نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية تقريرا مثيرا حول الدور الذي يلعبه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مطلقة وصف "الطاغية" و"المستبد" عليه.
تقرير المجلة الذي كتبه الخبير في الشؤون الفلسطينية خالد الجندي، قال إن حقبة محمود عباس التي تستمر منذ نحو عقدين، تميزت بانقسام داخلي وعدم توافق سياسي.
وتابع بأنه على الرغم من جهوده لتحقيق اتفاق سلام مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن عباس أهمل الوحدة السياسية الداخلية، ما أدى إلى فشله في كلا الجانبين.
ويذكر التقرير أن "إعلان بكين الأخير دعا إلى الوحدة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية، ولكن عباس تجاهله".
ويضيف أن "عباس أظهر تناقضًا واضحًا بين قيادته واحتياجات الشعب الفلسطيني، ما ساهم في تدهور شعبيته ووضح دور عباس في الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس، وفشله في تقديم استراتيجية واضحة للتحرر الوطني".
وبحسب التقرير فإن "مستقبل القيادة الفلسطينية يعتمد على تجاوز هذه التوترات وإيجاد خليفة يمكنه توحيد الصف الفلسطيني".
وتحدث كاتب التقرير عن ازدراء عباس لأي مشروع وحدة سياسية بين الفصائل، معلقا بأن "من المحير أن يبدي زعيم سياسي، وخاصة زعيم غير شعبي مثل عباس، في لحظة من الصدمة الوطنية واليأس الوجودي، مثل هذا الازدراء الصريح لعرض الوحدة الوطنية".
وعلق بأنه "ربما شعر بأن حماس أصبحت في موقف حرج وبالتالي فهو لم يشعر بأي إلحاح لتقاسم السلطة مع المجموعة. أو ربما لم يكن راغباً في تحدي المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، الذين أصبحوا في أعقاب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ضد أي تسوية سياسية مع حماس".
وتابع: "في كلتا الحالتين، كان رفض عباس المتغطرس للخطة بمثابة تسليط الضوء على سمتين مميزتين لحكمه الذي دام قرابة العشرين عاماً ــ الانفصال العميق عن شعبه وعدم الرغبة في الترويج لاستراتيجية متماسكة للتحرير الفلسطيني. إذا كان التاريخ المؤلم للفلسطينيين قد علمهم شيئاً، فهو أن أموراً سيئة تحدث لهم عندما لا يكون لديهم زعماء جديرون بالثقة. وهذا هو حال عباس اليوم".
وأضاف: "لقد تحول عباس، الذي كان يُنظَر إليه ذات يوم باعتباره صانع سلام ومصلحاً سياسياً واعداً، إلى حاكم استبدادي ضيق الأفق ومتقلب المزاج، وله سجل حافل بالفشل".
وتاليا الترجمة الكاملة للتقرير:
لقد ظلت قيادة السلطة الفلسطينية منقسمة طيلة ما يقرب من عقدين من الزمان. فإلى جانب الانقسام الأساسي بين حركة حماس في غزة والسلطة في الضفة الغربية، فقد تنافست عديد الجماعات الأخرى على النفوذ.
وفي أواخر شهر يوليو/ تموز، اجتمع زعماء الفصائل السياسية الفلسطينية الأربعة عشر، بما في ذلك فتح وحماس، في بكين لإصدار دعوة إلى الوحدة الوطنية. ووعد الاتفاق الذي وقعوه، المعروف باسم إعلان بكين، بإنشاء حكومة توافقية ترأس كلا من قطاع غزة والضفة الغربية، وإصلاح وتوسيع منظمة التحرير الفلسطينية، وعقد انتخابات وطنية.
إن مثل هذه المقترحات ليست جديدة، وهي تؤكد إلى حد كبير المبادئ المنصوص عليها في اتفاقات المصالحة السابقة. ولكنها اكتسبت أهمية أكبر في ضوء الحرب غير المسبوقة التي شنتها إسرائيل على غزة. فحتى منتصف أغسطس/ آب، أسفر الهجوم الإسرائيلي الذي شنته إسرائيل رداً على هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عن مقتل أكثر من أربعين ألف فلسطيني ــ أغلبهم من النساء والأطفال ــ ونزوح مليوني شخص قسراً، وتحويل معظم الأراضي إلى أنقاض.
