2024-11-18 08:24 م

كلثوم عودة الأكاديمية الفلسطينية المتمردة

2024-08-22

تنتمي كلثوم نصر عودة (1892-1965) إلى مجموعة من العلماء المؤثرين المغيّبين عن القراء بشكل عام، وإن عرف البعض باسمها وبأنها "امرأة فلسطينية عظيمة"، وفق نبذة معمَّمة عنها تتضمن أنها "أول أكاديمية فلسطينية قبل النكبة"، "أول امرأة عربية حصلت على درجة بروفيسور"... لكن، وعلاوة على ذلك، فما السر في عظمتها؟ وما هي مسارات إبداعها؟

بعد الاطلاع على كل ما دوّنته كلثوم عودة ونشرته بالروسية والعربية، وما كتبه عنها زملاؤها وطلابها باللغة الروسية، يمكننا تلمس أربعة مسارات في حياتها:

أولاً، مسار حياتها وانتفاضتها الجريئة والحاسمة على واقع المرأة العربية والتقاليد، في مراحلها العمرية المختلفة، بدءاً من الطفولة المبكرة، مروراً بالصبا، والعمل، والزواج، والهجرة، والترمل، واحتضان طفلاتها على الرغم من العوز، ومناصرتها القضايا المحقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية...

ثانياً، تعليم اللغة العربية وآدابها، وإعداد الكتب التعليمية والتدريبية للمتعلمين واعتماد هذه الكتب وانتشارها في مراكز الدراسات العربية في الاتحاد السوفياتي.

ثالثاً، ترجمة الأدب العربي الحديث (فنّ القصة في سوريا، لبنان، فلسطين، مصر،...) إلى اللغة الروسية، وتوجيه طالباتها وطلابها إلى ذلك، وإعداد الدراسات المتعلقة بالترجمة الأدبية من اللغة العربية.

رابعاً، البحث العلمي الإثنوغرافي بنتيجة البعثات التي شاركت فيها إلى فلسطين في زمن الاحتلال البريطاني وإلى آسيا الوسطى، وتركيزها على أوضاع المرأة وكيفية الارتقاء بها.

لعل أهم مسار في هذه الأربعة، والذي يربط بينها كلها، هو الأول. فكيف تمكنت هذه الفتاة العربية من الوصول إلى أرقى المراتب الأكاديمية في العاصمة السوفياتية، وباتت كلمتها مؤثرة في حقول مختلفة من البحثين العلمي والأدبي المتعلقين بالشرقين الأدنى والأوسط لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمن؟

من هي كلثوم عودة؟
نتعرف إلى كلثوم عبر شهادتها عن دار المعلمات (السيمنار) التابعة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في بيت جالا، ولعل ما دفعها إلى تدوينها هو قراءتها كتاب "أبعد من موسكو ومن واشنطن" لميخائيل نعيمه (1889-1988)، خريج دار المعلمين في بلدتها الناصرة، حيث تحدث بالتفصيل عن السنوات التي قضاها فيها، قبل أن ينتقل إلى الدراسة الأكاديمية في مدينة بولتافا (تقع في أوكرانيا اليوم)، حيث درس نحو خمس سنوات (1906-1911). أصدر نعيمه كتابه في وقت قياسي، بعد تلبيته دعوة "اتحاد الكتاب السوفيات" صيف 1956. فقد فرغ من الكتابة في شباط/ فبراير 1957، وأرسل نسخة إلى صديقه الدمشقي المقيم في مدينة كييف توفيق كزما (1882-1958) ليترجمها إلى الروسية بهدف نشرها. إلا أن الترجمة التي انتهى منها كزما في أيلول/ سبتمبر 1957 (قبل وفاته بستة أشهر) لم تذهب إلى المطبعة، بل حظرت الرقابة طبعها ونامت في أدراج لجنة الأمن السياسي طيلة العهد السوفياتي، وهي اليوم ضمن محفوظات معهد المخطوطات التابع لمكتبة فيرنادسكي الوطنية الأوكرانية (دفاتر ت.ج. كزما، معهد المخطوطات، ملفّ 173، من 34 إلى 37). وقد تسنّى لي معاينتها سنة 2017 في كييف.

