2024-11-22 07:16 م

لفهم إصرار نتنياهو على احتلال محور فيلادلفيا.. يجب العودة إلى 2005

2024-08-31

صادق المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية “الكابينت” في دولة الاحتلال بالأغلبية شبه المطلقة على بقاء الجيش الإسرائيلي في محور “فيلادلفيا”، وهو ما يعني فعليًا قرارًا رسميًا من أعلى سلطة سياسية في “إسرائيل” بالسيطرة وإعادة احتلال الممر الذي يربط قطاع غزة بالعالم عبر حدودها مع مصر.

يأتي قرار “الكابينت” الإسرائيلي في الوقت الذي لم تتوقف الوفود المُكلَّفة بالتفاوض عن الانتقال ما بين القاهرة والدوحة لمناقشة نصوص الصفقة المقترَحة التي كان يُفترَض بها أن تفضي إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة وتبادل للأسرى، ويقع في صلب هذه النقاشات النقاش حول الانسحاب الإسرائيلي من المحور الحدودي، وهو المطلب الذي تضعه المقاومة بوصفِه أولوية أساسية ضمن مطلبها بالانسحاب الإسرائيلي من كامل أراضي قطاع غزة كمدخل لإنجاز صفقة تبادل الأسرى وإنهاء الحرب.

يُصر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على حسم الجدل حول بقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا من عدمه، وهو جدل ليس مع الوسطاء فحسب، بل مع دوائر متعددة داخل “إسرائيل” نفسها أيضًا، خاصةً الدائرتين العسكرية والأمنية، والتي يُشكل قادة كل منهما السواد الأكبر من وفد التفاوض الإسرائيلي.

إذ لا تتبنى الأجهزة الأمنية والجيش في دولة الاحتلال وجهة نظر نتنياهو بضرورة البقاء في “فيلادلفيا”، فعلى الرغم من إقرارها بأهميته، ترى أنه بقاء لا يجب أن يُشكِّل عائقًا أمام إتمام الصفقة على أساس أن استعادة الأسرى تمثِّل الأولوية الأولى، وأن ما حققه الجيش في “فيلادلفيا” كافٍ لضمان تحقيق أهداف “إسرائيل” ومحاذيرها الأمنية، وفي المقابل يتمسك رئيس الوزراء الإسرائيلي بشرط البقاء في ذلك المحور، عادًّا التوجه بالحيوي والضروري من أجل تحقيق “أهداف الحرب” وضمان حصد “النصر المُطلَق” في قطاع غزة.

في الخلفية، فإن موقف نتنياهو من ضرورة وحيوية التواجد الإسرائيلي في محور “فيلادلفيا” موقفٌ تاريخي، تصلَّب فيه في رفض كل الأفكار والأطروحات التي كانت تدعو إلى الانسحاب من “فيلادلفيا” إبان انتفاضة الأقصى، وشكَّل عنوانًا أساسيًّا من عناوين مواجهته لخطة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرئيل شارون، للانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في العام 2005، وبالتالي فإن سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي الآن لتثيبت إعادة احتلال الحدود بين قطاع غزة ومصر يقع ضمن مسعى يهدف إلى تصحيح ما عدَّه خطأً استراتيجيًا في حينه.

محور فيلادلفيا.. نقطة اتصال قطاع غزة بالعالم
يقع محور فيلادلفيا على الأراضي الفلسطينية بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، على طول الحدود المصرية مع القطاع، ويمتد من البحر الأبيض المتوسط شمالًا حتى معبر كرم أبو سالم جنوبًا، حيث نقطة التقاء الحدود بين مصر وقطاع غزة ودولة الاحتلال.

ويشكِّل المحور شريطًا عازلًا بين مصر والقطاع، بلغ طوله 14 كيلومترًا فقط (نحو 8.7 ميلًا) وعرضه 100 متر، وقد أنشئ عليه معبر رفح البري، الذي يمثِّل المنفذ الرئيسي للغزيين على العالم الخارجي.

ومثَّل المحور موضع جدل كبير في الأوساط السياسية بعد أن سيطرت حركة حماس على القطاع في العام 2007، وباتت قواتها الأمنية القوات التي تتولى مسؤولية الانتشار على الحدود مع مصر، في الوقت الذي اشتد فيه الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وشكَّلت الأنفاق التي انتشرت على طول الحدود بين مصر وقطاع غزة شريان الحياة الرئيس للقطاع لسنوات.

