2024-09-12 06:09 م

كيف محق طوفان الأقصى الرواية الإسرائيلية بشأن فلسطين وأعاد كتابة قصة جديدة للمظلومين؟!

2024-08-19

طالب يرفع علم فلسطين وهو يتسلم شهادة تخرجه فتعج القاعة بالتصفيق من جانب زملاء الدفعة بينما يقف الطالب مبتسما ورافضا بإصرار مغادرة المسرح!

الطالب ليس في جامعة عربية بل في جامعة أمريكية هي تكساس، فمن كان يمكنه تصور هذا المشهد؟ّ!

اعتصامات ومخيمات في الجامعات الأمريكية والغربية ترفع علم فلسطين وتنتقد إسرائيل للمرة الأولى على الإطلاق بهذا الزخم والحجم والإصرار.

سيناتور أمريكي يقول لنتنياهو "كفى استهزاء بالعقول!"، في معرض تفسيره لحقيقة أن انتقاد إسرائيل وحرب الإبادة التي تخوضها ضد الفلسطينيين في غزة لا علاقة له بمعاداة السامية (أي كراهية اليهود والتحريض ضدهم بسبب الدين).

محكمة العدل الدولية تحاكم إسرائيل بتهم ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين وتصدر قرارات تدين الاحتلال وجرائمه.

المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية يطلب رسميا من قضاة المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت (إضافة إلى 3 من قيادات حماس؛ إسماعيل هنيه ويحيى السنوار ومحمد أبوضيف).

هذه الحقائق التي طفت على السطح دفعة واحدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تمثل رواية جديدة يتم تسطير فصولها في الغرب حول فلسطين وبسرعة مذهلة لأي محلل موضوعي، لماذا؟ لإن الرواية نفسها كان عنوانها في الغرب، منذ عام 1948، إسرائيل، ولم تكن تذكر فلسطين في ثناياها إلا على صورة شذرات متناثرة مرة كبعض "المارقين الإرهابيين الدمويين الكارهين لليهود" ومرة "كمشكلة بعض اللاجئين".

في هذا التقرير نرصد تنامي الرواية الجديدة التي يتم تسطيرها في الغرب بشأن فلسطين وأهلها، وتأثير وجود طلاب الجامعات تحديدا في طليعة من يسطرون هذه الرواية، فهؤلاء الطلاب هم القادة والزعماء الذين سيرسمون سياسات الغرب في المستقبل القريب، فماذا يعني ذلك كله لإسرائيل، التي كان صانعو السياسة والإعلام التقليدي يصورونها لشعوبهم على أنها "واحة الديمقراطية المسالمة والمحاطة بالوحوش من كل جانب"، لتبرير دعمها بشكل مطلق!

 

الحركة الطلابية في الجامعات الأمريكية

نبدأ فصول الرواية الجديدة عن فلسطين التي تكتب حاليا في الغرب من الحرم الجامعي، لماذا؟ لأن هذه الجامعات يخرج منها النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية التي تضع السياسات الغربية وتشكل الرأي العام تجاه الملفات والقضايا، وما يهمنا هنا هو ما يخص فلسطين بطبيعة الحال.

بدأت الاحتجاجات الطلابية منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو اليوم الذي شهد عملية طوفان الأقصى العسكرية ردا على ما يرتكبه الاحتلال من جرائم بحق الفلسطينيين دون توقف. ومع اشتداد وتيرة تلك الاحتجاجات وزيادة أعداد المشاركين فيها من بين طلاب جامعات أمريكية عريقة مثل هارفارد وييل وماساتشوسيتس وكولومبيا وغيرها، تحرك مجلس النواب الأمريكي، الذي يحظى فيه الجمهوريون بأغلبية بسيطة، رافعا عصى "معاداة السامية" في وجه المنتقدين لجرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.

لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونغرس تحركت لإجهاض الحركة الطلابية الداعمة لفلسطين، واستدعت يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2023 رئيسة جامعة بنسلفانيا ورئيسة جامعة هارفارد ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) إلى جلسة "محاسبة رؤساء الجامعات ومكافحة معاداة السامية".

