2024-11-22 06:37 م

ماذا خلف كلمات محمود عباس: “جاهزون لليوم التالي”؟

2024-08-16

ردًا على استضافة الكونغرس الأمريكي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 25 يوليو/تموز الماضي، والتي عدتها تركيا استضافةً لمجرم حرب ارتكب ويرتكب الإبادة الجماعية في قطاع غزة ويداه ملطخة بدماء الأبرياء الفلسطينيين، وأنه حصل على تفويض من الكونغرس الأمريكي بارتكاب المزيد من المجازر بحق الفلسطينيين وتوسيع رقعة الصراع، تداعى البرلمان التركي لتوجيه دعوة إلى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، لزيارة البرلمان وإلقاء كلمة عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفع الصوت الفلسطيني عاليًا.

لبى أبو مازن الدعوة لجلسة 15 أغسطس/آب الاستثنائية للبرلمان التركي في العاصمة التركية إسطنبول، واستقبل بحفاوة كبيرة جدًا، فيما حرص منظمو الجلسة على أن يكون في مدخل البرلمان معرض صور للشهيد إسماعيل هنية، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، الذي وضعت صورته في السطر الأول من مقاعد البرلمان، وحمل أعضاؤه صورًا متعددة للشهيد الراحل طوال الجلسة التي شهدت تصفيقًا كبيرًا من أعضاء البرلمان، في مشهد يبدو واضحًا فيه أنه جاء انسجامًا مع رسالة الجلسة ردًا على مشهد الكونغرس الأمريكي.

كان خطاب رئيس السلطة الفلسطيني، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وحركة فتح، محمود عباس، ناريًا على غير العادة، محمّلًا بالعديد من رسائل التحدي والمواجهة بعد أكثر من 11 شهرًا من حرب الإبادة على قطاع غزة كان فيها الرئيس الفلسطيني الشخصية الأكثر غيابًا والأقل تأثيرًا على مسرح الأحداث، في وقت لا تتركز فيه جرائم الاحتلال فيما يجري في قطاع غزة من إبادة جماعية فحسب، بل أيضًا في الضفة الغربية التي تُعد مركز سلطة الأخير، والتي لم يمر فيها يوم دون حملة عسكرية لجيش الاحتلال واعتداءات متوسعة لقطعان المستوطنين، دون أن يكون للسلطة دور في التصدي لها أو مواجهتها، ما يحولها إلى سلطة دون سلطة.

ما بين الانسجام مع الموقف التركي والرسائل ما بين السطور
حرص رئيس السلطة على أن يتضمن خطابه ما يمكن أن يلبي به الغرض من الجلسة، وما يتجنب فيه استفزاز الحضور من النواب الأتراك والمدعوين إلى الجلسة من ممثلي الأحزاب والبعثات الدولية والفئات المتنوعة، بمن فيهم جرحى قطاع غزة الذين يتلقون العلاج في تركيا.

وبالتالي، فقد تضمن خطابه النمط المعتاد للحديث في التاريخ عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه، وأفرد مساحة كبيرة للجمل ذات التعبيرات الدينية والإشادة بالدور التركي الداعم للقضية الفلسطيني وقرارها الانضمام إلى قضية محاكمة “إسرائيل” بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.

لم يكن لأبو مازن ألا يُقدم في خطابه بضع فقرات تُحقِق الـ”show” المطلوب، جذبًا للتصفيق من النواب الأتراك والمشاركين في الجلسة، الذين كانوا جاهزين مسبقًا لتلبية هذا المشهد، ردًا على ما جرى في الكونغرس الأمريكي، وتأكيدًا لدعم الشعب الفلسطيني وقضيته.

كرر أبو مازن، ومن منصة البرلمان التركي على نحو التحديد، الحديث عن وحدانية التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية وولايتها السياسية على الأراضي الفلسطينية كافة، في رسالة ضمنية أراد بها تأكيد أن غياب سلطته عن قطاع غزة لا يعني قبوله بتجاوزها سواءٌ في محادثات وقف إطلاق النار، بما فيها الجارية حاليًا في العاصمة القطرية الدوحة، أو محادثات مستقبل قطاع غزة والنظام السياسي الفلسطيني.