وأصبحت هذه اللحظة الأكثر دموية في التاريخ الفلسطيني والحلقة الأكثر تدميراً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ قرن من الزمان. وفي خضم هذه الأزمة، يوفر إعلان بكين خريطة طريق لمستقبل فلسطيني مختلف، مستقبل يتمتع بقيادة موثوقة ومؤسسات سياسية فعّالة ستكون ضرورية لليوم التالي للحرب.
ولكن على الرغم من خطورة الموقف، فقد انتقد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية منذ فترة طويلة وزعيم فتح في الضفة الغربية، إعلان بكين باعتباره غير مفيد وغير مهم (وقد أرسل عباس ممثلاً عن فتح إلى المحادثات بدلاً منه).
ومن المحير أن يبدي زعيم سياسي، وخاصة زعيم غير شعبي مثل عباس، في لحظة من الصدمة الوطنية واليأس الوجودي، مثل هذا الازدراء الصريح لعرض الوحدة الوطنية. ربما شعر بأن حماس أصبحت في موقف حرج وبالتالي فهو لم يشعر بأي إلحاح لتقاسم السلطة مع حماس. أو ربما لم يكن راغباً في تحدي المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، الذين أصبحوا في أعقاب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ضد أي تسوية سياسية مع حماس. وفي كلتا الحالتين، كان رفض عباس المتغطرس للخطة بمثابة تسليط الضوء على سمتين مميزتين لحكمه الذي دام قرابة العشرين عاماً ــ الانفصال العميق عن شعبه وعدم الرغبة في الترويج لاستراتيجية متماسكة للتحرير الفلسطيني.
إذا كان التاريخ المؤلم للفلسطينيين قد علمهم شيئاً، فهو أن أموراً سيئة تحدث لهم عندما لا يكون لديهم زعماء جديرون بالثقة. وهذا هو حال عباس اليوم.
لقد تحول عباس، الذي كان يُنظَر إليه ذات يوم باعتباره صانع سلام ومصلحاً سياسياً واعداً، إلى حاكم استبدادي ضيق الأفق ومتقلب المزاج، وله سجل حافل بالفشل. ورغم أن بعض هذه النكسات كانت نتيجة لقوى خارجة عن سيطرته، وخاصة خلال السنوات القليلة الأولى من حكمه، فإن أغلبها كانت من صنعه. وتتضمن القائمة القصيرة لهذه الأهداف السماح للانقسام السياسي الداخلي المنهك بالتفاقم، وخلق بيئة من الفساد والاستبداد المتزايد، والأمر الأكثر أهمية، الفشل في طرح استراتيجية متماسكة للتحرير الوطني.
ولم تكن أوجه القصور التي يعاني منها عباس أكثر وضوحاً ــ وأكثر أهمية ــ من غزة، موطن نحو 40% من جميع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي والتي طردت منها حماس سلطته الفلسطينية في عام 2007. فقد تجنب عباس باستمرار التعامل مع مشاكل غزة، ما سمح للقطاع بشل السياسة الفلسطينية الداخلية وإحباط مفاوضات السلام مراراً وتكراراً.
والآن، في خضم حرب مروعة لا تنتهي، تتاح لعباس الفرصة لتخفيف بعض الأضرار التي لحقت بالفلسطينيين وبإرثه من خلال السعي إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية. ولكن حتى في هذه اللحظة الأكثر حسماً في تاريخ فلسطين، يظل عباس متفرجاً عاجزاً، لا يملك إلا القليل من القول في الحرب أو السلام. بطبيعة الحال، لم يكن عباس وحده المسؤول عن إهمال القضية الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ــ فمن المؤكد أن حماس، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وحتى عملية السلام نفسها لعبت جميعها دوراً في ذلك. ولكن الزعامة الضعيفة لعباس ساهمت في الظروف التي أدت إلى تعجيل الحرب، ورؤيته المفتقرة للمستقبل تساعد في استمرارها الآن.
انتكاسة بعد انتكاسة
إن المشاكل التي تعيب زعامة عباس للسلطة الفلسطينية لها تاريخ طويل. فقد بدأت فترة ولايته بداية ميمونة في يناير/ كانون الثاني 2005، في أعقاب وفاة ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس المؤسس للسلطة الفلسطينية، الذي تولى السلطة الفلسطينية لعقود من الزمان. ولكن عباس سرعان ما واجه نكسة تلو الأخرى.