أدت الضغوط إلى استقالة 2 من الثلاثة، لكن التهديدات الإدارية بحق الطلاب المحتجين لم تؤدي إلى تراجع الاحتجاجات، بل حدث العكس وانتشرت التظاهرات لتشمل أكثر من 60 كلية وجامعة، ومنها انتقلت أيضا عبر الأطلسي إلى جامعات أوروبية كبرى، والأمر نفسه وصل إلى أستراليا وكندا وغيرهما.

 

"ظاهرة" مرئية وصوت مسموع

مع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة واستمرار ارتقاء الشهداء وسيل دماء المدنيين من الأطفال والنساء والرجال، تصاعدت حدة الاحتجاجات الطلابية وتحولت إلى "ظاهرة" من المستحيل التغاضي عن وجودها وتناميها. حاولت الطبقة السياسية في الغرب (صناع القرار) احتواء الطلاب عبر شتى السبل والأدوات؛ الترهيب تارة بوصف المحتجين بأنهم معادين للسامية والترغيب تارة بعقد اجتماعات هدفها امتصاص الغضب، لكن فشلت المحاولات واستمرت التظاهرات وتمددت واتخذت أشكالا اعتصامية غير مسبوقة.

جاءت مرحلة نصب الخيام في الحرم الجامعي وتغيير أسماء بعض الأماكن إلى "المنطقة المحررة" أو "ساحة الشهداء" (جامعة كولومبيا)، لتبدأ مرحلة "القمع الخشن" من جانب قوات الأمن الأمريكية (التي لا يسمح لها قانونا بالتواجد في الحرم الجامعي إلا بطلب من إدارة الجامعة أو المؤسسة التعليمية). كان لرئيسة جامعة كولومبيا نعمت مينوش شفيق السبق في استدعاء الأمن لفض الاعتصام في الحرم الجامعي، ونتج عن ذلك اعتقال أكثر من 100 طالب، لتكون هذه الخطوة بمثابة سكب الوقود على نار مشتعلة.

انتقلت عدوى المخيمات إلى باقي الجامعات الأمريكية، والغربية عموما، وأصبحت صور ومقاطع "العنف الأمني" والاعتقالات حاضرة على مدار الساعة، وخرجت تهديدات رسمية بترحيل الطلاب الأجانب المشاركين في الاحتجاجات، لكن كل تصعيد من جانب السلطات قابله تصعيد وتحد من جانب الطلاب واتساع لرقعة الاحتجاجات وأعداد المشاركين فيها، لتتحقق بعض المطالب الطلابية مثل "مناقشة وقف الاستثمارات مع إسرائيل" من جانب بعض إدارات تلك الجامعات.

لكن حتى مع اقتراب العام الدراسي من نهايته وعودة الطلاب إلى منازلهم، هناك إصرار من جانب تلك الحركة الطلابية على الاستمرار حتى تحقيق المطالب، والمطالب كلها ضد إسرائيل ولصالح فلسطين. "لا أتوقع أبدا أن الأمور ستهدأ. فعلى مستوى البلدات والولايات وعلى المستوى القومي، يوجد الآن ضغط ملموس على السياسيين كي يستجيبوا لفلسطين، وهناك الكثير الذي يمكن أن يحدث من الآن وحتى نوفمبر/تشرين الثاني (موعد الانتخابات الأمريكية) وأتمنى أن يكونوا (السياسيين) منتبهين لهذه الحقيقة المؤكدة"، بحسب ما قاله إيمبر ماكوي، طالب الدكتوراة في جامعة ميشيغن وأحد المحتجين لمجلة بوليتيكو الأمريكية (15 مايو/أيار).

ائتلاف "هارفارد خارج فلسطين المحتلة"، الذي نظم احتجاجات على مدى أشهر لإجبار الجامعة الأمريكية التي يبلغ وقفها أكثر من 50 مليار دولار إلى سحب استثماراتها من الشركات التي لها علاقات مع إسرائيل، تعهد "بإعادة تجميع صفوفه ومواصلة هذا النضال الطويل بوسائل أخرى".