هدفت الرسالة حول التمثيل السياسي الفلسطيني أيضًا إلى لمز الانفتاح التركي على القوى والفصائل الفلسطينية مباشرة واستضافتها لجزء من قيادة حركة حماس، والسماح بإجراء لقاءات فصائلية على أرضها، كان أبرزها اللقاءات التي أجراها الراحل الشهيد إسماعيل هنية مع قادة فصائل المقاومة قبل أشهر، وهو ما لا يحبذه أبو مازن ولا لجنته التنفيذية في منظمة التحرير الذين يرون أنه يجب أن ينحصر التمثيل الفلسطيني والعلاقة السياسية وعلاقات الدول والأنظمة الرسمية مع هذه البوابة فسحب.

الجهوزية لـ”ليوم التالي”
اختار أبو مازن كلماته بعناية، فإلى جانب التمسك المعتاد ببرنامجه السياسي والمقاومة السلمية وتأكيد قرارات “الشرعية الدولية”، تحدث عن العنوان الأهم الذي يُطرَح بلا إجابة حاسمة منذ الشهر الأول لحرب الإبادة على قطاع غزة، وهو سيناريوهات “اليوم التالي” في غزة.

وقد قال: “إن قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية هي وحدة جغرافية واحدة تشكل الدولة الفلسطينية المستقلة، حسب الشرعية الدولية، التي تحكمها حكومة شرعية واحدة، ودون تحقيق ذلك وتجسيد هذه الدولة الفلسطينية والاعتراف بها، فلن تنعم هذه المنطقة بالأمن والاستقرار والهدوء والتنمية والسلام، وستبقى تدور في هذه الدوامة من العنف والعنف المضاد.. الطريق إلى السلام والأمن يبدأ من فلسطين وينتهي إلى فلسطين”.

من حيث النص والخطاب، لا يختلف موقف الرئيس الفلسطيني عن مواقف القوى والفصائل الأخرى، بما فيها مواقف قوى المقاومة وفي مقدمتها حماس، التي تتمسك جميعًا برفض التجزئة والتقسيم للشعب الفلسطيني.

إلا أنه في المضامين فالخلاف كبير، فهدف رئيس السلطة الفلسطينية تأكيد أن لا سيناريوهات لـ”ليوم التالي” دون أن تكون سلطته ومنظمته ممرًا إجباريًا لهذه الترتيبات، وأن حكومته المعيَنة حديثًا (خارج الإجماع الوطني) هي الجاهزة لتتولى زمام السيطرة والولاية على الأراضي الفلسطينية كافة الواقعة تحت نطاق السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

يُرسل رئيس السلطة رسائل متعددة، في جزء رئيسي منها إلى أنظمة عربية، وعلى نحو الخصوص الإمارات المتحدة التي تتحرك بفاعلية في قطاع غزة وجهود الإغاثة المستثمرة في خصم الرئيس عباس وحليفها محمد دحلان الذي يتولى تياره إدارة هذه المساعدات، معزِزًا نفوذه في القطاع، لا سيما مع وجود خط تواصل ساخن بينه وبين حركة حماس، مع الحديث عن استعداده لتقديم رؤية لإدارة القطاع بدعم إماراتي تحدثت مصادر إعلامية عبرية عن رغبة نتنياهو في أن يكون أوسع وأكثر تأثيرًا وفاعلية.

تغليف العودة إلى غزة بثوب الفدائيين
شكل إعلان عباس أنه سيتوجه إلى قطاع غزة مع “جميع أعضاء القيادة الفلسطينية”، والدعوة الى “تأمين وصولهم إليها” العنوان الأبرز للخطاب، والنقطة التي عُدَت إضافةً عن الخطابات المُستهلكة لرئيس السلطة الفلسطينية، خصوصًا أن هذا الإعلان الفريد من نوعه لم يصدر عن الرئيس طوال سنوات الانقسام منذ غادر القطاع في العام 2007.

في الظاهر، يبدو الإعلان كأنه خطوة كبيرة يتجه إليها رئيس السلطة، لكن الواقع أن الرئيس يعطي إشارات واضحةً حول استعداده لأن تستلم السلطة تحت رئاسته السيطرة الأمنية والحكومية على قطاع غزة، والاستعداد العلني لأن يُشرف شخصيًا على أن تقوم السلطة بدورها في “اليوم التالي” في القطاع.

