2024-11-27 02:37 م

تنياهو يبحث عن الزعامة التي جُردته إياها غزة

2024-07-28

أسدل الستار على المسرحية الهزلية التي شهدها مسرح الكونغرس الأمريكي، حيث أدى فيها دور البطولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وشاركه في العمل العشرات من البرلمانيين الحاضرين الذين بذلوا جهدًا مضنيًا في تحويل مجرم الحرب إلى بطل قومي.

بلغة يبدو عليها الثقة المفتعلة، وحركات استعراضية ملفتة، والخلط بين الديني والسياسي والتاريخي، وتشجيع أشبه بـ”الموالد” من الكومبارس الموجودين داخل القاعة (وقفوا وصفقوا قرابة 50 مرة خلال الكلمة)، ألقى نتنياهو خطابه المنتظر أمام مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، مقدمًا أوراق اعتماده كزعيم وطني ومدافع شرس عن مصالح بلاده ومصالح الأمريكان معًا، مناشدًا واشنطن لإمداد “إسرائيل” بالمزيد من الأسلحة لمواصلة الحرب على غزة، التي يصفها بأنها “حرب بين الحضارة والهمجية”، على حد وصفه.

يعد هذا الخطاب هو الرابع لنتنياهو  أمام الكونغرس (1996 – 2011 – 2015 – 2024)، متجاوزًا بذلك رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل صاحب التمثال الشهير في البيت الأبيض، الذي خطب أمام البرلمان الأمريكي 3 مرات. فهل حقق رئيس الوزراء الإسرائيلي أهدافه التي جاء لأجلها إلى واشنطن؟

أجواء ما قبل الخطاب
-تزامن الخطاب مع عدد من التغيرات والتطورات التي تشهدها الساحة الأمريكية على المستوى الداخلي، على رأسها تعرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمحاولة اغتيال، وانسحاب الرئيس الحاليّ جو بايدن من السباق الانتخابي، وهي التغيرات التي سحبت البساط بنسبة كبيرة من تحت أقدام الخطاب وأهميته، حيث كان يفترض أن يلاقى زخمًا أكبر من ذلك كما جاء على لسان الدبلوماسي الأمريكي السابق ومفاوض السلام، دينيس روس، خلال ندوة إلكترونية استضافها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، حين قال “لا توجد قدرة في هذه المدينة على التركيز على هذا الخطاب بالطريقة التي كان من الممكن أن تكون عليها من قبل”.

استقبل الشارع الأمريكي خطاب نتنياهو بمسيرات احتجاجية في العديد من شوارع العاصمة واشنطن، ما دفع الأمن لإغلاق محيط الكونغرس لمنع المتظاهرين من الاقتراب منه، لا سيما بعد الحديث عن الرغبة في محاصرته، احتجاجًا علي إلقاء نتنياهو كلمة أمام الكونغرس، وهو مجرم الحرب المدان من المنظمات الدولية والمنتظر صدور مذكرة اعتقال بحقه.

كما تجمع آلاف المتظاهرين المعارضين لاستمرار الحرب في غزة، بالقرب من مبنى الكابيتول رافعين أعلام فلسطين، ومرددين هتافات داعمة لغزة ومنددة بجرائم الاحتلال، فيما رفع آخرون لافتات عليها عبارات تندد بنتنياهو وسياساته، مكتوب عليها “نتنياهو مجرب حرب مطلوب للعدالة”.

وتصاعدت مطالب العشرات من النخبة السياسية والبرلمانية الأمريكية بمقاطعة هذا الخطاب، اعتراضًا على استضافة نتنياهو، المتهم في جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني والملطخة يداه بدماء عشرات الآلاف من المدنيين، داخل الكونغرس للمرة الرابعة في تاريخه، ما يجعل الولايات المتحدة شريكًا في الجرائم المرتكبة، أو على الأقل غير معترضة عليها، وهو ما يزيد من صورة أمريكا المشوهة عالميًا.

