2024-11-21 03:18 م

“الضغط من أجل الصهيونية”.. ماذا يخبرنا كتاب إيلان بابيه الجديد عن اللوبي الإسرائيلي؟

2024-08-26

“دسائس وتدبير في الخفاء ومؤامرات خطيرة لتغيير الرأي العام والسيطرة على قرارات دول”، هكذا رُبطت كلمة “لوبي” في ذهن الكثيرين، وتُتهم اللوبيات بالكثير حتى بما يمسّ حياتكم أينما كنتم، فهناك لوبي السلاح ولوبي الأدوية ولوبي الشركات التكنولوجية ولوبي النفط ولوبي الإعلام، وقبل كل ذلك هناك اللوبي الموالي لـ”إسرائيل”.

يكشف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في أحدث كتاب له بعنوان “الضغط من أجل الصهيونية على جانبي المحيط الأطلسي”، كيف غيّر اللوبي الإسرائيلي خريطة الشرق الأوسط، فقد مارس الصهاينة ضغوطًا على الكونغرس، وقمعوا المعارضة في حزب العمال البريطاني، ولطّخوا سمعة المنتقدين بلا هوادة.

تجاهُل واستهداف متعمَّد
في يونيو/ حزيران الماضي، استضاف موقع “ميدل إيست مونيتور” البريطاني، بالتعاون مع مؤسسة قرطبة لحوار الحضارات والأديان (مجموعة أبحاث واستشارات تتخذ من بريطانيا مقرًا لها) ودار نشر وان وورلد (One World) البريطانية، إطلاق أحدث كتاب للأكاديمي الإسرائيلي المناهض للصهيونية والداعم للفلسطينيين عن اللوبي الصهيوني، في فعالية في مركز المؤتمرات هالام بالقرب من شارع أوكسفورد وسط لندن.

ومنذ ذلك الحين، لم يتم نشر أي مراجعات للكتاب الجديد، الذي يقول الصحفي البريطاني بيتر أوبورن إنه صدر في الوقت المناسب من قبل أحد أفضل المؤرخين الإسرائيليين المعاصرين، ويستحق أن يصبح موضوعًا لمناقشة معاصرة عاجلة، ومع ذلك تمّ تجاهله في بيئة إعلامية وسياسية فرضت نظامًا من الصمت حول أي مناقشة للوبي الإسرائيلي.

ولا يبدو هذا الصمت مفاجئًا، فحتى الإشارة العابرة إلى اللوبي الإسرائيلي من شأنها أن تؤدي إلى اتهامات بمعاداة السامية، وهي -حسب المفهوم الإسرائيلي- سلاح فعّال تشهره “إسرائيل” ضد من ينتقدها لإسكات الأصوات المعارضة لسياساتها، وتدمّر به مهنة أصحابها.

على سبيل المثال، في يونيو/ حزيران الماضي تخلى حزب العمال البريطاني عن السياسية البريطانية فايزة شاهين، المرشحة عن مقعد لندن في تشينغفورد وودفورد غرين، قبل أسابيع قليلة من التصويت، تعرّضت لاستجوابات حول نشاطها على وسائل التواصل الاجتماعي بين عامي 2014 و2024، حول قضايا تتراوح من الإسلاموفوبيا إلى الضغط الإسرائيلي.

ورغم أنها سبق أن تنافست على المقعد نفسه في انتخابات 2019، لم يكن لدى شاهين الكثير من الخيارات، وفي مقابلتها مع فيكتوريا ديربيشاير على قناة “بي بي سي”، بدت شاهين مصدومة وباكية، واعتذرت عن “الإعجاب” بتغريدة مصحوبة بمقطع كوميدي من عام 2014 لجون ستيوارت تشير إلى “لوبي إسرائيل”، والتي تعتبر على نطاق واسع مصطلحًا معاديًا للسامية.