وجاء في منشور على إنستغرام: "لا تساورنا أي أوهام. لا نعتقد بأن هذه الاجتماعات تمثل نصرا فيما يتعلق بسحب الاستثمارات (من الكيانات ذات الصلة بإسرائيل). تهدف هذه الصفقات الجانبية إلى تهدئتنا دون الكشف الكامل عن الاستثمارات وسحبها. اطمئنوا، فلن يصلوا إلى مبتغاهم".

 

الأجيال الجديدة من الفلسطينيين في الغرب

ماذا حدث في الغرب؟ وكيف ولدت حركة طلابية بهذا الحجم والتأثير تتمرد على الرواية التقليدية بشأن إسرائيل والفلسطينيين؟ تلك الرواية التي سطرت فصولها على مدى أكثر من 7 عقود، منذ زرع إسرائيل بقرار صادر عن الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين. رواية عنوانها "إسرائيل دولة اليهود واحة الديمقراطية" على أرض "بلا شعب".

منذ اللحظة الأولى لإعلان تأسيس إسرائيل في مايو/أيار 1948، لم تتوقف الحروب في الشرق الأوسط ولم يكف جيش الاحتلال يده الغليظة عمن تبقى من الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، بعد تهجير غالبية الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين في القدس والضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان وسوريا، ولجأ بعضهم إلى الغرب.

على الرغم من عدم احترام إسرائيل لقرار التقسيم واستمرار استراتيجيتها الممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني وابتلاع أراضي فلسطين كلها، وجدت إسرائيل دائما دعما وتعاطفا غربيا لا يتزعزع. أما الأسباب فهي التحكم المطلق في دوائر صنع القرار على جانبي الأطلسي (أوروبا والولايات المتحدة)، وامتلاك الإعلام التقليدي من جانب اللوبي اليهودي الغني والمؤثر، فشخص مثل روبرت ميردوخ كان يمتلك في وقت من الأوقات 33% من وسائل الإعلام في الغرب (من أستراليا إلى أمريكا مرورا بأوروبا).

ساهم ذلك في تسطير الرواية الأكثر مبيعا لدى الرأي العام الغربي، وكان لما تعرض له اليهود من محرقة نازية سبقها اضطهاد أوروبي وغربي لهم تأثير ضخم في تعميق هذا التعاطف مع تلك الدولة "المحاطة بالوحوش العرب الساعين إلى الإلقاء بها في البحر"، وهكذا امتلكت إسرائيل "قدسية لدى الغرب" باتت لها غطاء وسندا.

مرت السنوات والعقود وولدت أجيال جديدة لأباء وأجداد هجروا من فلسطين أو أصولهم عربية ومسلمة، التحق بعضهم بالجامعات الأمريكية والغربية بحثا عن مستقبل أفضل. جنبا إلى جنب مع طلاب تربوا على "الرواية القديمة لإسرائيل" وكان من الطبيعي أن يحدث الاحتكاك وتجري المقارنات، ليلقى حجر في المياه الراكدة.

جنين نصيري، ملاكم فلسطيني بريطاني (أحد الأجيال الصغيرة)، لم يطأ قدما على أرض وطنه الأم، لكنه لا يشارك في أي مباراة دون أن يرفع علم فلسطين. جنين فقد 38 من عائلته حيث استشهدوا في الحرب الإسرائيلية على غزة، بحسب مقطع فيديو منتشر له على تيك توك، بدأه برسالة على طريقة المصارعين "You messed with the wrong people وما يقصده هنا هو لقد أخطأتم بالعبث مع الفلسطينيين".

الاف من الفلسطينيين والعرب والمسلمين من الجيل الثالث والرابع تربوا في الغرب وحملوا فلسطين في عقولهم وقلوبهم فكانوا مؤثرين في أقرانهم من الأجيال المماثلة في الغرب، وساعدت وسائل الإعلام غير التقليدية وغير الخاضعة للتوجيه والرقابة بنفس قدر وسائل الإعلام التقليدية، فكان لذلك تأثيرا مباشرا على إعادة النظر في الأكاذيب الإسرائيلية والأساطير التي غذت الرواية الراسخة في أذهان الغرب عن فلسطين وطبيعة الصراع فيها.