تأخرتْ كلثوم في تقديم شهادتها على صفحات "بالاستينسكي سبورنيك" (المجموعة الفلسطينية) حتى العام 1965. وتكمن أهمية مقالها "نظرة إلى الماضي"، إلى جانب حديثها التفصيلي عن الجمعية ومؤسساتها ومراحل التعليم الثلاث والمواد التعليمية...، في سردها جوانب من قصة انتفاضها على التقاليد البالية والوصم النمطي للفتاة العربية، والدافع الأساسي وراء تفوقها في الحياة. تقول: "أردت أن أصبح معلّمة، وكان هذا حلمي العزيز. حلمت أن أكسب خبزي بنفسي وألا أبقى "خادمة عند زوجة أخي المستقبلية". تكرر سماعي هذه العبارة من والدتي منذ طفولتي المبكرة. والدتي لم تكن سعيدة بولادتي.

كنت الابنة الخامسة في العائلة. رددت والدتي على مسمعي دائماً: "ومن سيتزوجك أيتها السوداء، ستبقين خادمة لزوجة أخيك طوال حياتك" (وفق التعبير المحلّي: "مين ياخذك يا سَلّولِة بتبقي كل عمرك عند مَرَتَ اخُوكِ خدّامِة"). هذه العبارة لم تأت من فراغ. في ذلك الزمن، إذا لم تتزوج الفتاة، فإنها تظل في الأسرة كخادمة. آنذاك، كانت المرأة محجبة ولم يكن بإمكانها العمل في مجال التعليم إلا في بعض الأحيان. لكن المفارقة أن الفتيات ذوات الإعاقات الجسدية أو "القبيحات للغاية" عملن معلمات بالفعل. باختصار، أولئك اللواتي لم يتزوجن وتمكنَّ من تعلم شيء ما...".

تتحدث كلثوم عن روضة الأطفال قبل المرحلة الابتدائية: "كان القبول في روضة الأطفال غير محدود، وعملتْ فيها معلمة واحدة فقط. في وقت لاحق أدركتُ مدى عبء الوظيفة التي كانت تؤديها. كانت في الروضة أكثر من 40 طفلة، تتراوح أعمارهن بين 3 و5 سنوات، وكان على المعلمة مراقبتهن وإبقائهن مشغولات. نصفهن ينام عادة على الحصير... لكن، لأنني كنت طفلة صغيرة حسدتُ تلك المعلمة، ورغبت في أن أكون مكانها. فهي تكسب المال، وبالنسبة إليّ كان هذا كل شيء. هذا ما قالوه لي. في الحياة مصادفات غريبة. كانت مديرة الروضة بعين واحدة، والمعلمة الصغرى مصابة بحب الشباب في جميع أنحاء وجهها، والكبرى لبنانية معوّقة حركياً. كنت أحدّق فيهنّ، وتتردد في ذهني كلمات والدتي باستمرار عن أنني قبيحة ولن يتزوجني أحد. لذلك قررتُ أن أتعلم وأن أكون معلمة مثلهن مهما كلفني ذلك من تعب.

كان عليّ أن أدرس وأدرس لكي ألتحق بدار المعلمات. حلّ هذا العبء على كتفي في وقت مبكر جداً. في الخامسة من عمري، غدوت بالغة في أفكاري. في أمسيات الشتاء، عندما تتجمع نساء كثيرات في منزلنا وبين أياديهن أشغالهن اليدوية، يجلسن حول مصباح الكيروسين الموضوع على حامل مرتفع، ويستمعن إلى قصص خيالية ترويها والدتي بمهارة كبيرة. يحيط الأطفال بالعمّة، وهي تشوي الكستناء فوق الشواية. تنفجر حبة كستناء، تطير وتسقط على شخص ما، فيسبب ذلك الضحك والتعجب. أما أنا، فكنت أجلس على صندوق تحت مصباح كيروسين آخر مثبت على الجدار، أراجع دروسي. أستيقظ في كثير من الأحيان في سريري، بعدما تكون عمتي الحنون قد حملتني من فوق الصندوق حيث أغفو عادة".