ووافقت لجنة المساواة وحقوق الإنسان (EHRC)، الجهة التنظيمية القانونية، على أن شاهين قلّلت من أهمية اتهامات معاداة السامية، وفي عام 2020 استشهدت اللجنة بادّعاء مفاده أن “لوبي إسرائيل” كان وراء الشكاوى، كدليل يدعم أن معاداة السامية غير قانونية.

لهذا السبب، وجّه بابيه كلمات قاسية إلى لجنة المساواة وحقوق الإنسان بشأن معاداة السامية في حزب العمال، فقد كتب: “في عالم أكثر عقلانية، أو ربما بعد سنوات من الآن، إذا سُئل الناس عما تحقق فيه مؤسسة رائدة في مجال حقوق الإنسان فيما يتصل بإسرائيل وفلسطين، فإنهم سيجيبون على النحو التالي: “انتهاك حقوق الإنسان للفلسطينيين””.

لم تكتفِ اللوبيات الصهيونية باستهداف الأصوات المناهضة لـ”إسرائيل” في الدوائر السياسية، فقد عملت جماعة الضغط “محامون بريطانيون من أجل إسرائيل” على ترهيب المجالس المحلية والمراكز الثقافية والجمعيات التي تظهر تضامنًا مع ضحايا الإبادة الجماعية في قطاع غزة، واحتفت بنجاحها في إزالة الجداريات المؤيدة لفلسطين، وأعلنت سعيها لإزالة المزيد.

كذلك، ترهب منظمة “محامون بريطانيون من أجل إسرائيل” التي ترفع شعار “دعم إسرائيل بالمهارات القانونية” الأصوات الداعمة لفلسطين، خاصة منذ السابع من أكتوبر، والأداة هذه المرة: التهديد بـ”الملاحقة القانونية” بتهمة “معاداة السامية” لمن يمنح منبرًا للسردية الفلسطينية.

كما مارست المنظمة أيضًا ضغوطًا على ناشري الكتب المدرسية البريطانية بدعم من مجلس “نواب اليهود البريطانيين”، وتمكنت من تعديل كتب تاريخ الشرق الأوسط لصالح السردية الإسرائيلية، وطال التحريف نصوصًا وحقائق وتواريخ وخرائط وصورًا أرشيفية، وحذف جرائم الاحتلال مثل سياسة تكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى.

رغم ذلك، دخل بابيه منطقة خطيرة يتحرك أفرادها بين ما هو معلن وما هو خفي، مدجّجين بأسلحة وأدوات كثيرة ونفوذ لطالما أثار الجدل والغموض حول حدود قدرتهم، وكل شيء تحت أعين القانون، لكن كل ذلك لم يمنع الأكاديمي المعروف بآرائه وأبحاثه المعادية للصهيونية، من أن يكون أحد القليلين المؤهّلين لتحدي السردية القائلة إن “مناقشة اللوبي الإسرائيلي أمر محظور”.

قبل ذلك، كان بابيه أحد أبرز “المؤرخين الجدد” الذين أعادوا سرد قصة تأسيس “إسرائيل”، وقد تعرض لإدانة شديدة في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) بعد نشر كتابه المثير للجدل “التطهير العرقي لفلسطين” عام 2006، ويكشف فيه كيف كان التطهير العرقي والترحيل جزءًا جوهريًا من استراتيجية الحركة الصهيونية.

وأوقفت دار النشر الفرنسية الشهيرة فايارد (Fayard) مؤخرًا توزيع كتاب “التطهير العرقي في فلسطين”، وادّعت أن السبب شكلي، وعزت المسألة إلى انتهاء العقد مع المؤلف في فبراير/ شباط 2022، لكن لا يبدو هذا السبب مقنعًا، لأن نسبة مبيعات الكتاب ارتفعت منذ بدء الحرب في غزة، وهنا تكمن المفارقة بين الأرقام المسجّلة وقرار سحب الكتاب.

ودعا وزير التعليم الإسرائيلي جامعة حيفا إلى طرده علنًا، ومنعته سلطات الجامعة من المشاركة في الندوات أو المؤتمرات، وصوّرته إحدى أكثر الصحف الإسرائيلية مبيعًا في مركز هدف، وإلى جوارها خاطب كاتب عمود قرّاءه قائلًا: “أنا لا أطلب منكم قتل هذا الشخص، ولكن لا ينبغي لي أن أتفاجأ إذا فعل شخص ما ذلك”.