تتقاطع مضامين ما وراء إعلان رئيس السلطة الفلسطينية مع مجموعة خطوات اتخذها في محاولة أن ينتج ما يتناسب معه من سيناريوهات “اليوم التالي”، دون أن يضطر إلى إخضاعها لا لحسابات التوافق الوطني، ولا لضغوطات الدول العربية، حليفة له كانت أو على خصومة، خاصةً السعودية والامارات، إذ عمد إلى قطع الطريق أمام مطالبات هذه الدول والمتقاطعة مع الولايات المتحدة بضرورة أن يكون ثمة “سلطة مُتجددة” في أن يُدخِل تجديدات تطال مفاصل العمل الحكومي وبتشكيلة حكومية جديدة يقودها محمد مصطفى، دون أن يطال هذا التجديد لا رئاسته ولا فريقه المصغر في “القيادة الفلسطينية” واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

بعد يوم من تصريح عباس، أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، محمد مصطفى، أن حكومته أعدت “الخطط اللازمة” من أجل العمل في قطاع غزة في “اليوم التالي” للحرب، وأنها جاهزة لاستلام زمام الأمور وتوحيد المؤسسات الحكومية، بما فيها المعابر، ما يؤكِد أن رئيس السلطة وفريقه يعملون على وصفتهم الخاصة من أجل “اليوم التالي” في القطاع.

في الواقع، أراد أبو مازن بإعلانه ألا يُظهِر عودته للقطاع بأنها عودة “على ظهر دبابة إسرائيلية”، بل بوصفها عودة “الفدائيين” الذين أخذوا قرارًا بتحدي كل قيود الاحتلال وتوجهوا لقطاع غزة، وهو ما سيؤمِن له “عودة البطل” الذي أوقف شلال الدماء والحرب والدمار، ويمنحه شرعية بعدما تهالكت كل شرعياته الانتخابية والنضالية، ولا يمكن قراءة هذا التحرك إلا في إطار قطع الطريق أمام العديد من الرؤى التي قدمها خصومه إلى حركة حماس، خاصةً القياديين المفصولين من حركة فتح، محمد دحلان وناصر القدوة.

الوحدة الوطنية: حضور في الخطاب وغياب عن الفعل
“سنبقى نعمل مخلصين من أجل وحدتنا الوطنية التي نراها أقصر طريق لتحقيق الانتصار على هذا العدو الذي يتربص بنا ويستهدفنا جميعًا، فوحدتنا تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، بهذه الكلمات تطرق أبو مازن للوحدة الوطنية التي غابت طويلًا عن الشعب الفلسطيني.

منذ اليوم الأول لحرب الإبادة على قطاع غزة، لم يستجب محمود عباس لكل دعوات الوحدة الوطنية، وقد آثر الامتناع عن الاستجابة لمقترح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالدعوة إلى تشكيل “قيادة طوارئ وطنية” تتولى مسؤولية مواجهة أهداف الحرب العدوانية على قطاع غزة ومخططات الاحتلال وتوحد المشهد الفلسطيني، كما رفض مقترح حركة حماس بتشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية تنظيم الجهود الإغاثية وترميم المشهد الفلسطيني وتضميد جراح الشعب الفلسطيني.

منذ أكثر من 315 يومًا، لم يقبل رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن يدعو إلى انعقاد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة لبلورة موقف وطني جامع في مواجهة أكبر هجمة تصفوية يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وتهدد كل أشكال كينونته السياسية.

على الأرض، لم تتوقف أجهزة أمن السلطة عن اتخاذ كل الخطوات اللازمة من أجل الإيفاء بالتزامات السلطة الأمنية التي ينص عليها اتفاق “أوسلو”، وملاحقة المقاومين وتفكيك العبوات الناسفة ومصادرتها في الضفة الغربية، بل وأضيف إليها مواجهة وإجهاض كل محاولة لتحريك الشارع هناك انتصارًا لقطاع غزة وغضبًا لشلال الدم الفلسطيني النازف، ضمن رزمة من الإجراءات التي شملت أدوات القمع الخشنة، وأدوات الاحتواء الناعمة.