بعد الروضة والمرحلة الابتدائية في الناصرة "حلّ الثاني من أيلول/ سبتمبر 1900. وقع الاختيار على شقيقتي، التي درستُ معها في الفصل نفسه، لإلحاقها بدار المعلمات. لكن، لحسن حظي، لم ترغب والدتي في الانفصال عنها، وبعد الكثير من المتاعب قبلوني في دار المعلمات. لم يكن السفر من الناصرة إلى القدس مهمة سهلة في ذلك الزمن. لم تكن هناك طرق معبدة، وكنا نسير ببطء عبر الممرات الجبلية. ولم نصل إلى القدس إلا في اليوم الرابع. عادة، يتجمع عدد من المسافرين ليقطعوا الطريق معاً، ويتعين على الكبار رعاية الصغار. أمضينا الليل في الطريق، أينما اضطررنا. ولم تتوفر المياه في الطريق فإذا ما نفد مخزوننا منها كان علينا الانتظار حتى نصل إلى منطقة مأهولة أو بئر كي نشرب. مرّتْ الطريق عبر نابلس التي تقطنها غالبية من المسلمين. لا يمكن لأي امرأة أو فتاة منّا أن تكشف عن وجهها. كان أهلنا يرسلون برقيات إلى معارفهم ليلتقوا بنا وكنا نقابلهم ونحن بالنقاب الذي كنا قد ارتديناه أثناء عبورنا المدينة. على الرغم من أن صعوبات الطريق كانت هائلة، لكنها كانت ضئيلة أمام الرغبة الشديدة في التعلم التي استحوذت عليّ. وها هي بيت جالا!".

إلى جانب العلوم الكثيرة التي تلقتها كلثوم خلال السنوات الثماني في دار المعلمات، والتي تحدثت عنها بالتفصيل، وعن المناهج، تقول إن الجمعيات التبشيرية الأوروبية "كانت تسعى إلى تحويل العرب المسلمين إلى المسيحية وتتحدث بشكل حاد ضد الإسلام. ولكن في مدارس الجمعية الفلسطينية لم يفعلوا ذلك قط، بل حاولوا تعريفنا، نحن العرب المسيحيين بماضي شعبنا المجيد حتى بعد ظهور الإسلام، وعرّفونا بتاريخ أدبنا الأصيل"، وأشادت بجهود معلّمة "عرَّفتنا، نحن الفتيات العربيات، إلى تاريخ العرب... لقد حاولت، مثل جميع معلمينا ومعلماتنا، أن تغرس فينا حبّ لغتنا وأدبنا وشعبنا. ووجدتْ أنه من الممكن دراسة تاريخ الخلافة، وأن تعطينا دورة لمدة عامين حول هذا الموضوع".

