2024-11-27 11:28 م

أبجديات عصر "سموترش" وخطة تحرير "الأرض الإسرائيلية المحتلة"

2024-07-28

بينما يهدد"سموترش" بترك الائتلاف الحاكم، في حال وقف إطلاق النار في غزة، يعمل وجماعته على ترتيب أمور خططهم الأساسية المستهدِفة لما يسمونه "يهودا والسامرة"، أي ما يعتبرونه قلب "أرض إسرائيل"، وسكانها العرب مجرد "مقيمين" عليها. في نهاية شهر حزيران/يونيو الفائت، أُقر نقل صلاحيات عديدة من الإدارة المدنية التابعة للجيش، إلى وزارة الدفاع والقانون المدني الإسرائيلي، الذي صار يسري على جميع "أرض إسرائيل"، وليس فقط داخل حدود 1948 أو المستوطنات. تعيد إسرائيل تعريف أبجديات الصراع.
منذ حرب عام 1967، واحتلال إسرائيل للضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع من لواء غزة، عُرِّفت تلك المناطق في القرارات الأممية ب"الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وكان يُطلب من إسرائيل الانسحاب منها لأنها "محتلة" بموجب القانون الدولي...

لم تكترث إسرائيل بتصنيف تلك الأراضي هكذا، بل رفضته علناً منذ البداية. انطوى المشروع الاستيطاني الاستعماري على مصادرة مساحة 60 في المئة من الضفة الغربية، أو السيطرة عليها (منطقة "ج" بحسب اتفاقيات أوسلو)، وإقامة مئات المستوطنات ومئات الآلاف من المباني، لاستيعاب ما بات يقارب تسع مئة ألف مستعمِر، في الضفة الغربية (بما فيها مدينة القدس). اعتدنا على السياسة الإسرائيلية العدوانية، وها نحن نشاهدها في أبشع أشكالها وتداعياتها المدمرة، في الحرب الجارية، والمتواصلة منذ ما يقارب السنة. مع أن كل العيون الفلسطينية الحريصة على الوطن تتجه إلى غزة المنكوبة، وإلى المقاومة المتواصلة لحرب الإبادة الشاملة هناك، فإن إبادة مصغّرة تجري على قدم، وساق في مخيمات ومدن وقرى الضفة الغربية، بينما يواجه 350 ألف مقدسي إبادة مادية وفكرية صامتة.

لم يردع القانون الدولي إسرائيل، ولا فعل ذلك المجتمع الدولي أو الأمتان العربية والإسلامية ولا دول الجنوب الصديقة. بل تمت إعادة احتلال قطاع غزة كاملاً، وكذلك ما تبقى من الضفة الغربية (ال40 في المئة من مناطق "أ" و "ب"، التي تدير أمورها الحياتية الأساسية السلطة الفلسطينية). جرى ذلك، من خلال الاقتحامات والاعتقالات والاغتيالات اليومية. هكذا أعيد المجتمع الدولي والشعب الفلسطيني إلى المربع الأول لقرار مجلس الأمن 242 القاضي بضرورة انسحاب إسرائيل من "أراضٍ احتلتها عام 1967" ، (والذي صار من الضروري تحديثه، ليشير إلى الأراضي "التي أعيد احتلالها" عام 2023!).

لكن هذا الاتجاه العالمي، لا يعكس على الإطلاق - بل لم يعكس أبداً - رؤية إسرائيل لعلاقتها مع تلك الأراضي "المتنازع عليها" بحسب ترجمتها للقانون الدولي. وفي "مسايرة" لذلك القانون الدولي، فهي تعاملت حتى الآن مع الأراضي المحتلة، من خلال "الإدارة المدنية" التابعة للجيش الإسرائيلي. ظل ذلك سارياً حتى مجيء الحكومة الحالية الأكثر تطرفاً إلى سدة الحكم الإسرائيلي (المتمثل في تحكّم الصهيونية الدينية، وقادتها بلزاليل سموترش واتامار بن غفير).