ونظرًا إلى كون دعوة عباس لإلقاء كلمة في البرلمان التركي ردًا على كلمة نتنياهو في الكونغرس، فالأساس أن يواجِه الرئيس الفلسطيني الصورة التي حاول رئيس وزراء الاحتلال إظهارها في خطابه ذاك حول التوحد والتنوع في “إسرائيل”، واصطحاب وفد من جنود الجيش الإسرائيلي من خلفيات قومية متنوعة، إضافةً إلى الأسيرة التي تمكن جيش الاحتلال من تحريرها، فالمفترض أن يعبر الوفد المرافق للرئيس الفلسطيني عن مكونات الشعب الفلسطيني ومشاهد من صموده ومن مأساة شعبه أيضًا، لكن المشهد كان مغايرًا، فالوفد المرافق للرئيس فريقه الرئاسي المعتاد، بعضوية أمين سر اللجنة التنفيذية حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، ومستشاره الديني محمود الهباش، ومستشاره للشؤون الدبلوماسية مجدي الخالدي، والسفير الفلسطيني في تركيا فائد مصطفى، فيما خلا الوفد من أي مشاركة وطنية من قوى وفصائل فلسطينية تقف في قلب المواجهة.

وعلى الرغم من أن حركة فتح، ممثلة بنائب رئيسها محمود العالول، قد توافقت مع القوى الوطنية والإسلامية في اجتماع بكين في نهاية يوليو/تموز الماضي على مجموعة من الإجراءات والخطوات للمضي نحو الوحدة الوطنية، وأبرزها تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية توحيد المؤسسات وتقطع الطريق أمام محاولة هندسة “اليوم التالي”، إضافةً إلى ضرورة اعتماد صيغة الإطار القيادي المؤقَت ليتولى مسؤولية تفعيل وإصلاح منظمة التحرير لتمثل الكل الفلسطيني، فإن الرئيس الفلسطيني لم يبادر لأي خطوة عملية في هذا الإطار، بل إنه – وخلافًا لإعلانه في الخطاب – يمضي في إطار محاولة البحث عن مكان في “اليوم التالي” لقطاع غزة دون أن يمر عبر بوابة الشراكة الوطنية.

التخوف من سحب البساط
لا يمكن أن يؤخذ سياق كلمة أبو مازن وإعلانه، وحتى اندفاعته الكبيرة في إعلان نيته زيارة قطاع غزة (وهو يبقى مجرد إعلان إلى حين بروز إشارات حول جديته)، دون أن تؤخذ في الحسبان ملاحظة السلطة لمجريات الأمور وتطوراتها.

تقرأ السلطة الفلسطينية الإشارات المحيطة، وهي على تواصل مباشر مع الدول الحليفة لها في المنطقة، والتي ما زالت متمسكة بأهمية الاستثمار في سلطة وقيادة محمود عباس، خاصةً كل من المملكتين السعودية والأردنية، إذ نشطت السعودية في استضافة أكثر من لقاء للدول العربية والسلطة الفلسطينية في محاولة لترتيب الاتفاق على صيغة مناسبة تضع السلطة الفلسطينية في صدارة المشهد القادم، وهي صيغ لم تلق إيجابية من الإمارات العربية، ولا اندفاعًا مصريًا.

باتت المؤشرات تُنذر بأن الرهانات على انهيار حماس أو أفول قوتها لم تعد واقعية، وأن قدرة الحركة على الصمود في وجه الهجوم الكبير عليها باتت حقيقة لا يمكن إنكارها، وبالتالي يتطلب الأمر – من ذلك المنظور – العمل مع تجلياتها وتجهيز السيناريوهات لمنع تطورها بما لا يتناسب مع حسابات السلطة وفريقها القيادي.

ينظر رئيس السلطة بخطورة كبيرة إلى الدور المتصاعد لمحمد دحلان في المشهد في قطاع غزة، خصوصًا أن الدعم الإماراتي الموجه إليه ضخم جدًا، وأنه يلقى تسهيلات مصرية كافية لأن يكون مؤثرًا في العديد من الملفات، فيما تمنحه حركة حماس مساحةً كافيةً للتحرك في القطاع، مع وجود تسهيلات من جيش الاحتلال، كما أنه يفتح خطًا ساخنًا مع القيادي الفتحوي السابق ناصر القدوة، الذي يمتلك شبكة علاقات دولية واسعة، وهو منفتح على حماس أيضًا، فيما يتم كل ذلك بتنسيق كامل مع القيادي الفتحوي الأسير مروان البرغوثي، الذي تضعه حماس على رأس الأسماء في صفقة تبادل الأسرى، الأمر الذي يُعقِد المشهد المستقبلي أمام محاولة محمود عباس إبقاء مفاتيح السلطة تحت سيطرته وسيطرة فريقه، وهو الأمر الذي يدفع الأخير إلى اتخاذ خطوات كبرى في إطار الحفاظ على أوراق قوته وترميم شرعيته.

