2024-11-22 11:12 م

المقاومة في الضفة الغربية: شرارة الانفجار القادم

2024-08-26

إلى جانب عدوان الإبادة التي تشنه دولة الاحتلال على شعبنا في قطاع غزّة، بهدف تصفية مقاومته ووجوده، تشنّ دولة المستوطنين وجيشها عدواناً آخر على الضفّة الغربية، في مسارين متوازيين يسيران معاً: مليشيات المستوطنين والمجموعات الإرهابية المتفرعة عنها، التي تمارس الإرهاب والتخريب، وتصادر أكبر مساحاتٍ من الأرض، بعد إفراغها من التجمعات المقيمة فيها، وطرد سكانها الأصليين، وفرض حالةٍ من الرعب في شوارع الضفّة الغربية، على التوازي، وبحماية، مع ما ينفذه جيش الاحتلال من حملاتٍ عسكريةٍ، واغتيالاتٍ واقتحاماتٍ، وتضييقٍ اقتصاديٍ، وتقطيع الأوصال وقيودٍ على حرية الحركة.

أنتج العدوان الشامل والطويل وغير المسبوق على الفلسطينيين وضعاً معقداً، كما أفرز مظاهر جديدةٍ لأنماط مقاومةٍ محليةٍ، وبؤرٍ فدائيةٍ تحاول خلق نواةً صلبةً تسد الفراغ، وحالة السكون، الذي يسود المشهد على المستوى القيادي، خصوصاً في ظلّ الغياب الواضح لدور الفصائل، في التصدي لهذه التحديات الوجودية، التي فرضها العدوان، وغياب الدور القيادي الجامع، القادر على احتواء الحالة الفلسطينية، وقيادةً قادرةً على تمييز الأخطار، وإعداد الاستراتيجيات الملائمة في مواجهتها والتصدي لها.

فشل سياسة جز العشب
يطلق جيش الاحتلال على عمليات الاغتيال والاقتحامات، التي يقوم بها في مخيّمات الضفّة الغربية وقراها ومدنها، اسم سياسة "جز العشب"، وهي سياسةٌ تفترض أنّ المجموعات المقاومة الحالية هي مجموعاتٌ فرديةٌ، صغيرةٌ ومحليةٌ، عابرةٌ للتنظيمات، تمول من الخارج، ويتركز وجودها في مناطق محدودةٍ في شمال الضفّة، وتحديداً مخيّماتها، كما أنّها، فوق ذلك، مقطوعة الجذور مع المجتمع، الذي، يفترض الاحتلال، أنّه مردوعٌ، وغير معنيٍ بالتصعيد، ويبحث عن سبل رزقه ورفاهيته.

استندت هذه الحملات، التي انطلقت قبل ثلاثة أعوامٍ، إلى قراءةٍ استعماريةٍ متعاليةٍ وسطحيةٍ، ضدّ المخيّمات الفلسطينية في مناطق شمال الضفّة الغربية، وتحديداً في مخيّمات جنين ونور شمس وطولكرم ...إلخ، بعد أن صفت معظم المقاومين في "عرين الأسود" واعتقلتهم، الذين وجدوا في البلدة القديمة، في نابلس، ملاذاً لهم.

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعاد الاحتلال سياسة الاغتيال من الجو، وتبنى سياسة التدمير الكلّي للبنية التحتية، فضلاً عن العقوبات الجماعية والاقتصادية، وحملات الاعتقالات والتنكيل بالمدنيين، وتقطيع الأوصال، وعزل مناطق كاملةٍ لفتراتٍ طويلةٍ.