استدرجت إسرائيل العالم والعرب والفلسطينيين إلى طاولة مفاوضات "عملية سلام"، دامت 35 سنة، ومُنيت بالفشل. استندت تلك العملية إلى معادلة "الأرض مقابل السلام"، ما دفع إسرائيل لتدّعي تارة بأنها على استعداد للانسحاب من بعض الأراضي أو إعادة التموضع فيها، وتارة أخرى بتجميد الاستيطان، وغيرها من الحيل، لتُظهر أنها يمكن أن تقبل يوماً ما بإنهاء الاحتلال. ومؤخراً خدعت إسرائيل الدول العربية المطبِّعة لعلاقاتها معها، بادعاء الالتزام بعدم الإقدام على الضم القانوني، لمساحات مستهدفة من الضفة الغربية.

خطة الحسم قيد التنفيذ
بينما يتظاهر "سموترش" وحركته الاستعمارية بأنهم سيتركون الائتلاف الحاكم، في حال وقف إطلاق النار في غزة، إلا أنهم يعملون على ترتيب أمور خططهم الأساسية المستهدِفة لما يسمونه "يهودا والسامرة"، أي ما يعتبرونه قلب "أرض اسرائيل" وسكانها العرب مجرد "مقيمين" عليها. في نهاية شهر حزيران/يونيو الفائت، وبجرة قلم من أحد موظفي "الإدارة المدنية"، بتعليمات من نائب وزير الدفاع "سموترش" (الذي يتبوأ أيضاً منصب وزير المالية)، قُلبت طاولة القرار الدولي 242 وطاولة أوسلو وطاولة حل الدولتين.

أقر في سياق المساومات بين أحزاب هذه الحكومة في أواخر ذلك الشهر واحدٌ من أهم مطالب "سموترش"، بنقل صلاحيات عديدة من الإدارة المدنية التابعة للجيش وأوامره العسكرية، إلى وزارة الدفاع والقانون المدني الإسرائيلي، الذي صار يسري على جميع "أرض إسرائيل"، وليس فقط داخل حدود 1948 أو المستوطنات. تخص تلك الصلاحيات التخطيط الحضري والإقليمي والبناء وإدارة الأراضي والمحميات الطبيعية والمواقع الأثرية، والإشراف على هيئات الحكم المحلي والترخيص المهني، والتجارة وغيرها من الوظائف الاقتصادية التنموية الحيوية للفلسطينيين. في الوقت نفسه، يتقدم النقاش في "الكنيست"، حول سن قانون يمدد صلاحيات سلطة الآثار الإسرائيلية، لتشمل كافة مناطق "يهودا والسامرة".

يأتي ذلك في سياق حملة تكثيف الاستيطان منذ بدء العدوان، والتي لم تتوقف لحظة واحدة خلال السنوات الأخيرة بينما ينشغل العالم بإدانته عن ذلك. ليس سراً أن "سموتريش" يعتبر، بل يتباهي أمام أنصاره، بأن الخطوات الإجرائية الأخيرة، ليست سوى تجسيد قانوني وفعلي على أرض الواقع، للضم الإسرائيلي الموعود في برنامج الحكومة. لدى "بلزاليل سموتريش" خطته، منذ 2015 والمسماة ب"خطة الحسم" ذات المراحل الثلاث، ولن يحيد عنها. فهي بسيطة، وتعطي للعرب المقيمين في أرض إسرائيل ثلاثة خيارات: إما الخضوع للدولة اليهودية والمشروع الصهيوني، أو "الهجرة الطوعية" الممولة من إسرائيل، أو مواجهة مصيرهم على يد الجيش الإسرائيلي، الذي يعرف كيف يتصرف مع هؤلاء."سموترش" يعمل على الأرض، لخلق حقائق صهيونية ويهودية جديدة، وإزالة أخرى عربية وإسلامية تاريخية. في هذه الرزمة من إجراءات الضم الزاحف، تلغي إسرائيل أية حدود متبقية بين مناطق "أ"، "ب" و "ج"، وتعيد تعريف أبجديات الصراع.

