أعلنت الإذاعة العبرية الرسمية عن بدء جيش الاحتلال لأوسع عملية عسكرية في شمال الضفة الغربية منذ عملية “السور الواقي” عام 2002، وستستمر لعدة أيام، وبمشاركة سلاح الجو وقوات كبيرة في الميدان.
الإعلان الإسرائيلي جاء بُعيد مباغتة قوات الاحتلال لمخيمات شمال الضفة باجتياحات متزامنة وبالوقت ذاته، استهدفت في أولى محطاتها محاصرة المستشفيات وإغلاق مداخل المخيمات ومخارجها، مع غطاء جوي كثيف من الطائرات المسيّرة التي قصفت منزلًا في مخيم طولكرم في الساعات الأولى من العملية العسكرية، التي توقع صحفيو الاحتلال أن تستمر لأيام.
يدّعي الاحتلال أن العملية العسكرية الواسعة والأكبر منذ أكثر من 20 عامًا، تأتي استجابة للضرورات الأمنية بسبب نشاط خلايا المقاومة في مخيمات شمال الضفة الغربية وتصاعد النشاط المسلح فيها، فيما تتكامل فعليًا على أرض الواقع مع مجريات حرب الإبادة التي تخوضها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، والتي من الواضح أنها استهدفت في مرحلتها الأولى الهجوم المركّز على قطاع غزة، وتُستكمل الآن في الضفة الغربية ومخيماتها ضمن مخطط ممنهج لتصفية القضية الفلسطينية، وحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
تصاعُد متدحرج في النشاط العدواني شمال الضفة الغربية
تأتي العملية العسكرية الحالية لجيش الاحتلال استكمالًا لحملات عدوانية لم تتوقف في الضفة الغربية، فيما كان نصيب الأسد فيها لمخيمات شمال الضفة الغربية، التي انتقل فيها المشهد تدريجيًا من عمليات الاقتحام الهادفة إلى تنفيذ النشاط الأمني المعتاد لقوات الاحتلال من حملات اعتقال ومداهمات، لتصل إلى عمليات اجتياح عسكرية واسعة تستخدم فيها قوات الاحتلال التعزيزات المجنزرة.
بدأت عملية القمع فترة حكومة بينت-لابيد (2021-2022) بإطلاق عملية “كاسر الأمواج”، لمواجهة ظاهرة مجموعات المقاومة، خصوصًا في مخيم جنين، والبلدة القديمة في مدينة نابلس، وهي نمط عملياتي كثّفت خلاله قوات الاحتلال من عمليات الاستهداف لكوادر المقاومة بالاعتقال والاغتيال، وشهدت رفع لوتيرة عمليات الاقتحام للمخيمات والمدن واستخدام أوسع للقوات المشاركة.
تزامنًا مع تشكيل نتنياهو لائتلافه الحكومي اليميني الفاشي مطلع العام 2023، شهدت جولة القتال “سيف القدس” بين المقاومة والاحتلال تصاعدًا مشابهًا في العمليات العداونية التي تستهدف مخيمات شمال الضفة الغربية، بهدف تحييدها عن التفاعل النوعي مع جولة المواجهة التي شهدت أوسع حالة انخراط فلسطيني غير مسبوقة في الأحداث، شملت تحركًا لفلسطينيي الداخل المحتل والضفة الغربية والشتات، إضافة إلى العديد من الحراكات في العالم.
كما شهدت هذه السنوات الفاصلة ما بين انتهاء جولة “سيف القدس” واندلاع مواجهة “طوفان الأقصى” وبدء الاحتلال لحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني اتخاذ حكومة الاحتلال قرارات استيطانية متعددة كان أبرزها تعديل قانون فكّ الارتباط عام 2005، الذي شمل الانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات شمال الضفة، وشرعنة عودة الاستيطان للتجمعات الاستيطانية التي سبق وأن خلتها حكومة أرئيل شارون.
اتخذ جيش الاحتلال كذلك قرارات تصعيدية أخرى، شملت إشراك عدد كبير جدًّا من الجنود وعمليات تصل لعدة أيام، تستهدف تدمير البنية التحتية للمخيمات والمدن، كان أبرزها العملية العسكرية في يوليو/ تموز 2023 بمستوى فرقة، وشملت مشاركة مباشرة من أكثر من 1500 جندي، تلاها التوسيع في أدوات العدوان لتشمل الإجازة بالاستعمال الموسّع للوسائط الجوية وسلاح الطيران لتنفيذ عدد من عمليات القصف والاغتيال لسيارات ومجموعات ومنازل كان آخرها قبل يومين اغتيال المطارَد جبريل جبريل في طولكرم.
