تشهد الضفة الغربية حالة من التصعيد غير المسبوق خلال الأيام القليلة الماضية، تعيد الأذهان إلى أجواء ما قبل الانتفاضة الثانية (2000-2005)، إثر تكثيف جيش الاحتلال لعملياته وانتهاكاته التي لا تتوقف بحقّ الضفة وأهلها، وسط مخاوف من تفجير الأوضاع بما ينذر بنشوب انتفاضة ثالثة، تزامنًا مع عمليات الاحتلال في غزة وجرائم الإبادة التي يشنّها ضد سكان القطاع منذ بداية الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وكانت آخر جولات التصعيد التي يشنها الاحتلال ضد الضفة الغربية المحتلة، عملية عسكرية واسعة أطلق عليها اسم “مخيمات الصيف”، بدأها فجر اليوزم الأربعاء 28 أغسطس/ آب 2024، تستهدف مقاومين في جنين وطولكرم وطوباس شمال الضفة، حيث اجتاحت قوات عسكرية كبيرة كافة مناطق ومدن ومخيمات شمال الضفة الغربية من عدة محاور، وأسفرت حتى صباح اليوم عن استشهاد 11 فلسطينيًا، استهدفهم جيش الاحتلال بطائرات مسيرة.
ومساء الاثنين، قتل جيش الاحتلال عدد من الفلسطينيين بينهم طفلين في الضفة، بقصف شنّته طائرة إسرائيلية مسيّرة على مخيم نور شمس، تبعها انتشار كثيف لعناصر من جيش الاحتلال في معظم مدن الضفة بزعم بلاغ عن اختطاف مستوطنة إسرائيلية، ثبت في النهاية أنه بلاغ كاذب.
وجرّاء هذه الانتهاك، دعت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” إلى اعتبار أمس الثلاثاء 28 أغسطس/ آب 2024 “يوم غضب ونفير في كافة ربوع الضفة الغربية”، من أجل “إشعال نقاط التماسّ والمواجهة”، معتبرة في بيان لها أن ما حدث (في إشارة لاقتحام يوم الاثنين) “تأكيد على سلوك الاحتلال الإجرامي بحق أبناء شعبنا في كافة أماكن تواجدهم”، داعية الفلسطينيين في محافظات الضفة الغربية إلى “مواصلة الاشتباك والغضب الجماهيري والتصدي للمستوطنين بشتى السبل، وتفعيل كل وسائل المقاومة”.
وأسفرت الانتهاكات الإسرائيلية بحقّ الضفة عن ارتقاء أكثر من 671 شهيدًا بينهم 149 طفلًا، منذ بدء معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي، بجانب الزجّ بأكثر من 10 آلاف و200 فلسطيني داخل السجون الإسرائيلية خلال الأشهر العشرة الماضية.
بحسب العلوم السياسية والعسكرية معًا، فإن فتح جبهة جديدة للاحتلال في الضفة قد تكون أشرس إذا ما تجاوزت درجة سخونتها المستوى الدافئ، تزامنًا مع جبهتَي غزة والشمال، فضلًا عن جبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق؛ هي خطوة تُثار بشأنها الكثير من علامات الاستفهام، ليبقى التساؤل الأبرز: ماذا يريد نتنياهو وجنرالاته من التصعيد في الضفة؟ وهل يرغب الاحتلال فعليًا في نقل عملياته من غزة إلى الضفة كما تقول حركة الجهاد الإسلامي؟
التصعيد في الضفة لم يتوقف.. ولكن
تجدر الإشارة ابتداء إلى أن الانتهاكات الإسرائيلية ضد الضفة لم تتوقف يومًا ما طيلة السنوات الماضية، إيمانًا لدى النخبة السياسية لدى الكيان المحتل أن الضفة هي بؤرة الصراع الحقيقي، وذلك لعدة أسباب على رأسها حالة التمازج والاختلاط الديموغرافي بين سكانها والمستوطنين، ما يجعلها مسرح أحداث على صفيح ساخن طول الوقت، كذلك قربها من قلب “إسرائيل” وعاصمته تل أبيب مقارنة بساحات المعارك الأخرى كغزة وغيرها.