وكان التطوران الرئيسيان على وجه الخصوص ــ فشل الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة في أواخر عام 2005 وانهيار حكومة الوحدة الوطنية والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك في غزة في عام 2007 ــ سبباً في إقصاء زعامته فعلياً. فقد تولى عباس منصبه وهو يركز على هدفين مزدوجين هما توحيد الفصائل الفلسطينية المنقسمة تحت حكمه وتأمين اتفاق سلام من شأنه أن ينهي عقوداً من الاحتلال الإسرائيلي ويؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وعلى النقيض من عرفات، الذي سعى في كثير من الأحيان إلى استغلال العنف السياسي، كان عباس ملتزماً بقوة بالدبلوماسية. والواقع أن عباس، الذي يتحدث بهدوء ويشبه الجد، والذي سيبلغ التاسعة والثمانين من عمره في نوفمبر/ تشرين الثاني، كان يتمتع بكل الصفات التي لم يتمتع بها سلفه الأكبر من الحياة. كان عباس يفتقر إلى الكاريزما بشكل واضح وكان معروفًا بكرهه للحشود. وكان سلوكه أقرب إلى سلوك مدير مدرسة وليس زعيم حركة تحرير.
في غضون شهر واحد من توليه منصبه، تمكن عباس من توحيد الفصائل الفلسطينية المختلفة لدعم اتفاق وقف إطلاق النار مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، الأمر الذي أنهى بهدوء أكثر من أربع سنوات من إراقة الدماء أثناء الانتفاضة الثانية.
وكان عباس يأمل في استخدام الهدوء لإرساء الأساس للدبلوماسية، ولكن شارون لم يكن مهتماً بعملية السلام. وبدلاً من ذلك، طرح خطة جذرية للانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، وهي الخطوة التي لم تكن تهدف إلى تعزيز حل الدولتين، بل على حد تعبير رئيس أركان شارون دوف فايسغلاس، إلى “إخضاع الدولة الفلسطينية لـ”الفورمالديهايد”. وقد أغلقت إسرائيل حدود غزة فعلياً، الأمر الذي دفع اقتصادها إلى الانهيار. ورغم أن فشل الانسحاب الإسرائيلي من جانب واحد لم يكن خطأ عباس، إلا أنه أطلق سلسلة من الأحداث التي لن يتعافى منها أبداً.
إن الانتصار المفاجئ الذي حققته حماس في الانتخابات الوطنية في يناير/ كانون الثاني 2006 كان بمثابة نهاية فعلية لأربعة عقود من هيمنة فتح على السياسة الفلسطينية. وكان هذا بمثابة ضربة قوية ليس فقط لعباس بل وأيضاً لعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة.
ورغم أن عباس كان يأمل في تشجيع حماس على الاعتدال السياسي، فقد تبنت الولايات المتحدة وإسرائيل نهجاً يعتمد على مبدأ “الخسارة صفر” في التعامل مع الجماعة، التي صنفتها الولايات المتحدة وإسرائيل كمنظمة إرهابية: فقد رفضتا بشكل قاطع أي تعامل مع حماس إلى أن تلقي سلاحها وتعترف بإسرائيل. ومع امتناع إسرائيل عن تحويل عائدات الضرائب التي تشكل الجزء الأكبر من ميزانية السلطة الفلسطينية، فرضت الولايات المتحدة مقاطعة دولية على الحكومة الجديدة بقيادة حماس، الأمر الذي أدى إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني ودفع السلطة الفلسطينية إلى شفا الانهيار لفترة وجيزة.
وعلى أمل نزع فتيل الأزمة، أبرم عباس اتفاق وحدة مع حماس في فبراير/ شباط 2007، المعروف باسم اتفاق مكة، حيث وافقت حماس على التنازل عن السيطرة على أغلب وزارات السلطة الفلسطينية لحركة فتح. ورغم أن الاتفاق حظي بدعم المملكة العربية السعودية وحلفاء واشنطن العرب الآخرين، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل استمرتا في رفض أي ترتيب يسمح لحماس بالبقاء في الحكومة. وبدلاً من ذلك، ضغطت إدارة بوش على عباس لحل الحكومة والدعوة إلى انتخابات جديدة، وهي خطوة غير عادية وغير دستورية.