بعد سلسلة من التهديدات بالقتل بدأت منذ سُئل عمّا إذا كان سينقل شكواه بشأن معاملة الفلسطينيين إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وجد هذا الابن الإسرائيلي لمهاجرين يهود من أصل ألماني نفسه في عين عاصفة دفعته إلى مغادرة بلد مولده والبحث عن ملاذ في غرب إنجلترا، وكان محظوظًا لأنه تمكّن من العثور على مكان شاغر في جامعة إكستر، لينتهج الكتابة كأفضل طريقة للاحتجاج في المنفى.

وقبل شهرين، تعرض بابيه، الذي لا يزال مواطنًا إسرائيليًا، للاستجواب من قبل وزارة الأمن الداخلي لمدة ساعتين عند وصوله إلى مطار ديترويت بالولايات المتحدة، وفي النهاية سُمح له بالدخول، لكن فقط بعد أن قاموا بنسخ محتويات هاتفه، ولاحظ لاحقًا أن هذا النوع من المضايقات لا يعدّ شيئًا مقارنة بما يواجهه الفلسطينيون بشكل روتيني.

ويستشهد بابيه بمعاملة الطبيب البريطاني الفلسطيني ورئيس جامعة غلاسكو، إحدى أكبر جامعات اسكتلندا، غسان أبو ستة، الذي اُحتجز في أبريل/ نيسان الماضي في مطار في ألمانيا، ورفض دخوله إلى البلاد لحضور مؤتمر عن فلسطين كان قد تلقى دعوة لحضوره، لكن تم فرض حظر سفر عليه على مستوى منطقة شنغن لمدة عام، ما منعه من السفر إلى 29 دولة في جميع أنحاء أوروبا.

أصول الضغط الصهيوني
في فندق ويلارد إنتركونتيننتال في العاصمة الأمريكية واشنطن، كان الرئيس الأمريكي يوليسيس غرانت الذي حكم في القرن التاسع عشر يحب أن يجلس بعد أن ينهي عمله الشاق في البيت الأبيض، وأسّست استراحة غرانت هذه لواحدة من أكثر الأدوات السياسية جدلًا وفقًا لهذه الرواية.

غرانت كان يجلس في بهو الفندق أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ”اللوبي Lobby”، لكنه لم يسعد كثيرًا بهذه الجلسة، إذ سرعان ما رآها البعض فرصة للإتيان بمصالحهم والسعي لإقناعه بقضاياهم وتغيير مواقفه. أخذ الفعل دلالة المكان، وأصبحت الكلمة مصطلحًا يشير إلى جماعات الضغط، إحدى أكثر أدوات التغيير والتأثير جدلًا.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان حلم الدولة اليهودية بعيد المنال، فقد اقترح الصهاينة أماكن متنوعة مثل فلسطين والأرجنتين، وظل معظم اليهود في بريطانيا والولايات المتحدة بعيدين عن الأدلجة، واليوم أصبح دعم “إسرائيل” شرطًا أساسيًا للحياة السياسية البريطانية والأمريكية، ويعد الأغلبية الساحقة من اليهود أنفسهم صهاينة، فكيف حدث هذا؟

يعود بابيه إلى القرن التاسع عشر لرسم أصول التحريض على هجرة اليهود إلى فلسطين، عندما تعاون الصهاينة المسيحيون، الذين سعوا إلى التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح، مع الصهاينة اليهود -بدافع من الحماسة القومية والرغبة في مساعدة يهود أوروبا على الهروب من معاداة السامية- لإقناع الحكومة البريطانية بتأسيس دولة يهودية.