هل نحن أمام نسخة جديدة من “السور الواقي”؟
من حيث الخطوط العامة، هدفت عملية “السور الواقي” إلى “القضاء على البنية التحتية للمقاومة”، بُعيد اندلاع انتفاضة الأقصى وحالة التصاعد النوعي في عمليات المقاومة وفعلها وحدود تأثيرها، إذ شكلت العمليات الاستشهادية والضربات النوعية للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية عامل استنزاف هام لحكومات الاحتلال، وهو ما يتلاقى مع الهدف المعلن للعمليات العسكرية العدوانية الكبيرة شمال الضفة الغربية.
لكن في المضامين، حملت حملة “السور الواقي” عام 2002 ضمن أهدافها، القضاء أيضًا على أشكال الانخراط السلطوي في فعاليات الانتفاضة، خصوصًا أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان لاعبًا أساسيًا في تحريك مجريات الانتفاضة والتحكم في وتيرة تصعيدها، وهو ما هدفت الحكومة الإسرائيلية إلى تفكيكه والقضاء عليه دون الاضطرار للإجهاز على السلطة كهيكل، بل ضمان استمرار هذا الهيكل بمضمون ومحتوى مجدد ينسجم ويتماهى بشكل أكبر مع الإطار الذي صمّمته “إسرائيل” لهذه السلطة ودورها الأمني.
في الحالة الحالية الأمر مغاير، فلا يقع ضمن أهداف العملية العسكرية الحالية تقويض السلطة أو اتخاذ إجراءات مباشرة ضدها، إذ لم تُغير أجهزة أمن الاحتلال واستخباراته من تشخيصها لأجهزة أمن السلطة ومدى إيفائها بالتزاماتها الأمنية، بل تتجه لتقدير أن الحالة في شمال الضفة الغربية قد خرجت من إطار إمكانية تمكُّن أجهزة السلطة منفردة من حسمها، دون اضطرارها لخوض مواجهة واسعة ستضرّ بشكل كبير بصورة السلطة وقبولها الشعبي، وقد تؤدي إلى اندلاع احتجاجات واسعة ضدها، وهو ما تحبّذه المستويات الأمنية في “إسرائيل”.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية الحالية غير متوافقة في جوهر موقفها من السلطة، ما بين رغبة سموتيرتيش وبن غفير في الإجهاز مباشرة على السلطة، وما بين تصور نتنياهو عن الحاجة لبقاء السلطة مع أوسع تقويض ممكن لأي حضور سياسي لها، وحصرها في الدور الأمني الوظيفي الملبّي للحاجة الإسرائيلية، إلا أن الجامع بين كل المكونات هو عدم تحويل إمكانية تقويض السلطة إلى عامل فرملة لمشاريع التصفية.
وهو ما لا يتفق مع التشخيص الأمني الذي يرى في وجود السلطة ضرورة حيوية وهامة تضمن أمن “إسرائيل”، وتخفض من كلفة الاحتلال وتحمي “إسرائيل” على المدى البعيد من قنبلة ديموغرافية، مرتبطة بإمكانية انهيار السلطة وتسرُّب جموع الجماهير الفلسطيني ليكونوا مكونًا سكانيًا جديدًا تحت المسؤولية الإسرائيلية، يضيف متغيرًا جديدًا في التركيبة السكانية الإسرائيلية.
في العنوان ذاته، سعت “إسرائيل” خلال عملية “السور” إلى تنفيذ عملية احتلال كاملة لمدن الضفة الغربية وإعادة فرض سيطرتها الأمنية عليها، بحيث تعمل على التفكيك التدريجي لمقدرات المقاومة والبنية التحتية لها، فيما العمليات الحالية تهدف إلى الرفع الكبير في وتيرة العدوان (دون الاضطرار لبسط السيطرة الأمنية الكاملة، إذ إن الجيش الإسرائيلي يتمتع فعليًا بحرية الحركة في كامل الضفة الغربية من دون الاضطرار لمثل هذه العمليات) وهو ما يستهدف الحواضن الشعبية لمجموعات وكتائب المقاومة، بهدف تفكيك بنيتها التحتية وتحويل وجودها إلى نقمة على مجتمعاتها، وعدم السماح بتقوية هذه البنية بما يتعدى القدرة على احتواء آثارها وتأثيرات فعلها.