ويؤمن الإسرائيليون أنه طالما ظلت الضفة هادئة فالأمور بالنسبة إليهم في أغلبها مستقرة، والعكس صحيح، وعليه كان إبقاء الضفة تحت السيطرة هدفًا استراتيجيًا لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة، وأحد أبرز ما يشغل بال قادته وجنرالاته، حتى وإن بدا غير ذلك لدى البعض.
فمنذ مارس/ آذار 2022 لم تتوقف عمليات الاجتياح الإسرائيلي للضفة، لا سيما مناطق الشمال وعلى الأخص منها مخيم جنين، في محاولة لتجفيف منابع المقاومة هناك، ولفرض طوق أمني دائم على تحركات الفلسطينيين هناك، تطور الأمر لاحقًا بانضمام محافظات أخرى إلى تلك الملاحقات اليومية لتشمل قلقيلية ونابلس وطولكرم وطوباس.
غير أن السنوات الأخيرة تحديدًا شهدت تصعيدًا ممنهجًا، مع الحفاظ على الخط الأحمر الذي يحول دون اندلاع انتفاضة جديدة، حيث وسّع المحتل من نشاطه الاستيطاني وارتفعت حالات الاعتداء المسلح من المستوطنين بحق سكان الضفة، تحت مرأى ومسمع من الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها نتنياهو في الظاهر، فيما تهيمن على قراراتها أفكار وزيرَي الأمن القومي والمالية المتطرفَين، بن غفير وسموتريتش.
وبلغت معدلات التهجير من مدن وقرى الضفة في الآونة الأخيرة معدلات كبيرة ومقلقة، خاصة في المنطقة (ج) البدوية التي تقطنها تجمعات سكانية قليلة، وتكون فريسة سهلة للمستوطنين المسلحين، كما في جنوب الخليل ووادي رحال في بيت لحم، وهي المناطق الأشبه بالجزيرة المعزولة نظرًا إلى إحاطة المستوطنات بها من كل جانب.
ومع بداية “طوفان الأقصى”، زادت وتيرة التصعيد أكثر ممّا كانت عليه، وبدأ جيش الاحتلال في العودة إلى استراتيجيات الحرب التي تخلى عنها منذ أكثر من 20 عامًا، وعلى رأسها الاغتيالات عبر الطائرات المسيّرة، وتكثيف عملياته النوعية من هذه الشاكلة، فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي نفّذ الاحتلال 64 عملية بالطائرات المسيرة.
كذلك خنق الضفة اقتصاديًا من خلال غلق المدن والمحافظات، ووضع العراقيل أمام الفلسطينيين لدخول الأراضي المحتلة لممارسة عمليات البيع والشراء، إضافة إلى منع دخول العمال الفلسطينيين إلى “إسرائيل”، إذ يبلغ عدد العمال الفلسطينيين الذين يعملون لدى الكيان من خلال تصاريح العمل نحو 150 ألفًا، علاوة على سرقة أموال المقاصة الفلسطينية، فقد رفض وزير المالية الإسرائيلي تحويل أموال المقاصة الفلسطينية كاملة إلى السلطة الفلسطينية، ورغم فشل معظم تلك العمليات.
وبعيدًا عن أن كل تلك الإجراءات والممارسات التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق الضفة لم تحقق الهدف المنشود منها، لكنها في مجملها تقدم مؤشرًا لافتًا للنظر حول تغير الكيان المحتل لسياسته إزاء الضفة… فماذا يريد من هذا التغيير الآن؟
لماذا الآن؟
رغم التعاون الأمني أو كما يسمّيه الإسرائيليون “التنسيق” مع السلطة الفلسطينية في الضفة، بشأن فرض حالة الاستقرار والحيلولة دون أي تصعيد مع تطويق المقاومين هناك وتكبيل نشاطهم المسلح ضد الاحتلال، إلا أن الكيان المحتل لا يثق في دقة هذا التعاون وقدرته على تجفيف الضفة من منابع المقاومة التي تتسع رقعتها يومًا بعد يوم.