وواجه عباس خياراً مستحيلاً ـ إما إلغاء نتائج الانتخابات الديمقراطية وإشعال فتيل حرب أهلية، أو المخاطرة بالعزلة الدولية إلى أجل غير مسمى وانهيار السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف. ومع تصاعد الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، فقد اندلع القتال بين حماس والسلطة الفلسطينية في يونيو/حزيران 2007، وانتهى باستيلاء حماس بالقوة على غزة وطرد السلطة الفلسطينية من القطاع. وقرر عباس المهان حل حكومة الوحدة المزعومة واتهم حماس بتدبير انقلاب في غزة. وكافأت إسرائيل عباس برفع حصارها للضفة الغربية ومعاقبة غزة بحصار كامل.
لقد أدى انهيار اتفاق مكة والحرب الأهلية التي تلته في عام 2007 إلى ترسيخ الانقسامات الناشئة في السياسة الفلسطينية وضمان استمرار عدم الاستقرار في غزة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل مستعدتين لإسقاط السلطة الفلسطينية والصرح بأكمله الذي قامت عليه اتفاقات أوسلو من أجل إبعاد حماس عن السياسة الفلسطينية. ولكن من خلال إعطاء الأولوية لمطالب عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة على الوحدة الوطنية، ضمن عباس أنه لن يحصل على أي منهما.
لقد ترك الانقسام مع حماس قيادة عباس مقيدة بشكل دائم ــ ضعيفة للغاية بحيث لا يمكنها أن تكون شريك سلام جدير بالثقة، وتعتمد بشكل مفرط على الولايات المتحدة وإسرائيل في السعي إلى تحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية. وقد أصبح هذا واضحا على الفور تقريبا، مع إعادة إطلاق مفاوضات السلام في أنابوليس في أواخر عام 2007. واستمرت المحادثات لمدة عام، حتى اندلعت الحرب بين إسرائيل وحماس في ديسمبر/ كانون الأول 2008. في ذلك الوقت، كان هذا الصراع الأكثر دموية الذي وقع في غزة على الإطلاق، وأول حروب دامية عديدة في السنوات التي تلت ذلك. وكان الهجوم الإسرائيلي، الذي أسفر عن مقتل نحو 1400 فلسطيني و13 إسرائيليا، سببا في تآكل دعم عباس بشكل خطير. والآن ينظر إليه العديد من الفلسطينيين ليس فقط باعتباره عاجزا عن وقف الهجوم، بل وأيضا باعتباره متواطئا فيه، نظرا لعدائه مع حماس.
وبعد أشهر، اضطر عباس إلى إحياء الكابوس الذي أعقب صدور تقرير غولدستون، وهو تحقيق بتكليف من الأمم المتحدة في حرب غزة في عامي 2008 و2009، والذي اتهم إسرائيل وحماس بارتكاب جرائم حرب. وعندما طرح تقرير غولدستون للتصويت في الأمم المتحدة في أواخر عام 2009، تعرض عباس لضغوط أمريكية وإسرائيلية مكثفة لطلب من حلفائه تأجيل التصويت، وهو ما فعله، ما أشعل عاصفة نارية.
وبالنسبة للعديد من الفلسطينيين، فإنه كان استعداد عباس للتخلي عن سكان غزة الذين قتلوا في الحرب فضلاً عن التخلي عن قطعة حاسمة من النفوذ ضد المحتلين الإسرائيليين بمثابة خيانة. وعلى الرغم من محاولات عباس للسيطرة على الأضرار، بما في ذلك عرض فاتر بالاستقالة، فإن كارثة غولدستون كانت بمثابة نقطة انحدار جديدة في رئاسته. والآن بعد أن أصيب بالشلل السياسي، فقد أمضى عباس العام التالي في تجنب توسلات الولايات المتحدة لاستئناف المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ووافق فقط على المشاركة في “محادثات القرب” غير المباشرة، حيث كان المسؤولون الأمريكيون يتواصلون بشكل منفصل مع المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحتى بعد أن نجحت واشنطن في إقناع عباس باستئناف المفاوضات المباشرة في سبتمبر/ أيلول 2010، فقد انهارت تلك المفاوضات في غضون أسابيع قليلة.