المعلمة المتمردة
تخرجت كلثوم من دار المعلمات ربيع 1908، وفي خريف العام نفسه بدأت التعليم في الناصرة في مدرسة البنات التابعة للجمعية الفلسطينية، فتحول حلمها إلى حقيقة. خلال سنوات عملها معلمة، شعرت كلثوم بأهمية التسلح بالعلم وبالاستقلالية المادية التي توفر للفتاة اتخاذ قراراتها بنفسها. إلا أن العبء النفسي كان كبيراً. تقول: "كنت أعيش إذ ذاك مع رفيقة متمردة مثلي، في العمارة الروسية، حيث كانت مدرسة البنات. والسبب هو أننا كنا قد خرجنا على عاداتنا فرفضنا لبس الحجاب واضطررنا إلى مغادرة منازل أهلنا.. أمر طالما تألمت منه فذرفتُ دموعاً غزيرة". (الطريق، 1951). ولعل ما كان يسليها حبّها لعملها، تقول: "قضيت خمس سنوات بين البنات اللواتي كنت أعلِّمهن، وقد أحببتهن حباً ساعدني على أن أعيش مع كل واحدة منهن عيشتها الصغيرة، وأن أساعدهن قدر طاقتي، وقد قابلنني بالمثل فكنت أرى دائماً وجوهاً باسمة. (الهلال، 1937).

قدّر لها ان تلتقي بشخصين غيَّرا مسار حياتها.

الأول، زوجها الطبيب الروسي إيفان فاسيليف، الذي أشرف على صحّة تلميذات المدرسة، فجمع بينهما الحب، لكن أهلها رفضوا تزويجهما، وحاولوا التخلص منها "غسلاً للعار"... روت كلثوم للشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) عندما التقى بها في موسكو سنة 1957 أن بعض أفراد أسرتها العتاة طلب من أحد الشبان أن يدفعها من أعلى سطح البيت لتستريح العائله منها ومن عارها. تلك كانت مرحلة حرجة جداً من حياتها، ووقف إلى جانبها أحد أقاربها، نجيب عودة، الذي رافقها وعريسها إلى القدس فتكللا في الكنيسة الروسية في حي المسكوبية سنة 1912، ثم عادا إلى الناصرة، فرضخ الأهل للأمر الواقع. رحل الزوجان إلى روسيا بحراً عام 1914، وتزامن وصولهما إليها مع نشوب الحرب الكونية.

التحقت كلثوم بالصليب الأحمر فدرست التمريض وعملت ممرضة في صربيا والجبل الأسود، ثم انتقلت مع زوجها إلى أوكرانيا في حملة مكافحة وباء التيفوس. وفي سنة 1917 مرض زوجها ولم يطل صراعه مع المرض، فرحل تاركاً لها ثلاث صغيرات كبراهن في الخامسة وصغراهن طفلة رضيعة. لكنها لم تفقد الأمل، تقول: " توفي زوجي، فأخذتُ أربعة أفدنة لأزرعها، وكان الفلاحون يساعدونني على زرعها. نعم كنت سعيدة بهذه المناظر وأظني كنت أسعد لشعوري بأني قادرة على كل عمل. ولما كنت أمشي وراء الحصاد وأضم لفائف القمح، كنت لا أشعر بالتعب مع أني لم أعتد هذا العمل. ولا تسأل عن ضحك الفلاحين عندما كنت أجلس للراحة أو الأكل معهم كواحدة منهم. إن كل مظلوم يحنّ إلى مثله، وأنا وجدتُ القرويات مظلومات في البشرية مثل نساء العرب وأنا إحداهن". (الهلال، 1937)

الثاني، أستاذها العلامة إغناتي يوليانوفيتش كراتشكوفسكي (1883-1951)، الذي سافر مشياً برفقة حجاج من بيروت إلى الناصرة سنة 1910، فمكث في الناصرة أسبوعاً. تقول كلثوم: "كان هذا العالِم يعزينا ويشجعنا على المثابرة في عملنا مؤكداً لنا أنه لا بد من يوم تتحرر فيه المرأة العربية، وأنه لا يمكن لأمة أن تنهض ما دامت المرأة فيها مستعبَدة. وأول ما ترجمه إلى الروسية سنة 1912، هو كتاب قاسم أمين "المرأة الجديدة". ظهرت ترجمته بمقدمة شائقة عن قاسم أمين ونضاله في سبيل تحرير المرأة، وعن بوادر النهضة الأدبية الثقافية العربية العصرية. لم أفكر إذ ذاك بأن الأقدار ستطوح بي وترميني فيما بعد في الشمال النائي، وأن معرفتي به ستبقى إلى يوم وفاته". (الأديب، 1951)