ويفترض أن القادة الصهاينة كانوا يدركون دون وعي منذ البداية أن مشروعهم غير عادل بطبيعته، لذا لم يكلفوا أنفسهم عناء كسب قلوب وعقول الجمهور، بل استثمروا كل جهودهم في النخب، ورأوا النجاح في كسبهم إلى قضيتهم، خاصة أولئك الذين لديهم خلفية مسيحية إنجيلية.

ويحسب قوله، أدّى النفوذ السياسي المتراكم لحشد النخب إلى إنشاء شبكة من جماعات ضغط قوية على جانبَي المحيط الأطلسي منذ وقت مبكّر للغاية، وهي الشبكة التي اكتسبت حياة خاصة بها، ومثّلت مؤسسات في حد ذاتها، ولها مصالحها الخاصة، وفي بعض الأحيان كانت تعمل في المقام الأول للحفاظ على قوتها، وليس بالضرورة من أجل القضية الإسرائيلية.

ويركز الأكاديمي الإسرائيلي في الفصل الأول من كتابه على بدايات الصهيونية بين المسيحيين الإنجيليين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة قبل قرنين من الزمان، وهو ما قد يفسّر استخدامه لمصطلح “جماعة الضغط الصهيونية” بدلًا من “جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل” المعتادة.

في الفصول اللاحقة نجد أنه في بريطانيا التي حصلت على انتداب على فلسطين، تم تقديم الدعم للصهيونية من خلال شخصيات النخبة مثل وزير الخارجية البريطاني ديفيد لويد جورج، الذي اشتهر بإعطاء وعد بلفور الذي نصَّ على دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ورؤساء الوزراء اللاحقين مثل توني بلير (1997-2007)، وغوردون براون (2007-2010)، الذين كان لديهم جميعًا خلفية مسيحية إنجيلية.

وبحسب بابيه، كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ويلسون، الذي قاد حزب العمال من عام 1963 إلى عام 1976، “مؤيدًا لإسرائيل حتى النخاع”، ويتكهّن بابيه بأن إعجاب ويلسون بـ”إسرائيل”، مثل إعجاب رئيس الوزراء أثناء النصف الأخير من الحرب العالمية الأولى ديفيد لويد جورج في جيل سابق، كان نتاجًا لتربية مسيحية غير تقليدية.

على عكس هؤلاء، كان أليك دوغلاس هيوم، وزير الخارجية في حكومة إدوارد هيث التي خلفت إدارة هارولد ويلسون بعد الانتخابات العامة عام 1970، أكثر ودية تجاه الفلسطينيين، فقد أصرَّ في أعقاب حرب 1967 على أن بريطانيا لم تعد قادرة على تجاهل “التطلعات السياسية للعرب الفلسطينيين”، كما أغضب “إسرائيل” بالسماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء مكتب في لندن.

ويقول بابيه إن هيوم كان السياسي البريطاني الكبير الوحيد الذي فسّر قرار الأمم المتحدة رقم 242 باعتباره مطلبًا بالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط إلى حدود 5 يونيو/ حزيران 1967، نتيجة لذلك يُنظر إلى هذا الأرستقراطي العجوز اليوم باعتباره من العهود القديمة اليائسة في بريطانيا ما بعد الحرب.

وفي الولايات المتحدة التي أصبحت القوة العظمى الجديدة في العالم بعد انسحاب بريطانيا من فلسطين عام 1947، وإلقائها المشكلة المستعصية برمّتها في حضن الأمم المتحدة، دعا القس الأمريكي جورج بوش (الجد المباشر لرئيسَين أميريكيَّين)، في أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى إحياء الدولة اليهودية في فلسطين، معربًا عن أمله في أن يعرض على اليهود “نفس الحوافز للانتقال إلى سوريا كما هو الحال الآن لتشجيعهم على الهجرة إلى هذا البلد”.

وينتقل بابيه إلى الولايات المتحدة، حيث انضم المحافظون الجدد بعد الحرب العالمية الثانية إلى الصهاينة المسيحيين واليهود لإقناع السياسيين بدعم “إسرائيل” كحصن ضد الشيوعية، وأقنعت جماعات الضغط المؤيدة لـ”إسرائيل” صنّاع السياسات البريطانيين والأمريكيين بالتغاضي عن انتهاكات الاحتلال الصارخة للقانون الدولي، ومنح “إسرائيل” مساعدات عسكرية غير مسبوقة، والاعتراف بالأراضي المحتلة بشكل غير قانوني، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم.