الموت بسبب التثليث
لقد تسببت انتفاضات الربيع العربي، التي بدأت في أواخر عام 2010 واستمرت في الانتشار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط خلال معظم عام 2011، في المزيد من الصداع لعباس. ففي أوائل عام 2011، أدت ثورة شعبية إلى الإطاحة بحسني مبارك، الرجل القوي في مصر لفترة طويلة وحليف عباس الأكثر أهمية في العالم العربي. وبعد الإطاحة بمبارك، اكتسبت جماعة الإخوان المسلمين المصرية ــ حليفة حماس ــ السلطة لفترة وجيزة، ما شجع منافسي عباس.
وعلاوة على ذلك، فقد ضعفت شرعية عباس مع استمرار السلطة الفلسطينية في الانقسام والفساد والقمع. وانتشرت الاحتجاجات إلى الضفة الغربية وغزة. ومع مطالبة المتظاهرين بإنهاء الانقسامات بين فتح وحماس، اضطر عباس إلى التراجع عن عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة والسعي إلى الوحدة الوطنية. وفي مايو/ أيار 2011، وقع على اتفاق مصالحة مع حماس، والذي دعا إلى تشكيل حكومة توافق وطني تتألف من تكنوقراط غير منتمين إلى أي فصيل، فضلاً عن انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. وفي الوقت نفسه، سعى للحصول على عضوية الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من الشعبية الهائلة التي حظيت بها هذه الإجراءات في الداخل، فقد أثارت ردود فعل عقابية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. ونتيجة لهذا، اضطر عباس إلى التروي، فراح يماطل في تنفيذ اتفاق المصالحة مع حماس في حين كان يستعد ببطء لمحاولة الانضمام إلى الأمم المتحدة. وقد حصل على دفعة محلية كان في أمس الحاجة إليها عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 أخيراً على الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو. وقد سمح الوضع الجديد للفلسطينيين بالانضمام إلى هيئات دولية أخرى، مثل المحكمة الجنائية الدولية.
ولكن على الرغم من لحظات التحدي العابرة، كان عباس يعتمد على الولايات المتحدة إلى الحد الذي منعه من الانسحاب بالكامل. وأصبح تمسكه بعملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة يشكل عبئا محليا لأن أغلب الفلسطينيين رأوا أنها غير متوازنة وغير فعّالة إلى حد كبير. وحاول عباس تحقيق التوازن بين هذه المصالح المتضاربة من خلال ملاحقة ثلاثة مسارات في وقت واحد: المصالحة الداخلية، وتدويل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال الأمم المتحدة وغيرها من المنتديات المتعددة الأطراف، والمفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة مع إسرائيل. ولكن بدلا من نسج المسارات الثلاثة في خطة واحدة متماسكة للتحرير الوطني، تردد عباس بين كل من هذه الأولويات في حين لم يلتزم بأي منها على الإطلاق. وعندما استنفد أحد المسارات أو أصبح مكلفا للغاية، فقد تحول عباس ببساطة إلى المسار التالي. وعلى هذا فإنها عندما انهارت المفاوضات تحت قيادة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري (كما كان متوقعا إلى حد ما) في مارس/ آذار 2014 بعد تسعة أشهر فقط، غير عباس مساره من خلال الدخول في 15 اتفاقية ومنظمة دولية والتوقيع على اتفاقية مصالحة أخرى مع حماس.
ولكن عباس ظل عاجزا عن التأثير على الأحداث في غزة. وكان اندلاع حرب مدمرة أخرى في المنطقة في عام 2014، والتي خلفت نحو 2200 قتيل فلسطيني و70 إسرائيليا، سببا في تقويض مكانة عباس على المستوى المحلي مرة أخرى. فقد شعر العديد من الفلسطينيين بالغضب من السلطة الفلسطينية، حيث اعتبروا أنها انحازت إلى إسرائيل والولايات المتحدة ضد حماس. ولتهدئة الغضب، انضم عباس إلى المحكمة الجنائية الدولية في أوائل عام 2015 ــ وهي الخطوة التي اعتبرها العديد من الإسرائيليين خيارا نوويا، وكان عباس يتجنبها عمداً حتى ذلك الحين. وأدى القرار إلى فرض عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية من قِبَل إسرائيل والولايات المتحدة. وأصبح عباس الآن محاصرا في حلقة مفرغة من صنعه إلى حد كبير: فكلما أصبح أضعف، شعر بأنه مضطر إلى إبعاد نفسه عن إسرائيل وعملية السلام، ولكن كلما تحدى المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، واجه المزيد من العقوبات وأصبح أضعف.