ثلاثية الكذب والابتزاز والترهيب
عزف نتنياهو خلال خطابه على لحن ثلاثي الأوتار:

الوتر الأول: الكذب، استفاض وزير الكيان المحتل في الكذب بشأن مجريات الوضع في غزة، محملًا المقاومة مسؤولية ما حدث، زاعمًا أنه لا يسعى لتهجير سكان القطاع، وأنه يدافع عن الحضارة وباسمها، متجاوزًا في كذبه وزير الإعلام النازي بول جوبلز (وزير الدعاية للرايخ من عام 1933 إلى عام 1945 والمقرب من أدولف هتلر) بحسب وصف الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، الذي قال إن ما جرى هو “جلسة عار للكونغرس الأمريكي لمجرم الحرب نتنياهو الذي يرتكب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعقوبات الجماعية والتجويع”، مضيفًا: “الحضارة التي يدعيها نتنياهو ليست حضارة بل انحطاط قتل 48 ألف فلسطيني في غزة وانحطاط قتل 17 ألف طفل وبتر أيدي وأرجل 1200 طفل فلسطيني وترحيل مليوني فلسطيني بعد هدم بيوتهم”.

الوتر الثاني: الابتزاز، حيث ادعى نتنياهو أنه يحارب حماس وما أسماه محور المقاومة بقيادة إيران، دفاعًا عن الولايات المتحدة والعالم العربي، وليس عن “إسرائيل” وحدها، زاعمًا أنه “عندما نقاتل إيران، نقاتل العدو الأكثر تطرفًا وإجرامًا للولايات المتحدة”، وأضاف: “نحن لا نحمي أنفسنا فقط، نحن نحميكم.. أعداؤنا هم أعداؤكم، معركتنا هي معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم”.

وعليه استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا الوتر للمطالبة بتسريع وتيرة الدعم العسكري الأمريكي لكيانه المغتصب، قائلًا: “أقدّر بشدة دعم الولايات المتحدة، بما في ذلك دعمها في هذه الحرب الحالية. لكن هذه لحظة استثنائية. تسريع المساعدات العسكرية الأمريكية يمكن أن يسرّع بشكل كبير إنهاء الحرب في غزة، ويساعد في منع اندلاع حرب أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط”.

الوتر الثالث: الترهيب، حيث حذر من تداعيات التعاطف مع حماس وإيران من خلفها، على الأمن والاستقرار الأمريكي والدولي وعلى مصالح أصدقاء “إسرائيل” من العرب في الشرق الأوسط، كما وصف المحتجين على الحرب من الأمريكان وغيرهم بأنهم “أغبياء تستفيد منهم إيران”، مخاطبًا إياهم بقوله: “عندما يعمد طغاة طهران، الذين يشنقون المثليين على رافعات ويقتلون النساء لعدم تغطيتهن شعرهن، إلى الإشادة بكم والترويج لكم وتمويلكم، تكونون قد أصبحتم رسميًا أغبياء تستفيد منكم إيران”، كما طالب باتخاذ إجراءات مشددة بحقهم.

اللعب على وتر الانقسامات
اعتاد نتنياهو اللعب على وتر الانقسامات الأمريكية، بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو يجيد توظيف تلك الورقة في تحقيق أهدافه والحصول على أكبر قدر من المكاسب، هذا ما خلص إليه المحلل في صحيفة “هآرتس” العبرية، أنشيل فيفر، في تحليله المنشور في الصحيفة، وأشار فيه إلى أن “الشيء الوحيد المشترك بين خطابات نتنياهو الـ4 أمام الكونغرس كرئيس للوزراء هو أنها جاءت جميعها بدعوة من القيادة الجمهورية في الكابيتول هيل وخلال فترة ولاية رئيس ديمقراطي كان لديه خلافات سياسية كبيرة معه. وفي كل مرة، سعى نتنياهو إلى إثبات أن نفوذه في أمريكا يتجاوز البيت الأبيض، بمساعدة حلفائه في الحزب الجمهوري”.