يستهدف الحديث عن نسخة جديدة من عملية “السور الواقي”، والحديث المضخّم عن عدد القوات المنخرطة في العلميات العدوانية الحالية على الضفة الغربية، استعادة صور “كيّ الوعي” التي رافقت عدوان “السور الواقي”، واستنساخ نماذج منها على غرار تنفيذ عمليات تدمير واسعة وقصف جوي يستهدف مجموعات من المواطنين، والإيغال في الدم الفلسطيني وتوسيع عدد المجازر، بما يُسهم في تعزيز حالة الردع الإسرائيلية للجيل الفلسطيني الجديد الذي بات لا يرى في مسار السلطة الحالية معبّرًا عنه، وضاج من حجم الاعتداءات الإسرائيلية والجرائم المستمرة وعربدة الاستيطان، ما حذى به إلى العودة الجدّية لخيار رفع السلاح وتشكيل حالة من الرفض المقاوم للسلوك الإسرائيلي العدواني.
ما بين “خطة الحسم” و”صفقة القرن”
إن حرب الإبادة الحالية التي بدأت في قطاع غزة وتوسعت لتشمل كل الأراضي الفلسطينية، أكدت بشكل قاطع مضيّ الحكومة الإسرائيلية الحالية في التطبيق التدريجي وغير المعلن مع “خطة الحسم”، التي سبق وأن اقترحها وزير المالية الصهيونية سموتريتش، التي تهدف إلى مغادرة استراتيجية “إدارة الصراع” التي اتّبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والانتقال إلى مرحلة “الحسم” والإجهاز على أي أفق للمشروع الوطني الفلسطيني بتدمير مكوناته.
يدعو سموتريتش صراحة إلى تهجير الشعب الفلسطيني، فيما يوصفه بأنه إصلاح للخطأ التاريخي في عام 1948، الذي سمح ببقاء جزء من الشعب الفلسطيني على أرضه، وأدى إلى السماح التدريجي للفلسطينيين بإعادة تشكيل كينونات سياسية وإحياء هوية وطنية جامعة لهم، وبالتالي إن الحل هو بالقضاء على كل أشكال هذه الكينونة، وتفكيك أي بنى يمكن أن يعبّر فيها الشعب الفلسطيني عن نفسه بهوية جامعة، وحصر هذا الحضور بالحضور العشائري.
يرى سموتريتش أن البوابة الرئيسية لدفع الفلسطينيين للهجرة هي بتصعيد العدوان ضدهم، وتدمير كل مقومات الحياة والقضاء على كل ما يربطهم بالأرض الفلسطينية، مع تقديم محفّزات مترافقة لكل من يقرر الهجرة، وعلى النسق ذاته يرى سموتريتش أن هناك مهمة رئيسية تكمن على عاتق القيادة الإسرائيلية، وهي تدمير “الأمل” لدى الفلسطينيين.
ومحاربة الأمل تتطلب محاربة كل الأشكال التي قد يرى فيها الشعب الفلسطيني طريقًا نحو نيل حقوقه والاستقلال، وفي المقدمة منها المقاومة كتعبير واضح وصريح عن استعداد الشعب الفلسطيني لخوض مواجهة للدفاع عن حقه في الحرية وتقرير المصير، وهو ما يتطلب ممارسة أوسع شكل من أشكال الإجرام والتدمير وإعدام مقومات الحياة وتدمير كل المنشآت في أي مكان يقرر الرفض والمواجهة.
على المقلب الآخر، يرى نتنياهو في احتمالات عودة ترامب الفرصة الذهبية لاستكمال الخطة الطموحة، التي سبق وأن طرحها ترامب تحت عنوان “صفقة القرن”، والتي تشمل في جوهرها تصفية واضحة وصريحة للقضية الفلسطينية، وتسمح للاحتلال بتنفيذ مخطط “الضم” الهادف لابتلاع أراضي الضفة الغربية، تمهيدًا لضمّها إلى الأراضي الخاضعة لسلطة الاحتلال المباشرة.
وحتى تتهيَّأ الظروف لإعادة الأفق لاستكمال صفقة القرن (التي لم تتراجع إدارة بايدن الحالية عن العديد من تجلياتها)، يتطلب الأمر الإجهاز على أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية، لضمان سلاسة التنفيذ وعملية الضم، دون أن يكون هناك شكل جدّي للمواجهة فلسطينيًا يسهم في تحويل خطوات التصفية إلى عوامل تفجير تهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية تعمل كل الأطراف جاهدة على تلافي الوصول إليها.
وبالتالي، يستثمر نتنياهو في إطالة أمد حرب الإبادة في قطاع غزة، ويعمل على توسيع نطاق عدوانه لإنهاء العديد من الملفات العالقة، التي قد تشكّل عائقًا أمام تحقيق طموحه بالإجهاز على المشروع الوطني الفلسطيني.
المصدر: نون بوست