ثم جاءت عملية الطوفان، التي لاقت دعمًا وتأييدًا من أغلبية التيارات الفلسطينية ومن كافة المناطق، ومن بعدها حرب الإبادة التي يشنها المحتل ضد سكان غزة، لتزيد تعاطف ودعم أهل الضفة لإخوانهم في القطاع، الذين حاولوا رغم القبضة الأمنية المشددة التعبير عن هذا الدعم بوسائل شتى، احتجاجية تارة وثأرية تارة أخرى، وهو الأمر الذي أقلق المحتل بصورة كبيرة.
ومع توتير العلاقات بين السلطة والكيان المحتل جرّاء اتهام الأخير للأول بتراجع سيطرته على الضفة رغم الجهود المبذولة لخدمة الأهداف الإسرائيلية، زاد نفوذ وحضور المقاومين المسلحين هناك، إما لأجل تنويع جبهات الإسناد للمقاومة في غزة من خلال فتح جبهة جديدة بالضفة لتشتيت قوة الاحتلال، وإما للاختباء بعيدًا عن أعين الاحتلال في القطاع، كنوع من “إعادة ترتيب الأوراق” في منطقة يفترض أنها أقل سخونة ممّا هي عليه في غزة.
وفي ظل خشية الاحتلال من تحويل الضفة إلى منطقة ارتكاز للمقاومة المسلحة، بما يهدد عمقه الأمني واستقراره بشكل مباشر، كان تكثيف العمليات هناك ضرورة قومية بحسب عقلية جنرالاته، على أمل استعادة استراتيجية “جز العشب” للمقاومة في الضفة وإنهاء تواجدها هناك، أو على الأقل تقليله إلى مستوياته الدنيا.
كذلك يمثل هذا التكثيف للعمليات والانتهاكات رسالة إنذار لسكان الضفة من تحويل مدنهم إلى غزة جديدة، كما جاء على لسان وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي طالب بأن يبدأ كيانه المغتصب “حربًا دفاعية” في الضفة الغربية، مهددًا بتحويل مدن الضفة إلى خراب إذا تواصل التصعيد في المنطقة.
سموتريتش في تصريحات نقلتها وسائل إعلام إسرائيلية، وجّه خطابه إلى سكان الضفة قائلًا: “رسالتنا للجيران في طولكرم ونور شمس والشويكة وقلقيلية أننا سندمركم كما فعلنا في غزة إذا استمر إرهابكم”، متعهّدًا خلال إحدى زيارته لمدينة طولكرم في شمال الضفة الغربية: “سنوجّه ضربة حاسمة للإرهاب لكي لا تصبح كفار سابا (في الضفة) كفار عزة (في غلاف غزة) وبات حيفر هي بئيري. وهذا ما سنفعله”.
ويأمل سموتريتش وبقية اليمين المتطرف المهيمن على الحكومة الإسرائيلية من خلال تلك الممارسات، إحداث الوقيعة بين المقاومة والشعب الفلسطيني، وتجريدها من حاضنتها الشعبية عبر لغة التهديد والوعيد، ومن جانب آخر استفزاز واستنفار السلطة وقواتها الأمنية للتصدي للمقاومين وتعزيز نفوذها في مواجهة أي حراك من شأنه تهديد الأمن والاستقرار الإسرائيلي.