 

الإعلام الرقمي وتأثيره

كان لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسحبه البساط شيئا فشيئا من تحت أقدام وسائل الإعلام التقليدية دور كبير أيضا في "تآكل أركان الرواية القديمة بشأن إسرائيل"، وبداية تسطير فصول رواية "فلسطين" في الغرب. فالأجيال الصغيرة (جيل الألفية وجيل زد وما تلاهما) أصبحت أكثر انفتاحا على حقائق ووجهات نظر لم تكن متاحة لأبائهم وأجدادهم، أو على الأقل لم تكن متاحة بتلك الغزارة، ليبدأ رأي عام طلابي مغاير للرواية التقليدية يتشكل شيئا فشيئا.

ليون أورلوف-سوليفان طالب في سيتي كوليدج بنيويورك نموذج لهذه الأجيال الجديدة، فكيف يرى هذا الطالب (اليهودي) معاداة السامية والربط بينها وبين انتقاد الحرب الإسرائيلية على غزة؟ "أنا طالب يهودي لذا يمكنني الحديث عن هذه النقطة (معاداة السامية) من خلال تجربتي الشخصية، رغم أنني لا أرتدي رموزا دينية ولست متدينا. لكنني أعرف كثير من الطلاب في الجامعة. لم أسمع شخصيا أي شيء يمثل معاداة للسامية ولم أسمع أحدا يشير إلى خلفيتي الدينية".

أورلوف-سوليفان واحد من كثيرين من اليهود شاركوا بفعالية في الحركة الطلابية ودشنوا وسم "ليس باسمي #not-in-my-name" رفضا للجرائم التي ترتكبها حكومة وجيش الاحتلال بحق الفلسطينيين، وهذه أحد المشاهد التي تقول الكثير عن هذا التغيير الجذري الذي تشهده نظرة الغرب لما يجري على الأراضي الفلسطينية بعد عقود طويلة من انفراد إسرائيل بكتابة فصول الرواية.

التفسير الإسرائيلي نفسه لخسارة معركة الرواية يشير إلى طبيعة منصات التواصل الاجتماعي. فهذه المنصات تختلف بشكل جذري عن وسائل الإعلام التقليدية بأنواعها (الصحف والراديو والتلفزيون وحتى المواقع الإخبارية الرقمية)، والاختلاف يتركز في مسألة التحكم في المحتوى المنشور وسرعة الوصول للجمهور.

هذا الاختلاف يفسر إلى حد كبير ما تشهده الدول الغربية منذ بدأت الحرب على غزة من تحول شعبي لافت في الموقف العام من الصراع على أرض فلسطين. فالأجيال الأصغر سناً (جيل الألفية وجيل زد وما يليهما) أكثر رفضاً للرواية الإسرائيلية وأقل ميلاً لتصديقها حتى في ظل التهديدات بعصا معاداة السامية.

فبعد عقود من إشهار إسرائيل لسيف "معاداة السامية" في وجه العالم عموماً، والغرب خصوصاً، وعلى الرغم من قمع الشرطة الأمريكية للطلاب واعتقال المئات وتهديدات بالترحيل ضد الأجانب، إلا أن الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية لا تتراجع أو تخفت، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة بشأن ما إذا كانت أداة الترهيب الأولى من جانب السلطات والإعلام هناك، أي وصم التظاهر ضد إسرائيل بأنه معاداة للسامية، قد بدأت تفقد حدتها. ("معاداة السامية".. قصة "ابتزاز العالم"هذا التقرير يفصل معاداة السامية وتوظيف إسرائيل لها لإرهاب العالم وكيف فقدت هذه الأداة).

 

إسرائيل "خسرت" المعركة الرقمية

منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 23023، حشدت إسرائيل متطوعين ومبادرات منظمة بهدف الترويج لروايتها الخاصة والانتصار في معركة العقول والقلوب عالميا، جنبا إلى جنب مع حرب الإبادة التي تشنها على الأرض في غزة.

لكن بعد نحو 8 أشهر من الحرب، ماذا حققت إسرائيل؟ خسرت المعركة الرقمية وانتهى الأمر، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس وصف الأمر بأن تل أبيب "خسرت معركة السوشيال ميديا"، أي الرأي العام العالمي على منصات التواصل الاجتماعي.