بحلول عام 2015، بدأت الجدران تضيق على عباس. وحقق عباس ارتفاعًا مؤقتًا في شعبيته بالانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. لكن هذه الخطوة أشارت أيضًا إلى أنه سلك مسار التدويل إلى أقصى حد ممكن. وفي الوقت نفسه، أنهى إعادة انتخاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ترأس ائتلافًا أكثر يمينية من ذي قبل، أي فرصة لاستئناف مفاوضات السلام. لقد قدم الركود الدبلوماسي والحاجة الملحة لإعادة إعمار غزة لحظة مناسبة لترتيب بيت الفلسطينيين أخيرًا، لكن عباس توقف مرة أخرى. خففت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من موقفهما تجاه المصالحة الفلسطينية، وألمحتا إلى أنهما يمكنهما العمل مع (أو على الأقل التعايش مع) حكومة التوافق. لكن حكومة التوافق، التي لم تكن تعمل بعد في غزة، حلها عباس بعد عام واحد فقط من تشكيلها، مما أدى إلى تأخير جهود إعادة الإعمار في الجيب المدمر بسبب الحرب.
ورغم أن حماس كانت قد أشارت، بموافقتها على تقاسم السلطة، إلى استعدادها للتخلي عن دورها في الحكم في المنطقة، فإن عباس كان متردداً في وراثة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية العديدة التي يعاني منها قطاع غزة، والتي لم يكن لديه سوى القليل من الحلول لها. فضلاً عن ذلك، فإنه كان أقل حرصاً على تقاسم السلطة مع حماس في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الموسعة والمُصلحة. وخلال هذه الفترة، هبطت شعبية عباس إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث قال ما يقرب من ثلثي الفلسطينيين إنهم يفضلون استقالته ــ وهي النسبة التي لم تتوقف عن الارتفاع على مر السنين. وأصبحت التكهنات العامة حول من قد يخلف الزعيم المسن شغلاً وطنياً شاغلاً.
عباس الطاغية
ومع بدء ضعف استراتيجيته في التنقل بين المسارات، ومع نزيف شرعيته المحلية، أصبح عباس أكثر استبدادًا وجنونًا. بدأ في مهاجمة المنافسين والمتحدين المحتملين، سواء كانوا حقيقيين أو متخيلين.
وتوسعت قائمة أعدائه الداخليين وشملت رئيس الأمن السابق في غزة محمد دحلان، ورئيس الوزراء السابق سلام فياض، والشخصية البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه. كان عباس يحكم فعليًا بموجب مرسوم منذ عام 2007، دون إشراف برلماني أو مؤسسي من أي نوع. ولإخفاء تعسف حكمه، أنشأ محكمة دستورية عليا جديدة في عام 2016، والتي حشدها بالموالين للختم على قراراته.
وبعد عامين، أعاد عباس إحياء المجلس الوطني الفلسطيني، برلمان منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى، والذي كان خاملاً لفترة طويلة، لأول مرة منذ 22 عامًا، من أجل انتخاب لجنة تنفيذية جديدة؛ ولكن في عام 2015، أعاد المجلس التشريعي تعيينه رئيسا له، كما جدد ولايته كرئيس للسلطة الفلسطينية، ما أدى إلى إلغاء الحاجة إلى إجراء انتخابات. ورغم إدانة المجتمع المدني وجماعات المعارضة لمثل هذه التدابير، أصر عباس. وبحلول نهاية عام 2018، استخدم عباس سلطاته المكتشفة حديثا لحل المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية (الذي كان خاملا إلى حد كبير) رسميا.
وبعد أن ربط نفسه بشكل كامل بسفينة عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ترك عباس نفسه عُرضة لتقلبات السياسة الأميركية والإسرائيلية على مدى السنوات العديدة التالية. حاول عباس في البداية التقرب من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكنه اضطر إلى تغيير مساره في أواخر عام 2017 عندما اعترف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ما قلب 70 عاما من السياسة الأمريكية. ثم اتخذ عباس الخطوة غير المريحة ــ وغير المسبوقة بالنسبة للسلطة الفلسطينية ــ بإعلان أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على أن تكون جزءا من عملية السلام.