يعي أبو مازن تمامًا أن العديد من ملفات القطاع باتت في طور البحث التفصيلي عن صيغة لإدارتها، وخصوصًا ملف معبر رفح، وأن حماس والعديد من القوى الفلسطينية باتوا مستعدين لأن يتجاوزوا فكرة عد السلطة ممرًا إجباريًا في حال استمر أبو مازن في تجاهل مطالبات الوحدة الوطنية، وبالتالي فإن التقدم الآن يمثل السبيل الأجدى بالنسبة إليه لأن يضمن ألّا يتجاوز مستقبلًا، وهذا الجوهر الكامن خلف ما احتواه خطابه الأخير، ولربما خطواته المستقبلية.

ما بين الانسجام مع الموقف التركي والرسائل ما بين السطور
حرص رئيس السلطة على أن يتضمن خطابه ما يمكن أن يلبي به الغرض من الجلسة، وما يتجنب فيه استفزاز الحضور من النواب الأتراك والمدعوين إلى الجلسة من ممثلي الأحزاب والبعثات الدولية والفئات المتنوعة، بمن فيهم جرحى قطاع غزة الذين يتلقون العلاج في تركيا.

وبالتالي، فقد تضمن خطابه النمط المعتاد للحديث في التاريخ عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه، وأفرد مساحة كبيرة للجمل ذات التعبيرات الدينية والإشادة بالدور التركي الداعم للقضية الفلسطيني وقرارها الانضمام إلى قضية محاكمة “إسرائيل” بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.

لم يكن لأبو مازن ألا يُقدم في خطابه بضع فقرات تُحقِق الـ”show” المطلوب، جذبًا للتصفيق من النواب الأتراك والمشاركين في الجلسة، الذين كانوا جاهزين مسبقًا لتلبية هذا المشهد، ردًا على ما جرى في الكونغرس الأمريكي، وتأكيدًا لدعم الشعب الفلسطيني وقضيته.

كرر أبو مازن، ومن منصة البرلمان التركي على نحو التحديد، الحديث عن وحدانية التمثيل لمنظمة التحرير الفلسطينية وولايتها السياسية على الأراضي الفلسطينية كافة، في رسالة ضمنية أراد بها تأكيد أن غياب سلطته عن قطاع غزة لا يعني قبوله بتجاوزها سواءٌ في محادثات وقف إطلاق النار، بما فيها الجارية حاليًا في العاصمة القطرية الدوحة، أو محادثات مستقبل قطاع غزة والنظام السياسي الفلسطيني.

هدفت الرسالة حول التمثيل السياسي الفلسطيني أيضًا إلى لمز الانفتاح التركي على القوى والفصائل الفلسطينية مباشرة واستضافتها لجزء من قيادة حركة حماس، والسماح بإجراء لقاءات فصائلية على أرضها، كان أبرزها اللقاءات التي أجراها الراحل الشهيد إسماعيل هنية مع قادة فصائل المقاومة قبل أشهر، وهو ما لا يحبذه أبو مازن ولا لجنته التنفيذية في منظمة التحرير الذين يرون أنه يجب أن ينحصر التمثيل الفلسطيني والعلاقة السياسية وعلاقات الدول والأنظمة الرسمية مع هذه البوابة فسحب.

الجهوزية لـ”ليوم التالي”
اختار أبو مازن كلماته بعناية، فإلى جانب التمسك المعتاد ببرنامجه السياسي والمقاومة السلمية وتأكيد قرارات “الشرعية الدولية”، تحدث عن العنوان الأهم الذي يُطرَح بلا إجابة حاسمة منذ الشهر الأول لحرب الإبادة على قطاع غزة، وهو سيناريوهات “اليوم التالي” في غزة.