تقرير الصحيفة العبرية ركز على ما وصفها بأنها "مزاعم زائفة" ويعتبر ذلك أحد أسباب ضعف الموقف الإسرائيلي في الحرب الرقمية. "كثيرون في إسرائيل يعتبرون المنشورات (التي تفضح الجرائم الإسرائيلية) ليست إلا دعاية كاذبة مصممة بغرض تحويل الرأي العام العالمي لينقلب على إسرائيل في الحرب على غزة".

منصة تيك توك، التي توصف بأنها صينية عكس المنصات الكبرى الأخرى مثل فيسبوك وإكس التي لا توصف بأنها أمريكية، لعبت أيضاً دوراً في إلحاق الهزيمة غير المسبوقة بالرواية الإسرائيلية في الحرب الرقمية، بحسب الصحيفة العبرية.

لكن، حتى هذا الطرح الذي لا يخلو من المغالطات الفاضحة، بحسب الداعمين للرواية الفلسطينية، ليس هو السبب الوحيد في خسارة إسرائيل للحرب الرقمية في الحرب على غزة. إذ نقلت الصحيفة عن باحثين ونشطاء وخبراء في منصات التواصل، وصفتهم بأنهم يعملون على التصدي للأخبار الكاذبة، قولهم إن هناك جانباً آخر في القصة؛ فشل إسرائيل الذريع في حملتها الدبلوماسية، وهو الفشل الذي وقع رغم وجود تحذيرات سابقة من إمكانية حدوثه.

 

محكمة العدل والمحكمة الجنائية

هذه المشاهد الطلابية والشعبية بالضرورة لم تأت بمعزل عن المشهد السياسي وتجلياته الدبلوماسية غير المسبوقة. وكما يقول المثل العربي "المصائب لا تأتي فرادى"، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة إعصار دبلوماسي يهدد بتحويلها إلى "دولة مارقة" بتوصيف النظام العالمي نفسه الذي زرعها على أرض فلسطين ووفر لها الحماية المطلقة حتى ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول (طوفان الأقصى).

رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية" بحق الفلسطينيين في غزة. وأرسلت إسرائيل فريقا قانونيا لتدافع عن نفسها، لكنها خسرت الجولة الأولى في يناير/كانون الثاني 2024، والجولة الثانية في مايو/أيار، وأطبق عليها قفص الاتهام بلا فكاك. سابقة تاريخية لم يكن أحدا في إسرائيل ولا الغرب الداعم يتصور أن تحدث، لكنها حدثت!

أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه طلب من قضاة المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهم ارتكاب إبادة جماعية، والأمر نفسه بحق ثلاثة من قيادات حركة المقاومة الفلسطينية حماس هم إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف.

لا شك أن إصدار مذكرة اعتقال بحق 3 من قيادات حماس، على عبثيته في المطلق، لا يمثل مفاجأة ولا تغييرا في الموقف الغربي من قيادات المقاومة، فهم يوصفون بأنهم "إرهابيين". لكن صدور مذكرة اعتقال بحق كبار المسؤولين في دولة الاحتلال هو سابقة "مفزعة" بالنسبة لهم، أفقدتهم صوابهم تماما وقلبت موازين صراع كانوا قد حسبوه "محسوما" قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

فقد خلق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية واقعاً جديداً لإسرائيل، ويمكن أن ينتهي بشكل سيئ. إذ أن إسرائيل ليست روسيا، وسوف تؤثر العقوبات الغربية التي باتت على الأبواب على كل جانب من جوانب الحياة هنا، بنص تقرير لصحيفة هآرتس بافتتاحيتها الثلاثاء 21 مايو/أيار 2024 كتبها الصحفي والمحلل السياسي والعسكري البارز عاموس هرئيل.

فطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع يضع إسرائيل في واقع دبلوماسي لم تواجهه من قبل قط. فهو على المدى القصير، وللمرة الأولى، يعرض القيادة الإسرائيلية لخطر تهديد دولي حقيقي في أعقاب قرارها مواصلة الحرب على غزة.