في روسيا، كان اللقاء الأول في سان بطرسبورغ خريف 1914، "وكان لا يزال تحت تأثير زيارته للشرق العربي"، وحضرت كلثوم سنة 1916 مناقشة رسالته العلمية. إلا أنها كانت في أوكرانيا عشية نشوب ثورة أكتوبر 1917، تقول: "هناك فقدت زوجي الذي كان طبيباً، فرجعت عام 1924 إلى لينينغراد". لم تستسلم كلثوم تحت وطأة العوز والجوع، ولم ترجع ببناتها إلى دار أهلها، فتمسكت بهنّ كمواطنات سوفياتيات في الدولة الفتية، وتمسكت بحريتها كمرأة، واستمرت بالعيش في روسيا. تضيف: "علمت أن الأستاذ يستريح في القرم فبعثت إليه تحريراً، استلمت جواباً منه، عرض فيه عليّ تدريس اللغة العامية في جامعة اللغات الشرقية في لينينغراد. ومن ذلك الحين حتى وفاته، بقيت أعمل معه وأساعده". (الطريق، 1952)

الإنسانية الصادقة
يحفظ الباحثون في الدراسات العربية قول المؤرخة السوفياتية نتاليا لوتسكايا (1916-1984) في كلثوم عودة: "علمتنا كلثوم فاسيليفا الكثير الكثير، إذ غرست في قلوبنا حبّ الشرق وحبّ فلسطين. لقد غرست في قلوبنا حبّ الشعب الذي ناضل ولا يزال يناضل من أجل حريته واستقلاله. تعلمنا الكثير من كلثوم التي كان ينعكس في عينيها دوماً الشوق والحنين إلى الوطن الأم فلسطين... أصبحت كلثوم قدوة لجميع من عرفها". فكيف كانت حياة كلثوم في روسيا السوفياتية بعدما باتت ناشطة في حقل الدراسات العربية؟

بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، علّمت كلثوم اللغة العربية وآدابها، ودوّنت كراسات منهجية، وأصدرت كتباً تعليمية حظيت بانتشار واسع في كليات الاستشراق، وتخرج على يدها مئات الأساتذة والدبلوماسيين والباحثين. كما علّمت كلثوم الترجمة، وترجمت مع طلابها وطالباتها عدداً كبيراً من القصص العربية المعاصرة وخصّت كل كتاب بمقدمة وافية عن الأدب العربي في كل بلد على حدة. إلى جانب ذلك سافرت في بعثات علمية إلى فلسطين وآسيا الوسطى وأنتجت عدداً من البحوث الاجتماعية الشديدة الأهمية مركزة على أوضاع المرأة.

لكن كلثوم لم تَسلم من القمع الستاليني في الثلاثينيات، حيث حاولت مع زميليها مويسي ماركوفيتش آكسيلرود (1897-1940) وفلاديمير بوريسوفيتش لوتسكي (1906-1962) التحدث علناً دفاعاً عن المؤرخين المستشرقين المعتقلين، ألكسندر مويسييفيتش شامي (1891-1938) وصوفيا إيمانويلوفنا روغينسكايا (1896-1938). فألقي القبض عليهم، وقضت كلثوم بضعة شهور في المعتقل سنة 1939، وعندما أفرج عنها تحدثت بجرأة من جديد دفاعاً عن زميليها، لكنها لم تعرف آنذاك أن السلطة كانت قد أعدمت شامي وروغينسكايا قبل نحو سنة. (ضحايا الإرهاب السياسي، ملف فاسيليفا)