اتهمت “إسرائيلُ” فصائلَ المقاومةِ بتهريب السلاح والمعدات العسكرية والمواد الأولية اللازمة للتصنيع العسكري عبر الأنفاق على الحدود المصرية، ولم تتوانَ دولة الاحتلال عن تنفيذ هجمات باستخدام أنواع متعددة من الصواريخ، شملت الصواريخ الارتجاجية، والصواريخ المُعدَّة لاختراق التحصينات، في استهداف الشريط الحدودي لأنفاق يدعي الاحتلال استخدامها لأغراض عسكرية.

وعلى الرغم من أن الجيش المصري قد كثف من نشاطه على الحدود بدرجة كبيرة، وعمد إلى إقامة منطقة عازلة في مدينة رفح المصرية، وشن حملة واسعة استهدفت القضاء على الأنفاق واتخاذ إجراءات متعددة شملت حتى التفاهم الأمني مع “حماس” في قطاع غزة حول الآليات الأمنية لضبط الحدود، فإن هذا لم يكن كافيًا لتبديد المخاوف الإسرائيلية.

ما بين “كامب ديفيد” و”أوسلو”
لم تتطرق اتفاقية كامب ديفيد، التي وُقِّعت بين مصر و”إسرائيل” عام 1978، مباشرةً إلى محور فيلادلفيا بالاسم، لأن الاتفاقية كانت تركز بدرجة رئيسة على “إطار للسلام بين مصر وإسرائيل”، بما في ذلك انسحاب “إسرائيل” من سيناء وترتيبات أمنية بين البلدين. ومع ذلك، فإن الترتيبات الأمنية التي اتُّفِق عليها في إطار هذه المعاهدة أثّرت على منطقة الحدود بين مصر وقطاع غزة، والتي تشمل محور فيلادلفيا.

وفقًا لترتيبات “كامب ديفيد“، قسِّمت سيناء إلى مناطق أمنية مختلفة، إذ كانت المنطقة “ج” (التي تشمل جزءًا من محور فيلادلفيا) منطقةً منزوعة السلاح، ولم يُسمَح هناك إلا بوجود قوات شرطة مدنية مصرية بأسلحة خفيفة لضمان النظام والأمن.

ووفقًا للاتفاقية، فإن المنطقة الحدودية التي تقع على الأراضي الفلسطينية، والتي أطلق عليها “د” تخضع لسيطرة القوات الإسرائيلية التي حددت حسب الاتفاقية بكتائب مشاة تصل إلى 180 مركبة مدرعة من الأنواع كافة، وطاقم مكون من 4 آلاف عنصر، إضافةً إلى منشآت عسكرية وتحصينات ميدانية.

نصت الاتفاقية على ترتيبات أمنية صارمة على طول الحدود بين مصر والأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ حُدِّدت أماكن تمركز القوات والتواجد العسكري على طول الحدود لضمان ألَّا تقع أي خروقات أمنية. ووفقًا للاتفاق، فإن مهمة مراقبة تنفيذ بنود الاتفاقية تتولاها قوة متعددة الجنسيات (“القوة متعددة الجنسيات والمراقبين MFO”)، ويقع ضمن مسؤوليتها مراقبة وضمان انعدام وجود قوات عسكرية في المنطقة “ج”، والتأكد من التزام الأطراف ببنود الاتفاقية.

على الرغم من أن محور فيلادلفيا لم يُذكَر صراحةً في اتفاقيات كامب ديفيد، فإن اتفاقيات أوسلو التي وُقِّعت عام 1993 بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية شكلت تطورًا مهمًا فيما يخص الوضع الأمني في غزة، بما في ذلك المنطقة الحدودية مع مصر.

نصت اتفاقيات أوسلو على إقامة ترتيبات أمنية محددة بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، شملت تفاصيل حول إدارة المعابر الحدودية وأدوار قوات الأمن الفلسطينية صُمِّمت بما يتوافق مع البنية الأمنية التي وُضِعت في “كامب ديفيد” بما يتعلق بملف الحدود بين قطاع غزة ومصر.