وعلى المدى الطويل، إذا صدرت أوامر الاعتقال، فقد نجد أنفسنا داخل انهيار دبلوماسي لإسرائيل، مع ما قد يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى على العلاقات الاقتصادية والعلمية والتجارية، وعلى مجالات أخرى أيضاً. إن هذه الخطوات ضد إسرائيل في خضم الحرب غير مسبوقة، وهي تعرض بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت لخطر التسليم في حالة قيامهما بزيارة الدول الأعضاء في المحكمة.

 

إجماع دولي على "إقامة الدولتين"

في الوقت نفسه، لم يعد "حل الدولتين" مجرد شعار يرفعه الرؤساء الأمريكيون ذرا للرماد في العيون، حيث شهدت التحركات الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة وفي العواصم الغربية – باستثناء واشنطن ولندن حتى الآن – نشاطا مكثفا لتحويل الشعار إلى واقع عبر "الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين المستقلة".

وكان يوم الأربعاء 22 مايو/أيار يوما مشهودا في هذا المضمار، حيث أعلنت إسبانيا والنرويج وأيرلندا رسميا الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وحددت الدول الثلاث يوم 28 مايو/أيار لدخول الإعلان حيز التنفيذ. الدول الثلاث أعضاء في الاتحاد الأوروبي، والمؤشرات جميعها تصب في اتجاه انضمام دول الاتحاد تباعا لهذا المسار، ففرنسا كانت قد أعلنت عن نيتها القيام بهذه الخطوة بالفعل.

"بعد الاتفاق بين حزبي الائتلاف الحكومي وتحقيقا لرغبة الشعب الإسباني، قررنا الاعتراف رسميا بدولة فلسطين المستقلة"، هكذا وقف رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو شانثيز ليعلن أمام البرلمان في مدريد، وسط عاصفة من تصفيق النواب.

ماذا يحدث في الغرب؟ ومن كان يتصور أن تنقلب الأمور بهذه الصورة؟ جن جنون زعماء إسرائيل ووزراء حكومتها الأكثر تطرفا ويمينية في التاريخ. فمندوبها لدى الأمم المتحدة مزق الميثاق الأممي بشكل هستيري ومنفلت، اعتراضا على تصويت الجمعية العامة لصالح قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في المنظمة الأممية، بموافقة 143 دولة. الميثاق الذي مزقه المندوب الإسرائيلي هو نفسه الذي على أساس قراراته زرعت إسرائيل على أرض فلسطين قبل 76 عاما، فكيف انقلب السحر على الساحر بهذه الطريقة؟!

أعلنت إسرائيل على الفور سحب سفرائها لدى إسبانيا والنرويج وأيرلندا للتشاور، وأعلن وزير الدفاع غالانت إلغاء قانون "فك الارتباط" لعام 2005، ليمهد الطريق إلى عودة المستوطنات التي كان قد تم تفكيكها في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما أعلن وزير المالية سموتريتش عن وقف تحويل أي أموال ضرائب إلى السلطة الفلسطينية (بموجب اتفاقيات أوسلو). ولم تتوقف التصريحات الهستيرية ولا القرارات الاستفزازية، في دلالة على فقدان "كيان الغرب المدلل" صوابه واتزانه للمرة الأولى على الإطلاق.

 

توسع مطالبات وقف تصدير السلاح

أما على مستوى الدعم العسكري، فعلى الرغم من استمرار تدفقه من الغرب، وبخاصة أمريكا، إلى إسرائيل بهدف مساندة جيشها الفاشل في تحقيق أي من أهدافه العسكرية في غزة رغم الإمعان في التنكيل بالمدنيين، إلا أن المطالبات بوقف إرسال الأسلحة إلى الاحتلال باتت تتسع بشكل غير مسبوق أيضا.

وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أعلن (يوم 17 مايو/أيار) أن بلاده لن تسمح للسفن التي تحمل أسلحة لإسرائيل بالرسو في موانئها، وذلك بعد أن رفضت إسبانيا السماح لسفينة بالرسو في ميناء قرطاجنة بجنوب شرق البلاد. وأضاف ألباريس أن السفينة كانت أول سفينة تُمنع من الرسو في ميناء إسباني، مشيرا إلى أن الرفض يتسق مع قرار الحكومة بعدم منح تراخيص لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لأن إسبانيا "لا تريد المساهمة في الحرب".