ويبدو أن الرؤساء الأمريكيين مثل هاري ترومان (1945-1953) وبيل كلينتون (1993-2001) تأثروا في دعمهم للوبي الإسرائيلي بضراوة بتربيتهم المعمدانية، وتم تقديم الكثير من الدعم للوبي الإسرائيلي من خلال الحركة الصهيونية المسيحية القوية، والتي تشكل اليوم جزءًا رئيسيًا من اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.

كان هؤلاء المسيحيون الأوائل المؤيدون لتهويد فلسطين، مثل المسيحيين المتصهينين اللاحقين، غافلين عن الوجود الفلسطيني في ما اعتبروه الأرض المقدسة، وبالنسبة إليهم لم تتغير فلسطين منذ زمن المسيح. وعلى حد تعبير بابيه: “في وقت لاحق، تم تصورها على أنها جزء من أوروبا في العصور الوسطى: شعبها يرتدي ملابس العصور الوسطى، ويتجول في الريف الأوروبي”.

ومنذ نشأته، يتحكم اللوبي الصهيوني المتواجد في الولايات المتحدة بسياساتها، وخصوصًا الخارجية، عبر استخدامه أسلوب جماعات الضغط في توجيه السياسات الأمريكية، فهو يموّل حملات انتخابية للعديد من النواب المرشحين للكونغرس، مقابل تصويتهم فيما بعد على قرارات تصبّ في صالح “إسرائيل”.

يعني هذا أن الرئيس الأمريكي حتى وإن كان غير مؤيد لسياسات دول الاحتلال، إلا أنه مجبر على التساوق معها، ومن المستحيل أن يخالفها في أي شيء، وهذا ما يظهر بعد انتهاء فتراتهم الرئاسية، فتجد بعضهم يخرج بتصريحات ساخطة على “إسرائيل” من المستحيل أن يدلي بها أثناء شغله منصب الرئيس.

يساعد هذا التأثير التراكمي لضغوط اللوبي الإسرائيلي على الرؤساء الأمريكيين في تفسير سبب دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن تلقائيًا لحرب الإبادة الجماعية على غزة، فهو الذي قال: “ليس من الضروري أن تكون يهوديًا لكي تكون صهيونيًا، وأنا صهيوني”، وشملت إدارته منذ اليوم الأول لوصوله البيت الأبيض شخصيات يهودية منحازة لـ”إسرائيل” لشغل مناصب هامة وحساسة.

وتفسر رسالة غاضبة بعث بها أحد أكبر المتبرعين لحملة بايدن الانتخابية، وهو الأمريكي الإسرائيلي حاييم سابان، إلى بايدن سبب دعم الساسة الأمريكيين “إسرائيل” بهذه الضراوة، فهذا شخص الذي لا يشغل أي منصب سياسي مؤهّل لتوجيه لوم إلى أعلى سلطة أمريكية، يطلب في رسالة -إن لم يكن أمرًا- بتغيير قرار الرئيس الأمريكي بتعليق شحنة أسلحة كان من المفترض أن تتجه إلى “إسرائيل”، وأرفق ذلك بتليمح إلى أن بايدن بهذا القرار قد يخسر الناخبين الأمريكيين اليهود في الانتخابات المقبلة، قبل انسحابه مؤخرًا منها.

في الوقت نفسه، يسلط بابيه الضوء على القيود المفروضة على قدرة اللوبي على التأثير على السياسة الأمريكية التي يتلاعب بها غالبًا بتمويله السياسي، ومن الأمثلة على هذه الإخفاقات إصرار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، على الرغم من الحملة الشرسة التي شنتها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، وإحياء بايدن للاتفاق النووي مع إيران.

