في قطاع غزة)، سعيًا إلى إرباك الحاضنة الشعبية وإدخالها في حالة من الذعر والفوضى تحت وطأة الخوف من تكرار مشاهد الدمار والقتل في قطاع غزة، خصوصًا مع تكرر مشهد حصار المستشفيات والقصف من الجو والحديث عن الإخلاء.

لم تفلح أساليب الحرب النفسية ولا المباغتة الميدانية المترافقة مع استخدام نيران غاشمة في إرباك المقاومة، التي من الواضح أنها أخذت بوادر الاستعدادات للتعامل مع سيناريو مشابه ووضعت الخطط للتعامل معه، وقد كان هذا جليًا منذ اللحظات الأولى للتصدي للعدوان في المخيمات الثلاث.

عمد الاحتلال إلى تنفيذ عمليات اغتيال استهدفت قادة مجموعات المقاومة، أبرزها كان اغتيال قائد “كتيبة طولكرم” في “سرايا القدس”، محمد جابر “أبو شجاع”، في 29 أغسطس/ آب، تلاه اغتيال القائد البارز في “كتائب القسام” بجنين، وسام خازم، بكمين للقوات الخاصة، تلاه استهداف من الجو في 30 أغسطس/ آب، فيما نسفَ عددًا كبيرًا من المنازل والمنشآت التي يدّعي استخدامها من قبل المقاومين.

في المواجهة، ردّت المقاومة على كل عمليات الاغتيال والاستهداف الموسع وعمليات النسف بردود مباشرة في الميدان، شكلت الكمائن والعبوات الناسفة السمات الأساسية لها، حولت كل خطوة من خطوات جيش الاحتلال داخل المخيمات إلى خطى في اتجاه كمين محتمل أو حقل من العبوات الناسفة، ما يرفع من تكلفة العمليات العسكرية بخسائر في المعدّات والأرواح،

وقد عقبت على الأمر صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية، بالقول إن “العبوات الناسفة في مخيمات شمالي الضفة تكبّد الجيش الإسرائيلي خسائر رغم استخدامه آليات ثقيلة. المسلحون في مخيمات الضفة الغربية يفخخون المباني بعبوات ثقيلة من شأنها إيقاع خسائر في الأرواح”.

الضغط على شمال الضفة يحرك جنوبها
في الوقت الذي شن الاحتلال عمليته مستهدفًا شمال الضفة الغربية سعيًا إلى الإجهاز على البنية التحتية التي أثبتت قدرتها على تجاوز العديد من الضربات، التي كان أكبرها عملية “بيت وحديقة” في يوليو/ تموز 2023، والتي فشلت فشلًا ذريعًا وكانت نتيجتها زيادة ثقة المقاومة بقدرتها على مواجهة التحديات والعدوان الإسرائيلي، ودفع الضغط العسكري الكبير مجموعات المقاومة إلى اتخاذ إجراءات أكثر عمقًا وصلابة في تعزيز بنيتها التحتية وحمايتها من التأثر بالعمليات العسكرية.

منذ الأشهر الأولى لانطلاق “كتيبة جنين” وضع الاحتلال على عاتقه اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمنع تمدد الحالة المقاومة إلى مدن أخرى في الضفة الغربية، وفي الوقت الذي كان واضحًا حجم الفشل الذي مُنيت به هذه الاستراتيجية في شمالي الضفة، مع انتقال نموذج “كتيبة جنين” إلى نابلس وطولكرم وطوباس وقلقيلية، إضافةً إلى مخيمات أريحا التي لم تتصلب فيها الحالة كثيرًا.

لم ترصد أجهزة أمن الاحتلال إشارات واضحةً حول وجود بنى تحتية للمقاومة في جنوب أو وسط الضفة الغربية، ولم تتوقف أيضًا جهوده المستمرة لإحباط أية محاولة لتشكيل أية خلايا في هذه المناطق، ويعكس هذا حجم وحملات الاعتقال المستمرة يوميًا، وهو ما خلق حالة من الارتياح الجزئي لدى استخبارات الاحتلال من هذه المناطق.

بُعيد العملية الاستشهادية في تل أبيب في 19 أغسطس/ آب، والتي أعلنت كتائب القسام على إثرها العودة إلى العمليات الاستشهادية ردًّا على تصعيد الاحتلال والاغتيالات، آثر الاحتلال الاندفاع إلى تنفيذ عملية العسكرية ضد شمالي الضفة، سعيًا إلى تفكيك أية بنية قد تعمل على الوفاء بالعهد الجديد للمقاومة وتنفيذ عمليات استشهادية.