صحيح أن قرار بايدن "تعليق" شحنة أسلحة إلى إسرائيل لا يمثل أي تغيير حقيقي في الدعم الأمريكي العسكري، لكن تحول تل أبيب من "حليف استراتيجي" إلى "عبء" على واشنطن يهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وحول العالم بات حقيقة لا يمكن إنكارها، حتى وإن كان أغلب المحللين الأمريكيين يحصرون الخلافات في شخص نتنياهو وحكومته المتطرفة.

وفي هذا الإطار، كانت صحيفة Haaretz الإسرائيلية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن مناقشة إنهاء المساعدة العسكرية الأمريكية لإسرائيل بات يحظى بشعبية متزايدة في الأوساط الأمريكية، وهو تحول جذري، فأي حديث يندرج تحت بند "الانتقاد" لتل أبيب كان يؤدي بصاحبه إلى "مقصلة" اللوبي اليهودي الأقوى في واشنطن على الإطلاق.

 

"فتور" دعم إسرائيل بين يهود أمريكا

كان هذا قبل الحرب على غزة بشهرين، حيث أذاعت محطة الشبكة التلفزيونية الأمريكية PBS مناظرة بين سفير أمريكي سابق لدى إسرائيل ومسؤول كبير في البيت الأبيض ناقشا خلالها إن كان الوقت قد حان لوقف الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. وباتت القضية التي كان يُعتقد في السابق أنها تحظى بإجماع شامل في السياسة الأمريكية موضوعاً مثيراً للجدل في واشنطن.

وقبل 3 سنوات، كان دبلوماسي إسرائيلي سابق في الولايات المتحدة الأمريكية يدعى ناداف تامير، قد سلط الضوءَ على ما يعتبره ظواهر متنامية لانتقاد إسرائيل داخل الأروقة السياسية الأمريكية، بالإضافة إلى التراجع في حماس بعض يهود أمريكا، لا سيما في أوساط التقدميين والليبراليين الشباب، عن الدعم الذي كان مطلقاً ذات يوم لإسرائيل.

ناداف، الذي شغل لسنوات عديدة منصب القنصل العام الإسرائيلي في مدينة بوسطن الأمريكية، وكان مستشاراً للسياسة الخارجية لدى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، كان قد حذر في مقالة له نشرتها صحيفةThe Jerusalem Post الإسرائيلية، مما أسماه "تحوُّل هذه الانتقادات، مع إصرار إسرائيل على نهجها، من مجرد ظاهرةٍ متنامية إلى تيار سائد في الولايات المتحدة الأمريكية"، التي تعتبر أهم وأكبر حاضنة دعم بالنسبة لإسرائيل.

الآن وقد جرت في النهر مياه كثيرة للغاية ومع التدحرج المتسارع جدا لكرة الثلج التي تحمل رواية فلسطين الجديدة، من يمكنه الجزم بما قد يحدث خلال المستقبل القريب جدا؟!

فطلاب الجامعات الذين أشعلوا الحرم الجامعي باحتجاجاتهم – على غرار ما فعلوا أثناء حرب فيتنام والنضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا – يمثلون الفئة التي منها يتخرج قادة الغرب السياسيين والاقتصاديين والإعلاميين، وهو ما يشير إلى أمرين غاية في الأهمية.

الأول هو أن السوابق التاريخية لمثل هذا النوع من الحراك قد نجحت – بعد نضال استمر لسنوات – في إحداث تغيير في السياسة الأمريكية؛ في المرة الأولى انسحبت واشنطن من فيتنام وفي الثانية قطعت الجامعات العلاقات الأكاديمية والاستثمارية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وتغير موقف واشنطن السياسي من القضية في نهاية المطاف. وبالتالي فمن الوارد أن ينجح الحراك الطلابي هذه المرة أيضا في تغيير السياسة الأمريكية تجاه الصراع في فلسطين، حتى وإن استغرق الأمر سنوات.