وعلى مدار عقود، نجحت “أيباك” في تحقيق كل ما يخدم “إسرائيل” من قوانين ومعاهدات بموافقة الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، لكن بابيه يشير إلى أنه رغم أن رؤساء الولايات المتحدة سيقاتلون ضد لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية بشأن القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع، إلا أنهم استسلموا عمومًا بشأن فلسطين، وتسابقوا إلى خدمة الكيان الصهيوني.

الاستثناء البارز هنا هو اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي يستشهد بها بابيه باعتبارها فشلًا لمنظمة “أيباك” التي حققت الكثير في مسار توفير الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، رغم أن الاتفاقات لم تكن لديها القدرة على توفير دولة قابلة للحياة للفلسطينيين في ظل ما فرضته “إسرائيل” من وقائع بعد تقسيم الضفة الغربية، وبدا حل الدولتَين بلا معنى، وباتت المناطق المصنَّفة “أ” و”ب” بدورها مجزّأة ومقسّمة بطرق وقواعد إسرائيلية.

ورغم أن اتفاقيات أوسلو كانت لصالح “إسرائيل” بشكل واضح، فقد عارضتها بشدة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، والتي يستشهد بها بابيه كمثال على فرضيته التي تقول إن المنظمات الصهيونية تعمل أحيانًا فقط للحفاظ على قوتها، وليس مصالح “إسرائيل”.

في طليعة المستهدفين
ينسج السرد الدقيق الذي يقدمه بابيه العديد من خطوط التحقيق الاستقصائية، ويكشف كيف شكلت جماعات الضغط الصهيونية الثقافة السياسية في أمريكا وبريطانيا، ويوضح كيف كان لجماعات الضغط تأثير مخيف على قدرة السياسيين على التعامل مع انتهاكات “إسرائيل” للفلسطينيين.

ويصف الكتاب كيف استهدفت جماعات الضغط الإسرائيلية السياسيين والصحفيين على حد سواء، ففي ستينيات القرن الماضي خسر السياسي البريطاني كريستوفر مايو وظيفته في وزارة الخارجية وسط ضغوط من اللوبي الإسرائيلي عام 1964، كما تم استهداف وزير الخارجية السابق لحزب العمال جورج براون في الستينيات.

كما خسر السياسي البريطاني المناهض للاستيطان آلان دانكن وظيفته في وزارة الخارجية بسبب تعاطفه مع الفلسطينيين، فقد وصفَ دانكن الذي شغل منصب وزير الخارجية ووزير المساعدات قبل تنحّيه عن منصبه كنائب عام 2019، توسيع المستوطنات الإسرائيلية بأنه “وصمة عار على وجه العالم”، وقال إن “القانون الدولي يجب أن يُحترم” لمنع المزيد من المستوطنات.

في يناير/ كانون الثاني 2017، بثّت قناة “الجزيرة” تحقيقًا بعنوان “اللوبي (The Lobby)”، أظهرت الحلقة الأخيرة فيه كبير مسؤولي الشؤون السياسية في السفارة الإسرائيلية في لندن شاي ماسوت، يقترح محاولة الإطاحة بالسياسيين البريطانيين المؤيدين للفلسطينيين، منهم وزير الخارجية آلان دانكن، الذي قال إنه كان يخلق “الكثير من المشاكل”، وينظر إليه على أنه مشكلة أكبر من وزير الخارجية آنذاك بوريس جونسون.

وفي أبريل/ نيسان الماضي، واجه دانكن الطرد من حزب المحافظين، ووُجّهت له اتهامات بمعاداة السامية، بعد مطالبته بطرد السياسيين البريطانيين “المتطرفين” المؤيدين لـ”إسرائيل”، والذين يروجون لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتطرفة، ويصرّون على رفض الالتزام بالقانون الدولي، في إشارة إلى الوزير السابق إريك بيكلز، ونظيره المحافظ ستيوارت بولاك، وكلاهما عضوان في منظمة “أصدقاء إسرائيل” التي يتم استخدامها “لحفظ مصالح دولة أخرى” من خلال الضغط لصالح “إسرائيل”، لكن اللوبي الإسرائيلي أخفق هذه المرة في إلصاق مزاعم معاداة السامية بوزير المحافظين الذي برّأته المحاكم البريطانية.