وقد قال: “إن قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية هي وحدة جغرافية واحدة تشكل الدولة الفلسطينية المستقلة، حسب الشرعية الدولية، التي تحكمها حكومة شرعية واحدة، ودون تحقيق ذلك وتجسيد هذه الدولة الفلسطينية والاعتراف بها، فلن تنعم هذه المنطقة بالأمن والاستقرار والهدوء والتنمية والسلام، وستبقى تدور في هذه الدوامة من العنف والعنف المضاد.. الطريق إلى السلام والأمن يبدأ من فلسطين وينتهي إلى فلسطين”.

من حيث النص والخطاب، لا يختلف موقف الرئيس الفلسطيني عن مواقف القوى والفصائل الأخرى، بما فيها مواقف قوى المقاومة وفي مقدمتها حماس، التي تتمسك جميعًا برفض التجزئة والتقسيم للشعب الفلسطيني.

إلا أنه في المضامين فالخلاف كبير، فهدف رئيس السلطة الفلسطينية تأكيد أن لا سيناريوهات لـ”ليوم التالي” دون أن تكون سلطته ومنظمته ممرًا إجباريًا لهذه الترتيبات، وأن حكومته المعيَنة حديثًا (خارج الإجماع الوطني) هي الجاهزة لتتولى زمام السيطرة والولاية على الأراضي الفلسطينية كافة الواقعة تحت نطاق السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

يُرسل رئيس السلطة رسائل متعددة، في جزء رئيسي منها إلى أنظمة عربية، وعلى نحو الخصوص الإمارات المتحدة التي تتحرك بفاعلية في قطاع غزة وجهود الإغاثة المستثمرة في خصم الرئيس عباس وحليفها محمد دحلان الذي يتولى تياره إدارة هذه المساعدات، معزِزًا نفوذه في القطاع، لا سيما مع وجود خط تواصل ساخن بينه وبين حركة حماس، مع الحديث عن استعداده لتقديم رؤية لإدارة القطاع بدعم إماراتي تحدثت مصادر إعلامية عبرية عن رغبة نتنياهو في أن يكون أوسع وأكثر تأثيرًا وفاعلية.

تغليف العودة إلى غزة بثوب الفدائيين
شكل إعلان عباس أنه سيتوجه إلى قطاع غزة مع “جميع أعضاء القيادة الفلسطينية”، والدعوة الى “تأمين وصولهم إليها” العنوان الأبرز للخطاب، والنقطة التي عُدَت إضافةً عن الخطابات المُستهلكة لرئيس السلطة الفلسطينية، خصوصًا أن هذا الإعلان الفريد من نوعه لم يصدر عن الرئيس طوال سنوات الانقسام منذ غادر القطاع في العام 2007.

في الظاهر، يبدو الإعلان كأنه خطوة كبيرة يتجه إليها رئيس السلطة، لكن الواقع أن الرئيس يعطي إشارات واضحةً حول استعداده لأن تستلم السلطة تحت رئاسته السيطرة الأمنية والحكومية على قطاع غزة، والاستعداد العلني لأن يُشرف شخصيًا على أن تقوم السلطة بدورها في “اليوم التالي” في القطاع.

تتقاطع مضامين ما وراء إعلان رئيس السلطة الفلسطينية مع مجموعة خطوات اتخذها في محاولة أن ينتج ما يتناسب معه من سيناريوهات “اليوم التالي”، دون أن يضطر إلى إخضاعها لا لحسابات التوافق الوطني، ولا لضغوطات الدول العربية، حليفة له كانت أو على خصومة، خاصةً السعودية والامارات، إذ عمد إلى قطع الطريق أمام مطالبات هذه الدول والمتقاطعة مع الولايات المتحدة بضرورة أن يكون ثمة “سلطة مُتجددة” في أن يُدخِل تجديدات تطال مفاصل العمل الحكومي وبتشكيلة حكومية جديدة يقودها محمد مصطفى، دون أن يطال هذا التجديد لا رئاسته ولا فريقه المصغر في “القيادة الفلسطينية” واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

بعد يوم من تصريح عباس، أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية، محمد مصطفى، أن حكومته أعدت “الخطط اللازمة” من أجل العمل في قطاع غزة في “اليوم التالي” للحرب، وأنها جاهزة لاستلام زمام الأمور وتوحيد المؤسسات الحكومية، بما فيها المعابر، ما يؤكِد أن رئيس السلطة وفريقه يعملون على وصفتهم الخاصة من أجل “اليوم التالي” في القطاع.