أسفرت هذه السياسات، التي تزامنت وأُسندت بحملات مليشيات المستوطنين الإرهابية المنظّمة، وسياسةٍ حكوميةٍ أعطت الضوء الأخضر لأذرعها الاستيطانية والأمنية لحسم الصراع في الضفّة الغربية، لصالح خطط وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، الذي وجد نفسه يمتلك مفاتيح التحكم في الضفّة الغربية ومداخلها كلّها، أمنياً ومالياً وإدارياً، من خلال سيطرته، هو وحزبه، على أهمّ الوزارات، التي تتولى مسؤولية الأرض والاستيطان، والأمن، وإدارة حياة الناس في الضفّة الغربية (وزارة الاستيطان، وزارة الأمن، وزارة المالية، والمسؤولية عن الإدارة المدنية)، كما وجد إلى جانبه وزيراً عنصرياً، لا يقل جشعاً عنه، ورغبةً في حسم الصراع، هو وزير الأمن الوطني، إيتمار بن غفير الذي تكفل بتسليح المستوطنين، وإعطائهم حصانةً من العقاب، ونشر خطابٍ يشرعن، بل ويحرض على، الإبادة، تحت حكم رئيس حكومةٍ يتماهى معهم أيديولوجياً. والأهمّ من ذلك كلّه؛ أنّه ضعيفٌ سياسياً، ويستند بقاؤه في الحكم إلى دعمهما، لينتج عن ذلك كلّه في الضفّة الغربية، واقعٌ من الإفقار والتمزق، وتراجعٌ على كل المستويات، إلى جانب ضعف السلطة الفلسطينية وأزماتها الخانقة.

حوّل هذا الواقع سياسة جز العشب إلى حسمٍ للصراع، كما حوّل المجموعات الفدائية المقاومة، من مجموعاتٍ محليةٍ صغيرةٍ، محدودة العدد، إلى عنوانٍ للمواجهة، ومحط آمال الكثيرين.

من المخيّمات إلى الريف
أدت عملية تدمير المخيّمات تدميراً انتقامياً وممنهجاً، وتخريب بنيتها التحتية، وحصارها المستمر من أجل إفراغها من سكانها، والتضيق على المقاومين الذين يتحصنون بداخلها، إلى بروز ظاهرة انتقال المقاومين إلى القرى والأرياف، التي ما زالت قيد التكوين، ومع ذلك فإنّها تعطي مؤشراتٍ على المرحلة القادمة، وإلى أين تتجه الأمور؟

في 14/8/2024؛ أعلن الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بياناً بشن حملةٍ عسكريةٍ، قد تمتد لساعاتٍ أو أيّامٍ، ضدّ بنيةٍ تحتيةٍ أنشأها مقاومون في قريتي طوباس وطمون في الأغوار الشمالية، وذلك بعد حوالي 24 ساعةٍ من تنفذ عمليةٍ مقاومةٍ أدت إلى قتل مستوطنٍ، وإصابة شابٍ (من فلسطيني الداخل) بجروحٍ في الأغوار أيضاً. رأى المحللون العسكريون الإسرائيليون في العملية مؤشراً على تحوّلٍ خطيرٍ في بنية المقاومة يتجه نحو التوسع والتعقيد، وينتقل من المخيّمات الضيقة والمكتظة والمحاذية للمدن، إلى القرى المجاورة، والأرياف الواسعة والممتدة والمجاورة للمستوطنات وطرقها الالتفافية.

وفقاً لاعترافات جيش الاحتلال، انتهت العملية في طوباس بتصفية خمسة مقاومين، وإصابة أربعة جنودٍ من قواته، بعد مواجهاتٍ باسلةٍ وقويةٍ شهدتها أحياء البلدة، واشتباكاتٍ عنيفةٍ، وعبواتٍ متفجرةٍ أعطبت آليات الاحتلال، وهي أساليبٌ مقاومةٌ تنسخ الأساليب المتبعة، حرفياً، في المخيمات، ما يعني انتقال خبرة المقاومين وأسلحتهم إلى بيئةٍ جديدةٍ، والنجاح في تهيئة بنيةٍ تحتيةٍ مقاومةٍ لا تقل عن بنية المخيّمات. نتيجة ذلك، لم ينجح الاحتلال في السيطرة، على طوباس، إلّا عبر استخدام سلاح الطيران والمسيرات، وبعد ضرب تحصينات المقاومين بصواريخ الأنيرجي.

