نقلت إسرائيل الحرب المحدودة والمسقوفة في الإقليم إلى مستويات أعلى، لتصبح أقرب من أيّ وقت مضى إلى المواجهة الشاملة، وإن كان الترجيح المبنيّ على أمنيات لديها بأن عوامل كبح هذه الحرب أعلى من عوامل نشوبها. وهي رأت في ذلك مخاطرة لازمة، يجب العمل عليها قبل أيّ استحقاق تراجعي وتسويات، قد تضطرّ إليها، في حرب لم تعد مقتصرة على قطاع غزة، بل باتت إقليمية بامتياز، حيث الاتفاق مع الفلسطينيين يسهّل تسويتها، من دون أن يعني أنها ستنتهي في ساحات أخرى بالضرورة. على أن «النقلة» الإسرائيلية عبر الاعتداءات في ساحات المواجهة الإقليمية، غير محسوبة تماماً، وغير مستندة إلى أسس تقديرية سليمة ومتينة، فيما تبرز من خلفها تمنّيات تبدو متدحرجة وتراتبية، ومن بينها فرضيات كان يجري استبعادها حتى الأمس القريب.يقدّر العدو بأن المبادرة إلى الاغتيالات في ساحات الإسناد، ومن ثم تلقّي أثمان وردود مسقوفة نتيجة الإجراءات المتخذة مسبقاً في مجالَي الدفاع والهجوم، والتي تسمح بدورها بردود إسرائيلية كبيرة ومؤثرة في كل الساحات، ستدفع كل الأطراف، بما فيها الإقليمية والدولية، إلى الاشتراك في الديناميات الجديدة، إما عبر التورّط مباشرة في المواجهة العسكرية، ما يؤمل منه هزيمة الآخرين، وإما عبر فرض تسويات، تراعي المصالح الإسرائيلية. هل هذا نوع من التقدير المبني على نظرية المؤامرة؟ في الواقع، وصل مأزق الحرب الإسرائيلية إلى الحدّ الذي يسمح بتفسير مماثل. ومثل هذه الفرضيات قد لا تكون مرجّحة، لكنها تؤشر الى المأزق الإسرائيلي المذكور. إذ بات إنهاء الحرب مطلباً إسرائيلياً، تماماً كما هو مطلب الآخرين، وهو ما يرد في تصريحات وتسريبات المؤسسات الأمنية والعسكرية في الكيان. في المقابل، إن إسرائيل غير قادرة على تحقيق هذا المطلب، لأن أهداف الحرب نفسها لم تتحقّق، في حين أن دولة الاحتلال غير قادرة على الاستمرار في فرض نفسها على الإقليم، بالقوة المطلوبة في اليوم الذي يلي الحرب، من دون بلوغ تلك الأهداف. هذه هي أهم المعطيات والمقدّمات التي تحدّد مصير الحرب في غزة، وكذلك مصير الحرب في ساحات الإقليم: إسرائيل غير قادرة على الانتصار، ولا على إيجاد بدائل غير عسكرية تؤدي إلى الانتصار، ولا على إنهاء الحرب بلا انتصار.
ثمّة أسباب عدّة يمكن قراءتها في الموقف والفعل الإسرائيليين بناءً على علو سقوف الاعتداءات، من الحديدة اليمنية إلى بيروت وطهران، وفي العودة إلى غزة كذلك. واضح أن الاغتيالات، وتحديداً اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، في طهران، أبعدت صفقة الأسرى، وما كان يُبنى عليها من آمال بإمكان الاتفاق على وقف لإطلاق النار في القطاع، وبالتبعية في ساحات الإسناد. لكن من زاوية رؤية أخرى، قد تكون مشبعة بالمعطيات، أظهرت هذه الاغتيالات أن العدوّ لا يضع وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في مقدّمة سلّم أولويّاته، وأن الأسرى الإسرائيليين في غزة، على رغم أهميتهم المعنوية لديه، لا يصلون إلى حدّ دفعه إلى إنجاز اتفاق، وهو يرى أن بالإمكان تأجيل هذا الاتفاق إلى واحد من أجلَين: استسلام «حماس» والفصائل في غزة، أو مقتل كل الأسرى نتيجة استمرار الحرب.
مع ذلك، فإن لهؤلاء تأثيراً معتدّاً به في القرارات والتوجّهات الإسرائيلية، وإن لم يكونوا كافين في ذاتهم للدفع تلقائياً إلى صفقة تبادل وتسويات مع دفع أثمان، يراها رأس الهرم الإسرائيلي الآن كبيرة ولا تصبّ في مصالحه ومصالح إسرائيل الدولة. أما العوامل الأكثر تأثيراً في القرار الإسرائيلي، فهي جبهات الإسناد، والتي تنتظر جبهة غزة نتيجة المواجهة فيها. وفي الواقع، انتقلت الحرب إلى تلك الجبهات منذ أن أنهى الجيش الاسرائيلي عملياته المكثّفة في القطاع، وإن ضمن مسمّيات ومستويات مختلفة، لكنها حرب متعدّدة الجبهات، وبنتيجتها يتحدّد مصير موازين الإقليم.