في الواقع، أراد أبو مازن بإعلانه ألا يُظهِر عودته للقطاع بأنها عودة “على ظهر دبابة إسرائيلية”، بل بوصفها عودة “الفدائيين” الذين أخذوا قرارًا بتحدي كل قيود الاحتلال وتوجهوا لقطاع غزة، وهو ما سيؤمِن له “عودة البطل” الذي أوقف شلال الدماء والحرب والدمار، ويمنحه شرعية بعدما تهالكت كل شرعياته الانتخابية والنضالية، ولا يمكن قراءة هذا التحرك إلا في إطار قطع الطريق أمام العديد من الرؤى التي قدمها خصومه إلى حركة حماس، خاصةً القياديين المفصولين من حركة فتح، محمد دحلان وناصر القدوة.

الوحدة الوطنية: حضور في الخطاب وغياب عن الفعل
“سنبقى نعمل مخلصين من أجل وحدتنا الوطنية التي نراها أقصر طريق لتحقيق الانتصار على هذا العدو الذي يتربص بنا ويستهدفنا جميعًا، فوحدتنا تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”، بهذه الكلمات تطرق أبو مازن للوحدة الوطنية التي غابت طويلًا عن الشعب الفلسطيني.

منذ اليوم الأول لحرب الإبادة على قطاع غزة، لم يستجب محمود عباس لكل دعوات الوحدة الوطنية، وقد آثر الامتناع عن الاستجابة لمقترح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالدعوة إلى تشكيل “قيادة طوارئ وطنية” تتولى مسؤولية مواجهة أهداف الحرب العدوانية على قطاع غزة ومخططات الاحتلال وتوحد المشهد الفلسطيني، كما رفض مقترح حركة حماس بتشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية تنظيم الجهود الإغاثية وترميم المشهد الفلسطيني وتضميد جراح الشعب الفلسطيني.

منذ أكثر من 315 يومًا، لم يقبل رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن يدعو إلى انعقاد الإطار القيادي المؤقت للمنظمة لبلورة موقف وطني جامع في مواجهة أكبر هجمة تصفوية يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وتهدد كل أشكال كينونته السياسية.

على الأرض، لم تتوقف أجهزة أمن السلطة عن اتخاذ كل الخطوات اللازمة من أجل الإيفاء بالتزامات السلطة الأمنية التي ينص عليها اتفاق “أوسلو”، وملاحقة المقاومين وتفكيك العبوات الناسفة ومصادرتها في الضفة الغربية، بل وأضيف إليها مواجهة وإجهاض كل محاولة لتحريك الشارع هناك انتصارًا لقطاع غزة وغضبًا لشلال الدم الفلسطيني النازف، ضمن رزمة من الإجراءات التي شملت أدوات القمع الخشنة، وأدوات الاحتواء الناعمة.

ونظرًا إلى كون دعوة عباس لإلقاء كلمة في البرلمان التركي ردًا على كلمة نتنياهو في الكونغرس، فالأساس أن يواجِه الرئيس الفلسطيني الصورة التي حاول رئيس وزراء الاحتلال إظهارها في خطابه ذاك حول التوحد والتنوع في “إسرائيل”، واصطحاب وفد من جنود الجيش الإسرائيلي من خلفيات قومية متنوعة، إضافةً إلى الأسيرة التي تمكن جيش الاحتلال من تحريرها، فالمفترض أن يعبر الوفد المرافق للرئيس الفلسطيني عن مكونات الشعب الفلسطيني ومشاهد من صموده ومن مأساة شعبه أيضًا، لكن المشهد كان مغايرًا، فالوفد المرافق للرئيس فريقه الرئاسي المعتاد، بعضوية أمين سر اللجنة التنفيذية حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، ومستشاره الديني محمود الهباش، ومستشاره للشؤون الدبلوماسية مجدي الخالدي، والسفير الفلسطيني في تركيا فائد مصطفى، فيما خلا الوفد من أي مشاركة وطنية من قوى وفصائل فلسطينية تقف في قلب المواجهة.