ولم يسلم الصحفيون من الاستهداف، فقد شنّت جماعات الضغط المؤيدة لـ”إسرائيل” حملة شديدة الضراوة على هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، لم تقتصر على ممارسة ضغوط على الإدارة العليا، بل شملت أيضًا حملات شخصية ضد صحفيين بهدف تدمير حياتهم المهنية، وأصبح أي شخص يشكك في الدعم غير المشروط لـ”إسرائيل”، حتى في أكثر العبارات اعتدالًا، هدفًا لحملات تشويه سمعة لا هوادة فيها.

ويقدم بابيه في كتابه الدليل على هذا الانتقام بنقل تجارب بعض الصحفيين، مثل الصحفي البريطاني جيريمي بوين، مراسل “بي بي سي” لشؤون الشرق الأوسط، الذي اضطر إلى تحمل تحقيق طويل في مقر عمله، بسبب ادعاءات عضوَين في اللوبي الإسرائيلي: جوناثان تورنر من الاتحاد الصهيوني، وجلعاد إيني الذي يمارس ضغوطًا لمصلحة “منظمة الرقابة الإعلامية الأمريكية” الموالية لـ”إسرائيل”، بانتهاكه قوانين الدقة وعدم الانحياز في مقال على الإنترنت وفي برنامج إذاعي، محاولين إذلاله للمطالبة بطرده من “بي بي سي” التي تعرضت لضغوط كبيرة.

من الأمثلة الأخرى لتأثير اللوبي الإسرائيلي داخل أروقة على وسائل الإعلام البريطانية، ما تعرض له مقدم البرامج جوناثان ديمبلبي الذي وجّه انتقادات جريئة حول الضغوط التي تمارسها مجموعات موالية لـ”إسرائيل” على”بي بي سي”، خاصة ما تعرض له جيريمي بوين، ما أثار امتعاض تورنر الذي كان قد اشتكى من بوين، ليخضع ديمبلبي حينها لآلية الشكاوى نفسها التي انتقدها، ويتبخر اهتمامه بالقضية.

ووجّهت حكومة الاحتلال مرارًا وتكرارًا شكاوى إلى هيئة الإذاعة البريطانية تتهم فيها المراسلة أورلا غويرين بمعاداة السامية، وأنها تبدي “تماهيًا تامًّا مع أهداف المجموعات الإرهابية الفلسطينية وأساليبها”، حتى أنها ربطت ذات مرة تقاريرها -عندما كانت تعمل مراسلة في الشرق الأوسط عام 2004- بارتفاع حوادث معاداة السامية في بريطانيا، وهي اتهامات كانت كاذبة لكنها ألحقت أضرارًا بحياتها المهنية.

هناك أسماء أخرى في هذه القائمة الطويلة، من بينها مراسلة صحيفة “الغارديان” السابقة في القدس سوزان غولدنبرغ، والمحرر السابق للصحيفة البريطانية ذاتها آلان روسبريدغر، وجميعهم تعرضوا لضغوط وتشويه للسمعة مسموح به رسميًا من قبل أصدقاء “إسرائيل”، ويظهر هذا سبب تجنُّب بعض الأشخاص مواجهة تأثير اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا.

وفي الولايات المتحدة، كان رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأطول خدمة لمدة 15 عامًا (1959-1974)، ويليام فولبرايت، المثال الأقدم والأكثر دلالة على أن مثل هذه المعاملة القاسية للأفراد تميز جماعات الضغط المؤيدة لـ”إسرائيل” عن غيرها من جماعات الضغط، سواء الأجنبية أو المؤسساتية.