في العام 2005، نفَّذت “إسرائيل” خطةَ “فك الارتباط” التي شملت الانسحاب الكامل من قطاع غزة، بما في ذلك من محور فيلادلفيا، ونتيجة للانسحاب من غزة، وُقِّع في سبتمبر/أيلول من عام 2005 “اتفاق فيلادلفيا” بين “إسرائيل” ومصر الذي تعدُّه دولة الاحتلال ملحقًا أمنيًا لمعاهدة السلام 1979، وتقول إنه محكوم بمبادئها العامة وأحكامها.

يتضمن اتفاق فيلادلفيا نشر قوات مصرية على الحدود الفاصلة مع قطاع غزة، إذ سُمِح بوجود قوات حرس حدود مصرية مسلَّحة يُقدَّر تعدادها بنحو 750 جنديًا على طول محور فيلادلفيا، مهمتهم تتمحور فقط في مكافحة ما يسمى “الإرهاب” والتسلل عبر الحدود والتهريب والكشف عن الأنفاق.

ووفقًا للاتفاقية، سُمِح بوجود 4 سرايا للقوات المصرية، مسلحة بسلاح خفيف، حُدِّد بـ504 بنادق أوتوماتيكية، و9 بنادق قناصة، و94 مسدسًا، و67 رشاشًا، و27 صاروخ “آر بي جي”، و31 مدرعةً من المدرعات الخاصة بالشرطة، و44 سيارة “جيب”، و4 سفن في المنطقة الحدودية البحرية للمراقبة، و8 مروحيات غير مسلحة للاستكشاف الجوي، و3 أجهزة رادار للكشف عن المتسللين.

فيما نُظِّم عمل المَنفَذ البري بين قطاع غزة ومصر وفق اتفاقية إدارة معبر رفح للعام 2005، والمعروفة أيضًا باسم “الاتفاقية المتعلقة بالعبور والحركة”، والتي جاءت بمشاركة رئيسية من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، بهدف تنظيم الحركة عبر معبر رفح بين قطاع غزة ومصر، فيما شكَّل أطراف هذه الاتفاقية كل من “إسرائيل”، والسلطة الفلسطينية، والاتحاد الأوروبي (بصفته طرفًا مراقِبًا من خلال بعثة المراقبين الأوروبيين)، بالإضافة إلى مصر.

الجدل التاريخي في “إسرائيل” حول الانسحاب
عُدَّت خطة الانفصال أحادي الجانب عام 2005 خطةً طموحًا تهدف في جوهرها إلى خفض تكلفة الاحتلال وتقليل الاحتكاك مع الفلسطينيين، خصوصًا في الأماكن التي تنشط فيها المقاومة الفلسطينية نشاطًا فعالًا جدًّا، وفي القلب منها قطاع غزة.

وعلى الرغم من أن الجدل حول خطة الانسحاب من قطاع غزة كان كبيرًا، فإن الجدل حول الانسحاب من محور فيلادلفيا على نحو التحديد كان أكبر وأكثر زخمًا، ويتعلق هذا الجدل بدرجة خاصة بالأبعاد الأمنية والسياسية للانسحاب من هذا المحور الحيوي الذي يَفصِل قطاعَ غزة عن الحدود المصرية، على أساس أن تفكيك المستوطنات وتخفيض كلفة الاحتلال بالانسحاب من غزة يختلفان تمامًا عن التخلي عن ورقة استراتيجية ومحورية تربط القطاع بالعالم.

آثر شارون المضي في خطته رغم المعارضة الكبيرة في داخل حزبه آنذاك، وهو ما عبر عنه صراحة بالقول: “علينا اتخاذ خطوات جريئة لضمان أمن إسرائيل على المدى الطويل، وعلينا أيضًا أن نخفف من عبء السيطرة على غزة عن كاهل إسرائيل. الانسحاب من غزة ومحور “فيلادلفيا” ليس نهاية للصراع”، على حد قوله.