وعلى الرغم من أن حركة فتح، ممثلة بنائب رئيسها محمود العالول، قد توافقت مع القوى الوطنية والإسلامية في اجتماع بكين في نهاية يوليو/تموز الماضي على مجموعة من الإجراءات والخطوات للمضي نحو الوحدة الوطنية، وأبرزها تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى مسؤولية توحيد المؤسسات وتقطع الطريق أمام محاولة هندسة “اليوم التالي”، إضافةً إلى ضرورة اعتماد صيغة الإطار القيادي المؤقَت ليتولى مسؤولية تفعيل وإصلاح منظمة التحرير لتمثل الكل الفلسطيني، فإن الرئيس الفلسطيني لم يبادر لأي خطوة عملية في هذا الإطار، بل إنه – وخلافًا لإعلانه في الخطاب – يمضي في إطار محاولة البحث عن مكان في “اليوم التالي” لقطاع غزة دون أن يمر عبر بوابة الشراكة الوطنية.

التخوف من سحب البساط
لا يمكن أن يؤخذ سياق كلمة أبو مازن وإعلانه، وحتى اندفاعته الكبيرة في إعلان نيته زيارة قطاع غزة (وهو يبقى مجرد إعلان إلى حين بروز إشارات حول جديته)، دون أن تؤخذ في الحسبان ملاحظة السلطة لمجريات الأمور وتطوراتها.

تقرأ السلطة الفلسطينية الإشارات المحيطة، وهي على تواصل مباشر مع الدول الحليفة لها في المنطقة، والتي ما زالت متمسكة بأهمية الاستثمار في سلطة وقيادة محمود عباس، خاصةً كل من المملكتين السعودية والأردنية، إذ نشطت السعودية في استضافة أكثر من لقاء للدول العربية والسلطة الفلسطينية في محاولة لترتيب الاتفاق على صيغة مناسبة تضع السلطة الفلسطينية في صدارة المشهد القادم، وهي صيغ لم تلق إيجابية من الإمارات العربية، ولا اندفاعًا مصريًا.

باتت المؤشرات تُنذر بأن الرهانات على انهيار حماس أو أفول قوتها لم تعد واقعية، وأن قدرة الحركة على الصمود في وجه الهجوم الكبير عليها باتت حقيقة لا يمكن إنكارها، وبالتالي يتطلب الأمر – من ذلك المنظور – العمل مع تجلياتها وتجهيز السيناريوهات لمنع تطورها بما لا يتناسب مع حسابات السلطة وفريقها القيادي.

ينظر رئيس السلطة بخطورة كبيرة إلى الدور المتصاعد لمحمد دحلان في المشهد في قطاع غزة، خصوصًا أن الدعم الإماراتي الموجه إليه ضخم جدًا، وأنه يلقى تسهيلات مصرية كافية لأن يكون مؤثرًا في العديد من الملفات، فيما تمنحه حركة حماس مساحةً كافيةً للتحرك في القطاع، مع وجود تسهيلات من جيش الاحتلال، كما أنه يفتح خطًا ساخنًا مع القيادي الفتحوي السابق ناصر القدوة، الذي يمتلك شبكة علاقات دولية واسعة، وهو منفتح على حماس أيضًا، فيما يتم كل ذلك بتنسيق كامل مع القيادي الفتحوي الأسير مروان البرغوثي، الذي تضعه حماس على رأس الأسماء في صفقة تبادل الأسرى، الأمر الذي يُعقِد المشهد المستقبلي أمام محاولة محمود عباس إبقاء مفاتيح السلطة تحت سيطرته وسيطرة فريقه، وهو الأمر الذي يدفع الأخير إلى اتخاذ خطوات كبرى في إطار الحفاظ على أوراق قوته وترميم شرعيته.

يعي أبو مازن تمامًا أن العديد من ملفات القطاع باتت في طور البحث التفصيلي عن صيغة لإدارتها، وخصوصًا ملف معبر رفح، وأن حماس والعديد من القوى الفلسطينية باتوا مستعدين لأن يتجاوزوا فكرة عد السلطة ممرًا إجباريًا في حال استمر أبو مازن في تجاهل مطالبات الوحدة الوطنية، وبالتالي فإن التقدم الآن يمثل السبيل الأجدى بالنسبة إليه لأن يضمن ألّا يتجاوز مستقبلًا، وهذا الجوهر الكامن خلف ما احتواه خطابه الأخير، ولربما خطواته المستقبلية.

نون بوست | احمد الطناني