يتميز الخطاب هذه المرة مقارنة بالمرات الـ3 السابقة، بأنه جاء في وقت تقع فيه “إسرائيل” في قبضة حرب شعواء، حيث الحرب الممتدة قرابة 10 أشهر، التي فشل فيها نتنياهو في تحقيق أي انتصار، وعليه لن يدخر الرجل جهدًا للعب بورقة الانقسامات بشتى السبل للحصول على الدعم المطلق والعودة بأكبر قدر من المكاسب السياسية والعسكرية.

مما يعزز هذا الرأي قصيدة الغزل التي ألقاها نتنياهو بحق ترامب، رغم توتير الأجواء بينهما منذ تهنئة الأول لبايدن عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية الماضية، معددًا كل الإجراءات التي فعلها لأجل دولة الاحتلال، قائلًا: “أحرص على شكر الرئيس ترامب على كل ما فعله لإسرائيل، من الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، إلى مواجهة عدوان إيران، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لنا، ونقل السفارة الأمريكية إلى هناك”.

ويرى خبراء أن لغة الخطاب المستخدمة، بشقيها العاطفي والعقلي، واللعب على كل الأطراف، جمهوريين وديمقراطيين، وردود الفعل من الحضور داخل الكونغرس، برلمانيين وغير برلمانيين، تؤكد قراءة نتنياهو الجيدة لحالة الانقسام التي يعاني منها المشهد الأمريكي، ومن ثم كان اللعب عليها باحترافية معروفة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي.

مقاطعة وسخرية
رغم التجييش من جانب داعمي نتنياهو من الجمهوريين ومحاولة رئيس حكومة الاحتلال تحفيزهم لخطابه، من خلال استقدام ممثلين عن عائلات المحتجزين لدى المقاومة وعدد من الجنود الإسرائيليين المصابين في الحرب للجلوس داخل قاعة الكونغرس، والحملة الإعلامية التي روجت لهذا الحضور منقطع النظير والدعم غير المسبوق لرئيس حكومة الاحتلال، فإن الأمور لم تجر بالشكل الذي تم الترويج له.

حيث تشير التقديرات قبيل إلقاء نتنياهو للخطاب، إلى مقاطعة الكثير من النواب لتلك الجلسة كما ذهبت شبكة “سي إن إن” الأمريكية، التي قالت إن أكثر من 50 ديمقراطيًا لن يحضروا، في تكرار لما حدث في أثناء خطابه الذي ألقاه في 3 مارس/آذار 2015.

أما مراسل موقع “أكسيوس” الأمريكي لدى الكونغرس، أندرو سوليندر، الذي حضر الخطاب، فأشار في تغريدة له على حسابه على “إكس” إلى أنه نحو 100 من أصل 212 عضوًا من الحزب الديمقراطي بمجلس النواب، و27 من أصل 51 ديمقراطيًا بمجلس الشيوخ، كانوا موجودين خلال خطاب نتنياهو، وأن 112 عضوًا من مجلس النواب، و24 من مجلس الشيوخ لم يحضروا، مضيفًا أن هذا يعني غياب نحو نصف الأعضاء الديمقراطيين، ومن أبرز المقاطعين للخطاب: ديك دربين وتيم كين وجيف ميركلي وبريان شاتز، وكلهم أعضاء في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إضافة إلى باتي موراي التي ترأس لجنة المخصصات بالمجلس.

حتى من حضروا من النواب، بعضهم سخر من نتنياهو، موجهًا له رسائل انتقاد وسخرية لاذعة، كما فعلت البرلمانية الفلسطينية الأصل، رشيدة طليب، التي رفعت لافتة باللونين الأبيض والأسود خلال الخطاب، مكتوب على أحد جانبيها: “مجرم حرب”، والجانب الآخر: “مذنب بارتكاب جرائم إبادة جماعية”، كما ظهر النائب اليهودي جيري نادلر وهو يقرأ كتابًا ضد نتنياهو خلال خطاب الأخير في الكونغرس.