شكلت العملية المزدوجة التي نُفّذت بالمركبات المفخّخة في مستوطنتي “كرمي تسور” و”غوش عتصيون”، صدمة كبيرة في الأوساط الأمنية، خصوصًا بعد أن اتضحت تفاصيل العملية، وتأكد ترابُط الحدثَين، وما تكشّف من تفاصيل فيما بعد حول المتفجرات وهوية المنفذين الذين اتضح انطلاقهم من مدينة الخليل المحتلة.

بعد أيام، أعلنت كتائب القسام مسؤوليتها عن العملية الاستشهادية المزدوجة والمركبة، وأكدت أنها تأتي استمرارًا لعهدها بالعودة إلى استراتيجية العمليات الاستشهادية في مواجهة التصعيد الإسرائيلي المتواصل، وهو إعلان زاد من صدمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إذ إن أسماء منفذي العملية لم تكن من الأسماء الواردة في قواعد بيانات أجهزة الأمن الإسرائيلية، ولا خلفية معروفة لهم، وهو ما ألمحت إليه كتائب القسام في بيانها بتأكيد أن “كافة محافظات الضفة بلا استثناء ستبقى تخبّئ بين أحيائها المزيد من المفاجآت المؤلمة والكبرى للمحتل الغادر”.

للخليل حساسية كبرى لدى أجهزة أمن الاحتلال، لعدة اعتبارات معقدة تمتزج ما بين الإرث الفصائلي الكبير داخل الخليل، وفي القلب منه إرث العلميات الفدائية الذي تميزت به الخليل، والقدرة السلسة على الحصول على السلاح بسب امتلاك العشائر لعدد كبير جدًا من الأسلحة.

إضافةً إلى كون بيئة الخليل متداخلة تداخلًا كبيرًا مع المستوطنين بحكم القرب الجغرافي، وهو قرب أيضًا يربط الخليل مع القدس، كما أن تاريخ الخليل في انتفاضة الأقصى الذي رفعت خلالها الخليل وتيرة المواجهة والعمليات الاستشهادية إلى حد غير مسبوق، بعد أن التحقت متأخرة بنحو 7 شهور بزخم الانتفاضة.

فالخليل قد تتأخر في الحضور، لكنها تعرف تمامًا كيف تغير جدول الأعمال الأمني برمّته بوزن حضورها وفعلها، وهو ما يجعل من وجود بنية تحتية صلبة للمقاومة فيها تستطيع أن تجهّز وتخطط وتوجه العمليات الاستشهادية التي تشكل خطرًا مضاعفًا على الواقع الأمني في الضفة الغربية.

تشريح أداء المقاومة في الضفة الغربية
بتجميع تفاصيل التطورات المتلاحقة للمشهد المقاوم في الضفة الغربية، يمكن أن نستخلص مجموعة من الملاحظات الرئيسية التي باتت تتضح من تجليات الميدان وتفاصيل العمليات والنشاط المقاوم:

عمق البنية التحتية: يعكس قدرة المقاومة على التعامل مع حملات الاحتلال العسكرية، والقبضة الحديدية التي باتت تنتهجها في مواجهة مجموعات المقاومة، حجم العمق والصلابة في البنية التحتية في أماكن ارتكاز المقاومة في شمالي الضفة الغربية، وهو ما يتيح لها أن تتجاوز الهجمات الكبرى وتحافظ على تركيبتها الرئيسية وترمم سريعًا أثر الضربات الإسرائيلية.
مركزية الفعل: شكلت الإعلانات المركزية الصادرة عن قيادة المقاومة، في تبني عمليات المقاومة وسرد تفاصيلها وحتى تصدير المقاطع المصورة للعمليات، حجم التنظيم المركزي لهذه المجموعات وانخراطها في العمل ضمن منظومة قيادية هرمية، بخلاف الصورة التي كانت سائدة حول كون الفعل عشوائيًا أو مبادرًا من نشطاء محليين.
تطور معادلات التصنيع العسكري: تعكس مجموعة من المؤشرات أن الخبرة في التصنيع العسكري وإنتاج المتفجرات باتت أكثر تقدمًا ونوعية، سواء في إنتاج العبوات الناسفة القادرة على إيقاع خسائر مؤثرة وواضحة في الآليات العسكرية الإسرائيلية والقوات المهاجمة، أو في إنتاج متفجرات منقولة (أحزمة ناسفة وحقائب مفخخة) على غرار ما حمل منفذ عملية تل أبيب، أو تفخيخ السيارات على غرار عمليات الخليل والسيارة المفخخة التي عثر عليها الاحتلال قرب رام الله.
 الصلابة الأمنية: بات واضحًا أن خلايا المقاومة في الضفة الغربية صارت أكثر صلابة أمنيًا، وتستطيع أن تؤمّن مقدراتها ومخططاتها وحجم وشكل وطبيعة تشكيلاتها تأمينًا أكثر متانة من السنوات الماضية.
العمى الاستخباراتي الإسرائيلي: نجاح المقاومة في تنفيذ عدد من العمليات النوعية دون وجود أية إشارات ساخنة حول نية تنفيذ هذه العمليات، يؤكد أن أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية تعيش حالة من العمى والتشتت في متابعة هذه الحالات، ورصد الإشارات الحقيقية لنوايا تنفيذ العمليات، إذ يعمل الاحتلال لمتابعة وملاحقة إشارات ساخنة من شمال الضفة الغربية، فتنطلق العمليات من جنوبها.
الاختيار الدقيق لمنفذي العمليات: عمدت المقاومة إلى تجنيد منفذي العمليات الاستشهادية على نحو الخصوص من أشخاص دون خلفية مقاومة، بحيث لا يكونوا ضمن دوائر الرصد والمتابعة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ويتمتعون بسلاسة الحركة والقدرة على التنقل دون خطر الانكشاف.
الاستفادة من تكتيكات المقاومة في غزة: يلحظ أن مجموعات المقاومة في الضفة الغربية، وخصوصًا في مخيمات شمالي الضفة الغربية، قد استفادوا بشكل كبير من تكتيكات المقاومة في نصب الكمائن واستنزاف القوات المهاجمة في قطاع غزة، وذلك عبر المشاهد التي تبثها المقاومة في قطاع غزة لكمائنها واستدراجها للجنود واستهدافهم بالعبوات الناسفة ومباغتتهم بالرصاص.
القنبلة الاستراتيجية باتت في الحديقة الخلفية
يرى الكتاب الإسرائيلي يوسي هوشع في مقالة له في صحيفة “يديعوت أحرونوت“، أن النماذج المتصاعدة في شمالي الضفة الغربية تخطو خطواتها لتتحول إلى “نماذج مصغّرة من غزة”، وهو ما يتطلب التعامل الأمني بحزم، والذي يشمل مخاطرة الجنود بحياتهم في الدخول إلى جنين وطولكرم حتى لا يسمحوا بأن يتحول “الجمر الصامت” الذي تعبّر عنه الضفة إلى نار كبيرة.