قرار أممي جديد حبراً على ورق؟
قد يشتكي الفلسطينيون والعرب من هذه الخطوات إلى "جامعة الدول العربية"، و"المؤتمر الإسلامي"، وقد يطلبون من مجلس الأمن إضافة إدانة جديدة إلى القائمة الطويلة من المطالب الدولية بشأن إنهاء الاحتلال والانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وتفكيك المستعمرات الخ. يتوقع أن تُصدِر "محكمة العدل الدولية" خلال هذه الأيام فتوى قانونية، استجابة لطلب إليها، تقدمت به "الجمعية العامة للأمم المتحدة" للحكم فيما إذا كانت الأراضي الفلسطينية محتلة بموجب القانون الدولي، وماهي تبعات تلك الصفة القانونية. ربما ستزيد مثل تلك الفتوى، من أعلى منبر قانوني عالمي، من قناعتنا بعدالة قضية فلسطين، مؤكدة ما نعرفه أصلاً من تجربتنا الفلسطينية المريرة منذ 75 سنة: إذا لم يكن هذا احتلالاً، فماذا يكون؟

المشكلة هنا، لا تكمن في حجم أو تعدد مجالات الانتهاك الإسرائيلي للقانون الدولي، بل في مساحة الفجوة بين الرؤية الدولية والموقف الإسرائيلي حول مستقبل الضفة الغربية وقطاع غزة. فمجالات الاختلاف جوهرية، ولم يعد من الممكن التقليل منها أو توقع إقناع إسرائيل بغير رؤيتها هذه:

أولاً هذه ليست "أراضٍ فلسطينية"، وليست "متنازع عليها"، بل إنها جزء من أرض إسرائيل.
ثم، لا يمكن اعتبارها "محتلة"، فكيف "تحتل" دولة أرضها؟
بالتالي، ما تقوم به إسرائيل ليس استيطان أرض الغير، بل هو "حرب تحرير" للأرض الإسرائيلية، المحتلة من قبل 5 ملايين فلسطيني مقيمين عليها إقامة غير شرعية، بمثابة مهاجرين غير قانونيين، لا حقوق لهم في الدولة، التي هي دولة الشعب اليهودي، من النهر إلى البحر.
نعم، إلى هنا وصلت حرب المئة سنة على فلسطين، حيث تتم إعادة رسم ملامح الصراع واتجاهاته، من خلال تطبيق ضم فعلي لما تبقى من فلسطين، سعياً إلى تغيير الرواية العالمية وإلزامية القانون الدولي، من نضال تحرري وطني فلسطيني مشروع ضد مستعمِر غازٍ متوحش، إلى حرب استقلال إسرائيل الثانية، تهدف من خلالها إلى إتمام ما لم يتم إنجازه في 1948 و1967 في بناء الدولة اليهودية على كامل أرض فلسطين.

في خضم حرب إبادة شاملة، قد يبدو مثل هذا الاستدراك لما نواجهه مع "سموترش" ملاحظة هامشية. وربما ينظر إلى ظاهرة "سموترش"، و"بن غفير" على أنها ليست سوى الوجه الحقيقي للصهيونية ومشروعه الاستعماري الاحتلالي، في إرث "جاوتنسكي"، و"بيغن"، و"شارون". لكن ذلك الاستنتاج المبسط، يغفل التغيير الجوهري في التوازنات الديموغرافية والسياسية في داخل المجتمع الإسرائيلي التي سمحت لهذا التيار القومي الديني بالوصول إلى موقع محوري واستراتيجي في النظام السياسي والعسكري الأمني الإسرائيلي، وهذا بجديد. ان دلت تجربتنا مع مختلف أشكال وأجيال الصهيونية على شيء، فإنها تؤكد أن هذه الدولة تعمل بعقيدة راسخة، وتخطيط طويل المدى، وبآليات تنفيذية استعمارية متنوعة ومتجددة مستحدثة دائماً، تعمل ك"دولة" بكل معنى الكلمة. مقابل ذلك لا تزال السياسة الفلسطينية الرسمية والشعبية في حال دفاع ورد فعل وتشرذم وانقسام، من دون قيادة موحدة، والسياسة العربية المطبِّعة وغير المطبِّعة في حال عدم اكتراث أو عجز أو تواطؤ، بينما المجتمع الدولي يتباكى أحياناً، لكنه يترك "سموترش" ورفاقه يلعبون كما يحلو لهم.

رويداً رويداً، نبتعد مرة أخرى، بل أخيرة، عن احتمالات تحقيق حل الدولتين، ونتجذر أكثر مع كل يوم وكل تشريع جديد وكل إجراء إداري استعماري، في واقع دولة "الابارتهايد" الواحدة.

المصدر/ السفير العربي