الانفجار والتمدد أم الانحسار؟
قبل شهرين ونيف، حذّر الجنرال الإسرائيلي كميل فوكس، عند مغادرته منصبه قائداً للمنطقة الوسطى، المسؤولة عن الضفّة الغربية، من انفجار الأوضاع في الضفّة الغربية، معترفاً ضمنياً بأنّ اعتداءات المستوطنين، وسياسة إضعاف السلطة الفلسطينية، ستؤديان إلى تدهور الوضع الأمني في إسرائيل وليس في الضفّة الغربية فقط، هنا تجاهل الجنرال الإسرائيلي فشل الحملات العسكرية التي قادها على مدار ثلاثة أعوام في القضاء على التشكيلات المقاومة في الضفّة الغربية، وخصوصًا مخيّماتها.

من النادر أنّ يعترف قائدٌ عسكريٌ إسرائيليٌ بهذا المستوى بدور المستوطنين في تقويض الأمن، ما يدل على خطورة المستوطنين التي يمثلونها حالياً، وعلى عدم قدرة جيش الاحتلال على السيطرة عليهم وعلى بنيتهم وتنظّيمهم وتحركهم، إضافة إلى نوعية أسلحتهم وكميتها، ودعم الحكومة لهم والغطاء والحصانة الذي توفره لهم، ذلك كلّه بات يشكل عنصراً حاسماً في تأجيج الصراع في الضفّة الغربية.

من الأمثلة على ذلك، ما حصل في الآونة الأخيرة عندما هاجمة مجموعةٌ من المستوطنين، قرابة مئة مستوطنٍ، قرية جيت في قلقيلية هجوماً منظماً، حينها لم تنحصر خطورة الهجوم في إحراق المستوطنين منازل القرية المسالمة، أو في إعدامهم شاباً فيها، أو في الاعتداء على سكانها وترويعهم، بل في إقدامهم على ذلك كلّه من دون سببٍ أو ذريعةٍ، كما في اعتداءات المستوطنين السابقة، التي عادةً ما تتذرع بالانتقام من عمليةٍ فلسطينيةٍ أسفرت عن مقتل مستوطنٍ أو أكثر، إذ كان هجوم المستوطنين على جيت مبادرةً جماعيةً كبيرةً تحت قيادةٍ خاصّةٍ منهم حددت أهداف الهجوم وقادته.

يخلق دور المستوطنين هذا احتكاكاً/ صداماً يومياً مع الفلسطينيين، الذي بدوره إلى جانب تعاظم قوتهم السياسية، وتأثيرها على قرارات المستوى السياسي، وكذلك الإفقار الممارس في الضفّة الغربية، من خلال تقطيع أوصالها، ومنع العمال من الذهاب إلى العمل، كما إضعاف السلطة، وعدم قدرتها على السيطرة، أو على الإيفاء بالتزاماتها، وعمليات الضغط العسكري، وآثار العدوان على قطاع غزّة، وفشل العمليات العسكرية في اجتثاث المقاومة، وغياب الفعل الفصائلي، وانسداد الأفق السياسي، ذلك كلّه يؤدي إلى نتيجةٍ مفادها أنّ الضفّة الغربية ليست مقبلةً على فترة هدوءٍ، لأنّ كلّ الكوابح، التي كان يمكن لها أن تضمن نوعاً من الاستقرار، غير قائمةٍ، أو ضعيفةٌ جداً.

لطالما فاجأت الحالة الفلسطينية، من ضمنها الضفّة الغربية، الجميع، وخالفت التوقعات كلّها، وسبقت فيها الجماهير قيادتها. فنحن اليوم أمام وضعٍ مهيئٍ جداً للانفجار، ما يطرح السؤال التالي: هل تملك الفصائل الفلسطينية القدرة على توجيه الانفجار واستثماره، بما يضمن ديمومته، ويحوله إلى نهوضٍ وطنيٍ مقاومٍ، يمثّل تحدياً جديداً لسياسات الاحتلال؟ أم يُترك الانفجار ليخلق ديناميكيةٍ خاصّةٍ به، تعيد صياغة الحالة الفلسطينية كلّها، كما تعيد إنتاج نواةٍ قياديةٍ بمواصفاتٍ جديدةٍ، على ضوء العجز المستشري فصائلياً، وغياب السلطة شبه التام، وما يتعرض له قطاع غزّة من تدميرٍ وقتلٍ لكلّ مقومات الحياة؟

المصدر: العربي الجديد