إن فشل الخيارات الأمنية منذ أكثر من عامين في استئصال بنية المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية المحتلة، يحولها تدريجيًا إلى خطر كبير سيدفع الاحتلال إلى سحب جزء من الألوية العسكرية الناشطة في قطاع غزة، أو على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وزجّها في الضفة، ما يعني المزيد من الاستنزاف للجيش المنهك في العمليات القتالية المستمرة منذ أكثر من عام.

يعرف الاحتلال أن كل هذه المعالجات الأمنية ستبقى قاصرة ما لم تفك الشيفرات الأساسية المرتبطة بخطوط تدفق المال والعتاد لمجموعات المقاومة في الضفة، إضافة إلى آليات التجنيد والهيكلة التي باتت أكثر عمقًا وصلابة وبعيدة عن أعين وآذان أجهزة مخابرات الاحتلال.

بينما تسير المجموعات المقاومة في الضفة بخطى ثابتة في اتجاه المزيد من التأثير، تسير أجهزة أمن الاحتلال إلى المزيد من العجز والتضارب في الاتفاق على شكل المعالجة الأجدى، خصوصًا مع التقاذف المستمر في تحمُّل المسؤوليات ما بين جيش الاحتلال وشرطة الاحتلال وحرس الحدود، الذين يقعون تحت مسؤولية الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير.

يرى جيش الاحتلال أن اعتداءات وهجمات المستوطنين توفر بيئة خصبة للمزيد من التصعيد في الضفة الغربية، فيما يرى أن المدخل الأساسي لمعالجة المعضلة الأمنية تتمثل بتعزيز حضور السلطة الفلسطينية وتعزيز دورها، ومنح فرصة للأجهزة الأمنية للسلطة للإيفاء بالتزاماتها الأمنية، في الوقت الذي يرى فيه قادة “الصهيونية الدينية” أن يد المستوطنين يجب أن تبقى مطلقة، وأن التوسع الاستيطاني لا يجب أن تحدّه حدود، وأن العقوبات على السلطة الفلسطينية يجب أن تستمر وتتصاعد، وهو موقف يتقارب معه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دون أن ينخرط في دعمه علنًا.

إن بيانات المقاومة المركزية حول ما تحمله الأيام القادمة من فعل مقاوم في الضفة الغربية، والتأكيد المحسوم بأن العمليات الاستشهادية ستكون نمطًا رئيسيًا في الفعل المقاومة، وترجمة هذه التهديدات والتعهدات على أرض الواقع، تجعل الضفة الغربية ساحة فعل واشتباك رئيسي سيحمل العديد من المفاجآت في المرحلة المقبلة، وستخلق بوابة استنزاف جديدة للاحتلال الذي يراهن على الإجهاز على المقاومة، كخطوة رئيسية للإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني.

المصدر/ نون بوست | أحمد الطناني