لم يكن الموقف في جيش الاحتلال محبِّذًا لفكرة الانسحاب من محور “فيلادلفيا” على نحو التحديد، إلا أنه موقف ركَّز على الإضاءة على المخاطر الأمنية لهذا الانسحاب دون عَدِّ هذه المخاطر حائطَ صد استراتيجي يتطلب رفع الصوت للتصدي للفكرة، وقد تجلى هذا الموقف بوضوح في موقف رئيس الأركان آنذاك، موشيه يعلون، الذي أبدى تحفظًا كبيرًا على الانسحاب، وحذّر من أن “الانسحاب من محور فيلادلفيا سيترك فراغًا أمنيًا كبيرًا، وسيفتح الباب أمام تهريب الأسلحة بدرجة غير مسبوقة”، وأن هذا القرار سيتطلب من “إسرائيل” لاحقًا “التعامل مع تهديدات أكثر خطورة”.

كان موقف شاؤول موفاز، الذي شغل وزير الحرب آنذاك، متحفظًا بدوره، إذ كان متخوفًا كذلك من أن الانسحاب سيؤدي إلى زيادة تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة عبر الأنفاق.

مع ذلك، بعد مداولات داخلية وضغوط سياسية، وافق موفاز على الانسحاب بشرط أن تُعزَّز الإجراءات الأمنية على الحدود بين مصر وقطاع غزة لضمان منع تهريب الأسلحة، إذ كان يرى أن الانسحاب من محور “فيلادلفيا” يجب أن يترافق مع ترتيبات أمنية قوية، بما في ذلك نشر قوات دولية أو ضمانات أمنية من المجتمع الدولي لمنع تهريب الأسلحة.

على المقلب الآخر، قاد بنيامين نتنياهو، الذي كان يشغل موقع وزير المالية الإسرائيلي آنذاك، حملةَ المعارضة لخطة الانفصال أحادي الجانب عن قطاع غزة، مصرحًا: “نحن نخلي الأرض لإرهابيين سيتحولون إلى قوة كبيرة تهدِّد أمن إسرائيل. الانسحاب سيسمح لـ”حماس” وغيرها من المنظمات بتحويل غزة إلى قاعدة إرهاب ضخمة”.

مع معارضةٍ أكثر تشدُّدًا في عنوان الانسحاب من محور “فيلادلفيا” على نحو التحديد، حذَّر نتنياهو في حينه من أن “إخلاء غزة ومحور فيلادلفيا خطوة خطيرة ستمنح الإرهابيين فرصةً لتعزيز قوتهم”، مضيفًا: “سنجد أنفسنا نواجه تهديدات أكبر”، وعَدَّ بوضوحٍ أن هذه الخطوة تتجاهل العديد من المحاذير الأمنية والاستراتيجية التي ستدفع “إسرائيل” ثمنها مستقبلًا وستجلب لها “المزيد من الدماء”.

كلل نتنياهو هذه المعارضة بخطوته الكبيرة التي تمثلت بالاستقالة من موقع وزير المالية قبل تنفيذ الانسحاب بأيام قليلة، وفي خطاب استقالته أكد: “أنا لا أستطيع البقاء في حكومة تنفِّذ انسحابًا كهذا. لن أكون جزءًا من قرار يضع إسرائيل في خطر أمني كبير”.

على الوتيرة ذاتها كان موقف تساحي هنغبي، مستشار الأمن القومي حاليًّا في حكومة الاحتلال الحالية، والذي كان يشغل منصب وزير الأمن الداخلي في حكومة أرئيل شارون في فترة تنفيذ خطة الانفصال أحادي الجانب عن قطاع غزة ومحور فيلادلفيا في العام 2005، إذ كان من بين المعارِضين لهذه الخطوة، وقد عبَّر عن مخاوفه العميقة بشأن التداعيات الأمنية لهذا الانسحاب، قائلًا: “التنازل عن محور فيلادلفيا يعني التخلي عن الحاجز الأخير الذي يفصل بيننا وبين تسليح أعدائنا”، عادًّا إياه “خطوة نحو تعريض أمن إسرائيل للخطر”.

لم يتوان هنغبي عن التحذير من أن الانسحاب من محور فيلادلفيا سيكون بمثابة تحويل “الأنفاق إلى شرايين حياة” وأن هذه الخطوة ستُمثِّل السماح للمقاومة في قطاع غزة بالتسلح دون أي عوائق، وبخلاف نتنياهو، الذي حاول وضع محدِّداتٍ تمثل ضرورةً في حال كان لا مفر من تنفيذ هذا الانسحاب، وهو ضمان التعاون المصري في مواجهة المخاوف من تسليح المقاومة.