كانت تلك مرحلة قاسية على الأساتذة والباحثين، ففضلت كلثوم زيارة فلسطين. آنذاك أتاها الحاج أمين الحسيني زائراً، وأرادها أن تبقى لتعمل في وزارة المعارف الفلسطينية. سألته كلثوم: "ما الضمانة إذا بقيت بأن يقبل بي الانتداب البريطاني المرعوب من مجرد زيارات ويلاحقني كأنني جاسوسة؟"، فأجابها الحسيني وهو يمسك لحيته بيده: "يا ابنتي، لا ضمانة معهم حتى على هذه الذقن"، فقفلت عائدة الى روسيا. ظلت فلسطين في وعي كلثوم وقلبها، وفي ما تنتجه وما تبثّه في طلابها، كانت جريئة في التعبير عن مناصرتها القضية الفلسطينية في وجه السلطات السوفياتية التي كانت أول من اعترف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين سنة 1948، لكن السلطات لم تعتقلها من جديد.

خلال إعداد طالب الإخراج المسرحي عادل سمعان شريطاً وثائقياً عن حياة كلثوم سنة 1990، التقى بابنتها فاليرا إيفانوفنا في منزل كلثوم في لينيغراد. قالت فاليرا، التي كانت آنذاك قد تخطت الثالثة والسبعين من العمر: "الناصرة وفلسطين عموماً كانت الهاجس الدائم لأمي، حديثها عن الناصرة، عن حارة الروم، عن المسكوبية، عن العين جعلنا نحب تلك المدينة المقدسة. كذلك حدثتنا عن عادات الفلسطينيين الاجتماعية ومأكولاتهم وأعيادهم... ذلك العالم البعيد الغامض، لم يكن بعيداً وغامضاً بقدر ما كان محبوباً".

عن طفولتها في كنف والدتها، تضيف فاليرا: "ذات مرة، على أبواب عيد الفصح، كان الناس يستعدون للعيد بشراء الملابس وتحضير الطعام. أما نحن فلم يكن عندنا شيء، فصارحتنا أمنا قائلة: ليس معي ولا حتى كوبيك واحد. هذه هي حياتنا وهذا هو قدَرنا، الحياة التي نعيشها صعبة ونأمل أن تتحسن الأحوال. وفي اليوم التالي بالصدفة، وصل أمي بالبريد مبلغ مالي من مجلة تصدر في مصر مقابل مقال نشرته لها. وهكذا صار بإمكاننا أن نعيّد، مثل كل الناس". وبعد عمل كلثوم، تتذكر ابنتها: "عندما تحسنت أوضاعنا قليلاً وصارت أمي أستاذة جامعية تدرّس وتكتب وتترجم، صار وضعنا أفضل. ولكن ظلت طوال حياتها حساسة ضد الفقر والحاجة والحرمان.. كانت كثيراً ما تقتطع من معاشها المتواضع قسماً لشراء الكتب والدفاتر وأحياناً الملابس لطلابها المبْرَزين المحتاجين. الإنسانية الصادقة هي ما ميّز أمي طوال حياتها وحتى مماتها، وعندما صارت شهيرة لم تتغير، بقيت المرأة النصراوية الشرقية البسيطة المتواضعة الشريفة وذات الكرامة. التقت الوزراء والسفراء وقادة الدول وظلت كما هي". (الاتحاد، 1990)

توفيت كلثوم نصر عودة، المعروفة في روسيا باسم كلاوديا فيكتوروفنا فاسيليفا، عن ثلاثة وسبعين عاماً في 24 نيسان/ أبريل 1965، فأقيمت لها جنازة مهيبة ودفنت في مقبرة "نوفوديفيتشي" إلى جانب الأدباء والعلماء. مُنحت كلثوم وسام الشرف في عيدها السبعين، وتقلدت وسام "الصداقة بين الشعوب"، وهو أرفع وسام تمنحه السلطات السوفياتية، كما منحتها منظمة التحرير الفلسطينية "وسام القدس للثقافة والفنون والآداب" سنة 1990.

المصدر: السفير العربي