هل تشهد الضفة انتفاضة ثالثة؟
يعلم الإسرائيلي تمامًا أن تأجيج الوضع في الضفة، سياسيًا أو عسكريًا، ليس في صالحه، استنادًا إلى خصوصية التموضع الجغرافي لتلك المنطقة، والتي من المتوقع أن تنتقل عدوى تأجيجها سريعًا إلى المستوطنات المجاورة وحتى تل أبيب.
كما يؤمن المحتل أن اندلاع انتفاضة شعبية في الضفة على غرار ما حدث قبل ذلك عامَي 1987 و2000، يعني باختصار تعريض أمنه واستقراره للخطر المباشر، مقارنة بما يحدث في غزة على سبيل المثال، وعليه يسعى جاهدًا للحيلولة دون اندلاع انتفاضة ثالثة، مكتفيًا بالعمليات النوعية التي تستهدف مقاومين، دون العربدة بشكل عام ضد المدنيين، خشية تفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة.
غير أن الأمر اليوم وبعد هيمنة اليمين المتطرف على مفاصل القرار في الحكومة الإسرائيلية، وتزايد نفوذ أدعياء التوسع الاستيطاني وحماة إجرام المستوطنين داخل غرف صناعة القرار في الداخل الإسرائيلي، قد يخرج لوضع عن السيطرة، وهو ما يحذّر منه الكثيرون، فلسطينيين وإسرائيليين ومراقبين.
بدوره حذّر المنسق الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند، من أن الضفة الغربية قد تتحول إلى “برميل بارود” نتيجة التصعيد الإسرائيلي الذي سيزيد بطبيعة الحال من أعمال العنف، ويؤجّج التوترات، ويفتح الباب على مصراعيه على كافة الاحتمالات.
التخوف ذاته عبّر عنه الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، الذي يرى أن الضفة على وشك الانفجار وأنها على مشارف انتفاضة ثالثة، لافتًا خلال حديثه لبرنامج “غزة.. ماذا بعد” المذاع على قناة “الجزيرة”، أن المستوطنين المتطرفين يمارسون إرهابًا بدعم من الجيش الإسرائيلي، وعليه ليس أمام الفلسطينيين خيار سوى النضال دفاعًا عن حقوقهم، خاصة مع توسع الاستيطان الذي تجاوز بناء 32 ألف وحدة جديدة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ويرجع الخبير بالشأن الإسرائيلي، مهند مصطفى، هذا التأجيج في الضفة إلى محدودية تأثير جهاز الشاباك على الحكومة الإسرائيلية الحالية والمهيمن عليها من قبل المستوطنين أنفسهم، في إشارة إلى سموتريتش وبن غفير، ممّن دخلوا الحكومة لتحقيق مشروع الاستيطان في الضفة وضمّها إلى “إسرائيل”، على حد قوله.
اللافت هنا أن الميليشيات العنصرية والإرهابية من المستوطنين، والتي تصعّد من عملياتها بحق الفلسطينيين في مدن الضفة، وتدفعهم نحو التهجير القسري تنفيذًا لمخطط الضمّ، تحظى بدعم سياسي وقضائي، بحسب الخبير في الشأن الإسرائيلي الذي استند إلى ما كشفته الإحصاءات الإسرائيلية، التي أظهرت أن 3% فقط من لوائح الاتهام الموجهة ضد المستوطنين تصل إلى مستوى الإدانة، ما يعكس دعمًا قضائيًا لهذه الميليشيات.
وفي الأخير، وأمام تدمير الكيان المحتل لأي أفق سياسي محتمل ولو كان ضيقًا، وإطلاق العنان للمستوطنين لارتكاب إرهابهم بحق الفلسطينيين، واستمرار حرب الإبادة التي تُشن ضد سكان غزة، واستسلام نتنياهو لنفوذ اليمين المتطرف داخل حكومته، لن يجد الفلسطينيون أمامهم سوى المقاومة بكافة أشكالها، الأمر الذي قد يفتح الباب في الضفة أمام سيناريوهات عدة، من بينها اندلاع انتفاضة ثالثة.
المصدر: نون بوست