أما الأمر الثاني فهو أن هؤلاء الطلاب سيكون منهم صناع السياسة وقادة الاقتصاد والرأي العام (وهؤلاء من يصيغون السياسة الخارجية في الغرب عموما وفي أمريكا بصفة خاصة)، وبالتالي سيصل هؤلاء إلى مراكز القيادة حاملين معهم أفكار عن إسرائيل مختلفة بشكل جذري عما يعتنقه القادة الحاليون.

 

التضحيات.. أصل القصة وعنوانها

هذه الرواية الجديدة لم تكن لترى النور لولا صمود الفلسطينيين وتمسكهم بحقوقهم المشروعة في وطنهم، ولولا التضحيات التي تعجز الكلمات عن وصفها مهما كانت بليغة. وعلى الرغم من أن فصول التضحيات والصمود لم تتوقف يوما، إلا أن ما بعد طوفان الأقصى هو الفصل الأهم على الإطلاق في كتاب التضحيات أو رواية فلسطين بشكل عام، لماذا؟

دعونا نستذكر معا يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (اليوم السابق لطوفان الأقصى) وأين كانت فلسطين من العالم؟ وأين كان العالم من فلسطين؟ كان العالم مشغولا بالحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الملفات مثل التغير المناخي والحرب الباردة الجديدة بين الغرب بقيادة أمريكا والشرق بزعامة الصين وملفات أخرى قد لا تجد لفلسطين فيها ذكر من الأساس.

كانت إسرائيل تعيش على وقع انقساماتها الداخلية وعلاقاتها التطبيعية في المنطقة وتتوسع في ابتلاع الأراضي الفلسطينية المتبقية في القدس الشرقية والضفة الغربية بينما تواصل حصارها المطلق على قطاع غزة، وتسعى حكومتها الأكثر تطرفا إلى تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى دون أدنى خشية من رد فعل غربي أو عربي. انتهت القضية الفلسطينية أو كادت، هكذا تصورت إسرائيل وداعميها الغربيين.

وانصبَّ التركيز المحوري لسياسة جو بايدن على التطبيع العربي-الإسرائيلي، وهي الفكرة التي ورثها عن إدارة دونالد ترامب واعتنقها بكل حماس. قضى فريقه ساعات طويلة في محاولة إبرام صفقة ثلاثية تشهد اعتراف السعودية بإسرائيل وانضمامها إلى اتفاقيات أبراهام. وتفاخر جيك سوليفان، مستشار بايدن للأمن القومي بأن "الشرق الأوسط صار أكثر هدوءا مما كان عليه خلال عقود".

وحتى عندما تولت الحكومة التي يرأسها بنيامين نتنياهو وتوصف بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال المسؤولية، أرسل بايدن وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلى المنطقة للضغط على تل أبيب في ملف المستوطنات، بعد الإعلان عن خطط لتوسيعها وشرعنة المزيد منها؛ وذلك تفادياً لانفجار الموقف ليس إلا.

خلال هذا الوقت، كانت الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين عرض مستمر، وارتقاء الشهداء من الأطفال والنساء والرجال لا يتوقف، وابتلاع الأراضي الفلسطينية وتهجير سكانها بالقوة ليحل محلهم مستوطنات جديدة أمر روتيني، وبات اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه من جانب غلاة المتطرفين اليهود وممثليهم في الكنيست والحكومة أمرا معتادا.

لكن جاء طوفان الأقصى وإلحاق أكبر هزيمة عسكرية بجيش الاحتلال على الإطلاق وما تلاه من عدوان همجي بهدف الإبادة الجماعية للفلسطينيين ليهز العالم أجمع ويعيد التأكيد على أنه لا سلام في هذه المنطقة ولا في العالم إلا بحصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة غير منقوصة. نعم، ما كان لهذه الرواية الجديدة أن تسطر في الغرب دون هذه التضحيات المؤلمة والصمود الأسطوري للفلسطينيين، فالمحتل وداعميه والعالم أجمع لا يعير انتباها للضعفاء أو من "يستجدون حقوقهم" عبر مفاوضات عبثية لا طائل من ورائها كما حدث في "أوسلو" قبل أكثر من عشرين عاما.

المصدر: عربي بوست