كانت جريمة عضو الكونغرس الذي وقف في وجه اللوبي الصهيوني أنه زعم أنه “بدلًا من إعادة تسليح إسرائيل، يمكن تحقيق السلام في الشرق الأوسط على الفور بانسحاب تل أبيب من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 وضمان هذه الحدود”، وانتقد سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تهدف إلى إقامة “إسرائيل” الكبرى، ولعلّ أكثر ما أزعج اللوبي الإسرائيلي هو تأكيده أن الإسرائيليين يتحكمون في السياسة داخل الكونغرس في عام 1973.

في العام التالي، دفع فولبرايت ثمن تصريحاته ومواقفه المعارضة لمجمل السياسة الخارجية الأمريكية في الدورة الانتخابية لعام 1974، وتضافرت جهود كل اللوبيات المؤيدة لـ”إسرائيل” بكل ما يملكون من إمكانيات مالية وسياسية لهزيمته في مجلس الشيوخ، بعدما خدم في الكونغرس لمدة 23 عامًا.

ويصف بابيه في هذا الكتاب القصة المروعة لاغتيال فولبرايت معنويًا بقوله: “لقد تدفقت أموال جماعات الضغط إلى خزائن الحملة الانتخابية لمنافسه، حاكم ولاية أركنساس ديل بومبرز، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، كان الطريق إلى الكابيتول مليئًا بالمرشحين من نخبة السياسة الأمريكية، الذين تعرضت حياتهم المهنية لمصير مماثل”.

وفي الفصل قبل الأخير من الكتاب، والذي يتحدث عن بريطانيا في القرن الحادي والعشرين، يتحدث بابيه عن معارك اللوبي الإسرائيلي ضد اليساريين المؤيدين للفلسطينيين، بما في ذلك أحداث صيف عام 2018، عندما وصلت الضغوط على رئيس حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربين، الذي أعيته خصومة “إسرائيل”، إلى ذروتها بسبب معاداته المزعومة للسامية.

يستشهد بابيه بتعليقات أدلَت بها رئيسة مجلس نواب اليهود البريطانيين، وهو من أبرز منظمات اليهود البريطانيين، ماري فان دير زيل، في مقابلة أُجريت في أغسطس/ آب 2018 مع قناة الأخبار الإسرائيلية اليمينية “i24NEWS”، حيث صرّحت في هذه المقابلة: “لقد شنَّ جيريمي كوربين حربًا على اليهود في الداخل”.

لماذا هذا العداء المرير؟ لأنهم، كما يقول بابيه، “شكوا بحق في أنه يؤمن إيمانًا صادقًا بحل الدولتين العادل ولن يبتلع أعذار إسرائيل لعرقلة هذا الحل”، وكانت آراء كوربين بشأن فلسطين متطابقة تقريبًا مع تلك التي عبّر عنها معظم الدبلوماسيين البريطانيين وكبار السياسيين منذ عام 1967، في دعم حل الدولتين والاعتراف بالسلطة الفلسطينية.

وفي إشارة إلى دعم كوربين لحل الدولتين، علق بابيه: “عندما ندرك الفجوة بين رد فعل فان دير زيل الهستيري تجاه كوربين وموقفه الحقيقي، فإننا نقترب كثيرًا من الإجابة على الافتراض المطروح في مقدمة هذا الكتاب، وهو: لماذا تصرّ إسرائيل ولوبياتها على معارضة “نزع الشرعية؟ ولماذا لا تزال هذه الدولة اليهودية تمارس الضغوط وتشن حملات شرسة من أجل الاعتراف بشرعيتها في الغرب بعد أكثر من 75 عامًا من تأسيسها، خاصة في ضوء قوتها السياسية والاقتصادية؟”.

وما زال المدافعون عن “إسرائيل” يعانون باستمرار من الشك بشأن شرعية دولة الاحتلال، وهذا يغذي الحملة لتبرير قمع مستمر يستخدم فيه المال والعلاقات الشخصية، وكلها وسائل خاضعة لرقابة رسمية وغير رسمية، ومعايير صارمة حول كل دولار يُدفع وكل كلمة تُقال، ويبقى الجدل بين ما هو معلوم وما هو غير معلوم.

المصدر: نون بوست