أما العضوة في مجلس النواب، ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، فدحضت الادعاءات والروايات التي تشير إلى امتلاء القاعة في أثناء خطاب نتنياهو، والتصفيق الذي لم ينقطع من بدايته وحتى النهاية، مؤكدة أن عددًا كبيرًا من النواب انسحبوا في أثناء الكلمة، وقالت في تغريدة لها: “لكي نكون واضحين، فقد خسر نتنياهو الكثير من الأعضاء، لدرجة أنه أصبح يخاطب جزءًا ضئيلًا فقط من الكونغرس”، مضيفة “عندما يحدث هذا، فإنهم يملؤون المقاعد بغير الأعضاء، كما يفعلون في احتفالات توزيع الجوائز، من أجل إظهار الحضور الكامل والدعم”.

البحث عن الزعامة المفقودة في ميدان غزة
بعدما فشل في تحقيق أي إنجاز أو انتصار عسكري أو سياسي بميدان القتال في غزة، وتصاعد الغضب الشعبي الإسرائيلي إزاء هذا الفشل، يحاول نتنياهو إيجاد ضالته لدى الأمريكان في الكونغرس، ومن ثم جاءت اللغة الاستعراضية وخطاب الشو الذي ألقاه رئيس الحكومة المأزوم والملاحق دوليًا، الذي لم يقنع حتى الشارع الإسرائيلي ونخبته السياسية.

الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” إيشان ثارور، يرى أن نتنياهو من خلال خطابه حاول تصوير نفسه على أنه رجل الدولة المحارب الذي لا غنى عنه في “إسرائيل”، على أمل تخفيف حدة الانتقادات التي طالما تعرض لها منذ بداية الحرب وفشله في تحقيق أي من أهدافها وتعريض سمعة الولايات المتحدة للخطر، لافتًا إلى أن لنتنياهو تاريخًا طويلًا في تحويل رؤساء الولايات المتحدة الودودين إلى بيادق في معاركه السياسية الخاصة، واستخدام جوانب معينة من المشهد في واشنطن كمنصات لحملاته الخاصة في “إسرائيل”.

هذا الهدف لم يكن مستبعدًا عن مخيلة الكثير من النواب الأمريكيين الذين رفضوا المشاركة في تلك المسرحية، فمن جانبه قال السيناتور كريس فان هولين للصحافيين: “بالنسبة له (نتنياهو)، الأمر كله يتعلق بتعزيز الدعم له في الوطن، وهو أحد الأسباب التي تجعلني لا أرغب في الحضور.. لا أريد أن أكون جزءًا من دعم سياسي في هذا الخداع. فهو ليس الحارس العظيم للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”.

الرأي ذاته ذهب إليه النائب الجمهوري في مجلس النواب، توماس ماسي، الذي كتب على منصة “إكس” يقول: “الغرض من مخاطبة نتنياهو للكونغرس هو تعزيز مكانته السياسية في إسرائيل وتخفيف حدة المعارضة الدولية لحربه، لا أشعر بأنني من أنصار هذا، ولذا لن أحضر”.

وفي الأخير.. لم يأت رئيس الحكومة الإسرائيلية لواشنطن محملًا بأي خطة من شأنها حلحلة الأزمة في غزة، حتى الوفد الذي كان يفترض إرساله للدوحة اليوم الخميس تم تأجيل زيارته حتى إشعار آخر، وعلى الأرجح لما بعد لقائي بايدن وترامب والذي على أساسهما قد يحدد موقفه بشأن استكمال مسار المفاوضات من عدمه، ليثبت نتنياهو أنه بهلوان محترف في التلاعب بالأمريكان، وتوظيفهم لخدمة أهدافه ومكاسبه، وأنه ما جاء إليهم إلا لتعزيز صورته وتجميلها واستعادة الزعامة التي مرغتها المقاومة الفلسطينية في التراب.

المصدر: نون بوست| عماد عنان