ولكن ترامب لم يكن قد بدأ بعد. فعلى مدى السنوات القليلة التالية، ألقت إدارته بكل ما في وسعها على عباس، وقطعت كل المساعدات للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وعكست سياسات الولايات المتحدة بشأن المستوطنات بإعلانها قانونية، وألغت صيغة الأرض مقابل السلام، بل وحتى تخلصت من فكرة أن الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي. (أطلق ترامب على الأراضي مصطلح “المتنازع عليها” أو ببساطة “يهودا والسامرة”). ومن عجيب المفارقات أن هجوم ترامب المناهض للفلسطينيين ساعد عن غير قصد قيادة عباس المتعثرة. وردًا على ما يسمى بصفقة القرن التي اقترحها ترامب، وهي تسوية سلام مزعومة منحت إسرائيل كل مطالبها الرئيسية تقريبًا، والحديث المتزايد بين الإسرائيليين عن الضم الرسمي في الضفة الغربية، نفذ عباس تهديده القديم بقطع العلاقات الأمنية مع إسرائيل، ما أعطى الزعيم المحاصر دفعة شعبية عابرة. وعلاوة على ذلك، أجبرت اتفاقيات إبراهيم – صفقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين، الموقعة في سبتمبر/ أيلول 2020 – الفلسطينيين على التوحد للدفاع عن نضالهم التحرري، الذي تم تهميشه فعليًا. كانت الاتفاقيات بمثابة تحول في السياسة الخارجية للعديد من الدول العربية، التي كانت تعتقد سابقًا أنها لن تقيم علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل إلا في مقابل تنازلات للفلسطينيين. وفي غضون أيام من توقيع اتفاقيات إبراهيم، وقعت فتح وحماس على أوسع اتفاق مصالحة بينهما حتى الآن، والذي تضمن لأول مرة على الإطلاق جدولًا للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
إذا كانت هناك فرصة لعباس لإعادة كتابة إرثه، فكان من المفترض أن تكون الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في ربيع وصيف عام 2021 هي تلك الفرصة. وعلى الرغم من أن فتح وحماس حاولتا إعداد النتيجة مسبقًا، إلا أن هناك حماسًا شعبيًا حقيقيًا لاحتمال إحياء السياسة الفلسطينية بعد سنوات من الركود، حيث من المقرر أن تشارك 36 قائمة انتخابية وأكثر من 1300 مرشح في أول انتخابات وطنية منذ 15 عامًا. ولكن في يناير 2021، تولى الرئيس جو بايدن منصبه، ومرة أخرى، أخضع عباس احتياجات شعبه في محاولة لكسب ود الإدارة الجديدة في واشنطن.
أولا، استأنف عباس بسرعة التنسيق الأمني مع إسرائيل وقام بإيماءات أخرى لاستعادة ود واشنطن. لم يكن الشعور متبادلا. أعاد بايدن المساعدات للفلسطينيين لكنه لم يكن مستعدا لاستثمار رأس مال سياسي كبير في الفلسطينيين أو حل الدولتين. ومع ذلك، ومع ذوبان الجليد في العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد شعر عباس مرة أخرى بالراحة في تجميد السياسة الداخلية. ومع اقتراب الانتخابات الفلسطينية، أصبح عباس متوترا بشأن آفاق حزب فتح الذي ظل منقسما بشدة. قبل ثلاثة أسابيع فقط من التصويت، ألغى عباس الانتخابات، ما أثار غضبا واسع النطاق بين الفلسطينيين. قوبل القرار بالصمت من واشنطن.
لقد ثبت أن قرار عباس بإلغاء الانتخابات كان من بين أهم الخطوات التي اتخذها في حياته السياسية. فكان من شأن إجراء الانتخابات أن ينهي الانقسام المنهك مع حماس من خلال دمج المجموعة في السياسة الرسمية، بل وربما كان ليمنع هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لأن حماس كانت لتفقد إلى حد كبير قدرتها على العمل كوكيل حر. ولكن بدلاً من ذلك، كان إلغاء الانتخابات بمثابة تأكيد على إرث عباس الكارثي وتسريع زواله السياسي. فبعد أسابيع قليلة من تخليه عن الانتخابات، قتلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية نزار بنات، وهو ناشط شعبي ومنتقد لعباس، الأمر الذي أشعل شرارة الاحتجاجات لأسابيع وأبرز الفساد الأخلاقي الذي أصاب إدارة عباس.