سياسة الاغتيالات
لم تنجح إسرائيل في تاريخها في جبي فوائد استراتيجية عبر اغتيال قادة وكوادر أعدائها. صحيح أن الخسارة قد تكون كبيرة ومعتدّاً بها، لدى فصائل المقاومة في الساحات المتعدّدة، إلا أنّ مردودها في المقابل يظلّ في الأعمّ الأغلب تكتيكياً بالنسبة إلى تل أبيب. إذ إنها، إضافة إلى تعلّقها بإشباع غريزة الانتقام، تأتي للرد على نجاح الأعداء في تسجيل انتصارات ومكاسب استراتيجية، ترتبط بالصراع معها. والديباجة المتّبعة تاريخياً في إسرائيل لتبرير هذا النوع من الاعتداءات أن الاغتيالات تؤدي إلى رفع مستوى الردع الإسرائيلي لدى الطرف الآخر هي فذلكة مردودة. إذ إن واقع الأمر، وتاريخ الصراع وشواهده، ووضعية فصائل المقاومة في المراحل التي أعقبت اغتيالات قادتها وكوادرها، كلّها أمور تشهد على أن هدف الردع لا يتحقّق، بل من شأن الاغتيالات نفسها أن تقلّص مستواه، بعد أن تدفع الآخر إلى الردّ أولاً، وتعزيز القدرات والإمكانات اللاحقة للتمكين الميداني والردع المقابل ثانياً.
إلا أن الفائدة التكتيكية تكفي في الحالة الإسرائيلية الراهنة، للانجرار وراء عمليات الاغتيال، حتى وإن كانت موضع مخاطرة أقلّ ما يقال عنها إنها غير واضحة المعالم. ويعود ذلك إلى الحرب نفسها، التي طالت أكثر مما يمكن لإسرائيل أن تتخيّل لدى اتخاذها قرارها. وعليه، ثمّة علاقة لدى قادة إسرائيل ومؤسساتها وجمهورها بين حرب لا تحقّق أهدافها، وبين عدم قدرتها على التسليم بأنها غير قادرة على تحقيق هذه الأهداف، ما يدفع إلى إطالة الحرب بلا آفاق ولا مخارج، ويحوّلها إلى حرب استنزاف، يكون المتاح فيها تسجيل النقاط، إلى حين تراجع أحد الطرفين عن الحرب، وفي هذه الحالة الطرف الإسرائيلي، للبحث عن تسوية ما.
لكن متى تتراجع إسرائيل؟ تتراجع بعد أن تنهي محاولة دفع الميدان الإقليمي إلى التأزيم، الذي يفضي بدوره إلى حلحلة ما، أو تسوية ما، تفرض فيها عبر شركائها الدوليين والإقليميين ما أمكن من مصالح، هي لزوم واقع ومرحلة ما بعد الحرب، محلياً وإقليمياً ودولياً. إلا أن محاولة كهذه تُحدّد نتيجتها بفعل أطرافها كلها، وليس فقط من يعمل عليها ابتداءً. وهنا تبرز العديد من المعطيات والمؤشرات التي يجب أن تكون حاضرة لدى تقدير ما سيلي:
- لم يسارع الطرف الآخر إلى ردّة فعل مباشرة وغير محسوبة على الاعتداءات الإسرائيلية، وهو ما سمّاه الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصر الله، بالقرارات الحكيمة، وإن كان في المقابل ملزماً بردّ فعل يتناسب مع الاعتداءات نفسها.
- ردّة الفعل من لبنان إلى اليمن إلى العراق فإيران، جاءت بتوصيف مزدوج: مؤجّلة وحتميّة، وأدّت إلى تفويت الفرصة على إسرائيل في تمكينها من مواجهات تخدم بنتيجتها مصالحها في كل ساحة مواجهة على حدة، وفي كل الساحات مجتمعة.
- تعود هذه الجبهات إلى موقفها وواقعها كما كانت عليه، أي ساحات مواجهة واستنزاف لإسرائيل، غير قابلة للحل والتسويات، ما لم تقدم الأخيرة على إنهاء الحرب في غزة. ما يعني العودة إلى النقطة التي أرادت إسرائيل أن تخرج منها.
- ردة الفعل، التي تؤجَّل، من شأن قرارها أن يتبلور بما يخدم مصالح صاحب قرار رد الفعل، حجماً وتوقيتاً وتبعات، من دون أن يتسبّب بالأذى للذات.
- في سلّم التداعيات السلبية على إسرائيل أن فترة الانتظار والقلق من الآتي ستكون جزءاً لا يتجزّأ من الثمن وردة الفعل اللاحقة، وهو ما سيثقل كثيراً على صاحب القرار في تل أبيب، وعلى المؤسسات والجمهور الإسرائيلي على السواء.
ما قامت به إسرائيل من اعتداءات هو محاولة «نقل» المواجهة الإقليمية إلى أسوأ مستوى فيها، ترى أنها قد تكون قادرة على تحمّل أثمانه، لكن من شأنه أن يدفع الآخرين إلى التراجع، وهو ما لا يبدو أنها نجحت فيه.
المصدر: الاخبار اللبنانية