وحسمًا للجدل الداخلي في الحكومة الإسرائيلية، نصت خطة “فك الارتباط” على احتفاظ “إسرائيل” “بوجود عسكري لها على طول الخط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر (محور “فيلادلفيا”)” في المرحلة الأولى، وذلك لتوفير الحماية الأمنية، التي قد تتطلب توسيع المنطقة التي تجري فيها النشاطات العسكرية، وجعلت الاتفاقيةُ إخلاءَ المنطقة مشروطًا بالواقع الأمني والتعاون المصري في التوصل إلى اتفاق موثوق، وذلك ارتباطًا بالمحدِّدات التي وضعها كل من وزيرَي الأمن الداخلي والحرب في حكومة شارون بشأن أهمية وضرورة التعاون المصري.

ومن خارج التشكيلة الحكومية، عارض قادة الصهيونية الدينية، بما فيهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، خطة الانسحاب من قطاع غزة ومحور فيلادلفيا في العام 2005، وانطلقت مواقفهما من رؤية أيديولوجية ترفض التنازل عن أي جزء من “أرض إسرائيل”، وهما يريان في الانسحاب خطرًا على الأمن الإسرائيلي وتقويضًا للسيادة الإسرائيلية على تلك الأراضي.

وصف سموتريتش خطة الانسحاب بأنها خيانة للمشروع الصهيوني وتنازل غير مبرَّر أمام الضغوط الدولية و”الإرهاب الفلسطيني”، وعَدَّ التخلي عن المحور بمثابة فتح الباب أمام تهريب الأسلحة إلى غزة وبالتالي تصعيد الهجمات ضد “إسرائيل”.

أما بن غفير، الذي كان من بين أشد المعارضين للانسحاب وعدَّه “استسلامًا للإرهاب” و”جريمة” بحق الشعب اليهودي، فقد أبدى تضامنه الكامل مع المستوطِنين الذين عارضوا الانسحاب، وشارك في فعاليات ومظاهرات احتجاجية ضد تنفيذ الخطة، معتبرًا أن الحكومة الإسرائيلية تخون مواطنيها.

نتنياهو وطموحات إعادة الاحتلال لقطاع غزة
ينطلق موقف بنيامين نتنياهو في سعيه إلى إعادة احتلال قطاع غزة من موقفه التاريخي الرافض للانسحاب من القطاع، والذي قاد على إثره المعارضة في “إسرائيل” ضد خطة أرئيل شارون للانفصال عن قطاع غزة، معتبرًا أن الانسحاب خطيئة لن تجلب الهدوء بل المزيد من العنف والصواريخ، مضيفًا: “سوف نجد أنفسنا قريبًا مضطرين إلى العودة لغزة لمواجهة الإرهاب الذي سيكبر وينتشر”.

في الواقع، فإن الطموحات بالعودة إلى احتلال قطاع غزة لم تغادر فكر ومنهج نتنياهو، إلا أن تأخير هذه الخطوة قد ارتبط بدرجة أساسية بالبراغماتية التكتيكية التي اتسم بها الأخير، وليس تحولًا استراتيجيًّا في فكره اليميني، وهي نظرية استندت إلى ترتيب الأولويات، بعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية في المرحلة الأولى، بما يسهل التركيز على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وإغراق قطاع غزة في أزمات إنسانية ومطالب حياتية تفصلهم عن الهم الفلسطيني العام وتحويل نضالهم من نضال وطني إلى نضال لتحسين شروط الحياة التي تتحكم فيها منظومة إدارة الحصار الإسرائيلية.

يعي نتنياهو أن السيطرة على قطاع غزة لا تتطلب العودة إلى نمط الحضور الإسرائيلي الاستيطاني في القطاع كما كان الوضع عليه قبل العام 2005، بل تتطلب شكلًا جديدًا من أشكال السيطرة العسكرية والأمنية تُشكِّل مدخله الأساسي السيطرة على الرئة التي تربط قطاع غزة بالعالم الخارجي، وهو الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر.