ومع تطور الحرب الإسرائيلية الحالية في غزة، ظل عباس عاجزاً وغير ذي صلة، بل إن إقطاعتيه في الضفة الغربية بدأت تنهار. وفي ظل معاناة السلطة الفلسطينية من نقص السيولة النقدية، وعجزها عن دفع الرواتب، أدت الحملة الإسرائيلية العنيفة على المتمردين المسلحين في مختلف أنحاء شمال الضفة الغربية إلى قلب حياة الفلسطينيين العاديين رأساً على عقب، وأرغمت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على الخروج من أجزاء من شمال الضفة الغربية.
بطبيعة الحال، يواجه أي زعيم فلسطيني قيوداً كبيرة على السلطة. وبسبب انعدام الجنسية الفلسطينية وتبعية السلطة الفلسطينية لإسرائيل، لا يستطيع أي زعيم فلسطيني التأثير على النتائج بنفس الطرق التي يستطيع بها نظيره الإسرائيلي أو الأميركي التأثير. وعلى الرغم من القيود التي واجهها عباس، فقد كانت هناك أوقات أظهر فيها أنه قادر على تحقيق إنجازات كبيرة، وغالباً في ظل مخاطر كبيرة. فقد تمكن من مقاومة العقوبات الأميركية والإسرائيلية للحصول على وضع دولة غير عضو في الأمم المتحدة لفلسطين في عام 2012 والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015.
والواقع أن حملة عباس لبناء الدعم الدولي للفلسطينيين من خلال الهيئات المتعددة الأطراف مهدت الطريق أمام تحقيق محكمة العدل الدولية في إسرائيل بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية هذا العام، وطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق كل من القادة الإسرائيليين وحماس. ولكن عباس لم يكن على استعداد لتحدي الولايات المتحدة وإسرائيل إلا عندما يخدمه ذلك شخصيا، مثل تحسين مكانته المحلية. ولم يكن على استعداد لتحمل نفس المخاطر في خدمة شعبه، على سبيل المثال من خلال إنهاء الخلاف مع حماس، وهو ما كان ليتطلب شكلاً من أشكال تقاسم السلطة.
لقد كانت المعضلة الأساسية التي يواجهها عباس دوماً تتلخص في كيفية تحقيق التوازن بين الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل وبين ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية. ولكن ما فشل عباس، وزعماء إسرائيل والولايات المتحدة، في فهمه هو أن تحقيق السلام الدائم مع إسرائيل في غياب المصالحة الوطنية لن يكون ممكناً تقريباً. ومن خلال التضحية بالتماسك السياسي الفلسطيني وشرعيته الداخلية على مذبح عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، ألحق عباس ضرراً لا يُحصى بالنضال الفلسطيني. كما عملت إسرائيل على تعميق الانقسام الفلسطيني من خلال استراتيجية “فرق تسد”، التي أثبتت أنها قصيرة النظر وضارة، كما أثبت هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
ولكن عباس لن يظل موجوداً إلى الأبد، ومن الأهمية بمكان أن يتطلع الفلسطينيون إلى خليفة قادر على التغلب أخيراً على التوترات التي شلت زعامة عباس منذ البداية. وسوف يضطر خليفة عباس إلى حل هذه المعضلة من خلال توحيد الكيان السياسي الفلسطيني المنقسم، بما في ذلك دمج حماس في الهياكل السياسية الرسمية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية. وسوف يكون من الصعب للغاية على المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين أن يتقبلوا هذا، ولكن الحركة لن تختفي، والسماح لها بالاستمرار في العمل كوكيل حر سوف يكون أسوأ من ذلك. وبدعم من الولايات المتحدة أو بدونه، يتعين على الزعيم الفلسطيني القادم أن يعبر عن رؤية واضحة للوحدة الوطنية والتحرير ـ رؤية لم تعد خاضعة لعملية سلام عقيمة وبائدة.
المصدر: عربي ٢١