وبالتالي فإن هذه السيطرة ليست إجراءً تكتيكيًا يهدف إلى اكتساب ورقة تفاوضية من أجل الوصول إلى صفقة أفضل بالنسبة للإسرائيليين، بل جزء من رؤية نتنياهو لإعادة السيطرة العسكرية على قطاع غزة، وبالتالي إعادة احتلال القطاع بطريقة غير مُكلفة، بحيث تلبي “إسرائيل” احتياجات السيطرة الأمنية، دون الاضطرار إلى الدخول في معادلات الاستنزاف بالتواجد داخل القطاع في مستوطنات تكلفة حمايتها الأمنية أكبر من فوائد الاستيطان فيها.

يتكامل اليوم موقف نتنياهو، الذي يرى في القبول الإسرائيلي بالتنازل عن السيطرة العسكرية على قطاع غزة خطيئةً مع توجهات فريقه الحكومي، إذ يدعم كل من سموتريتش وبن غفير بقوة في اتجاه إعادة احتلال قطاع غزة، بل ويصل دعمهما إلى حد الاندفاع إلى فكرة عودة الاستيطان إلى القطاع – وهي فكرة لا يحبذها نتنياهو كثيرًا -.

فنتنياهو قد تحدث بوضوح أن “إسرائيل” يجب أن تستعيد سيطرتها الأمنية والعسكرية على قطاع غزة، مع الإشارة إلى الرغبة في وجود جهات “مدنية فلسطينية” هناك لا تعادي “إسرائيل” تتولى شق إدارة حياة سكان قطاع غزة، وهو ما أكده الوزير المستقيل من مجلس الحرب ورئيس الأركان السابق لجيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، الذي صرح بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي يسعى إلى فرض “حكم عسكري” على قطاع غزة، مضيفًا أن وزيرَي الحكومة: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، يقودان بنيامين نتنياهو نحو سياسة تتعارض مع أهداف الحرب.

إن الولايات المتحدة، التي تبدو غير قادرة على إحداث اختراقات جدية في مواقف نتنياهو، لا بخصوص محور فيلادلفيا ولا بخصوص إمكانية الوصول إلى اتفاق قريبًا – على الرغم من حرصها على تكرار عبارات التفاؤل – تجد نفسها فعليًا تنسجم مع توجهات نتنياهو، حتى تلك التي لا تتوافق مع موقفها بشأن شكل “اليوم التالي” ومستقبل التواجد الإسرائيلي في القطاع.

وقد تجلى هذا بوضوح في تقديمها مقارباتٍ تتضمن “خفض التواجد العسكري الإسرائيلي” في محور فيلادلفيا بدلًا من الانسحاب منه، ثم تصريح وزير خارجيتها، أنتوني بليكن، حول أن الولايات المتحدة لا تدعم “احتلالًا إسرائيليًا طويلًا لقطاع غزة”، ما يوحي ضمنيًا بقبول الاحتلال الإسرائيلي للقطاع إلى حين إتمام رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي ببناء نظام حكم مدني موالٍ، مع احتفاظ “إسرائيل” بسيطرتها الأمنية والعسكرية على القطاع، والتمسك بإبقاء قوات الاحتلال في المحور الحدودي للتحكم بكل ما يدخل ويخرج من القطاع.

يعمد بنيامين نتنياهو إلى تحويل الوجود الإسرائيلي في محور فيلادلفيا بوصفه أمرًا واقعًا بات خارج النقاش، بعد أن سبق وعدَّ كلًّا من محورَي: نتساريم وفيلادلفيا “أصولًا استراتيجيةً” يجب على “إسرائيل” ألَّا تفرِّط فيها، وهو ما يخدم في الجوهر حرصه على بسط السيطرة العسكرية على القطاع لفترة مفتوحة، لا ارتباطًا بالعمليات العسكرية الحالية أو جهود التوصل إلى صفقة.

وقد حل قرار “الكابينت” الأخير لقطع الطريق أمام أي ضغوط قد تحاول المؤسستان العسكرية والأمنية في “إسرائيل” المناورة في إطارها لضمان التوصل إلى صفقة، وهي في الوقت ذاته رسالة إلى الوسطاء والمقاومة الفلسطينية بتجاوز النقاش بشأن هذا البند بوصفه بات عنوانًا لا مجال للتراجع فيه، ونقل النقاش في المفاوضات إلى تفصيلات أخرى تتجاوز جوهر مطلب المقاومة بالانسحاب الكامل من قطاع غزة.

*الكاتب | أحمد الطناني

المصدر:نون بوست