حمل زعيم قبيلة لمتونة الأمير يحيى بن عمر اللمتوني مشعل الفتوحات عن سلفه قائد جدالة الأمير يحيى بن إبراهيم، وكان سندًا قويًّا للشيخ القادم من سوس المغرب عبد الله بن ياسين في تأسيس جماعة المرابطين وتهيئة الطريق لبناء دولة قوية.
في طريق الجهاد، استشهد الأمير ابن عمر وخلفه أخوه الأمير أبو بكر بن عمر الذي واصل المسيرة، وكان بطل ضمّ المغرب الأقصى إلى الدولة المرابطية الناشئة، ويُنسب إليه الفضل في تدمير إمارة برغواطة وتأسيس مدينة مراكش المغربية.
يقول الداعية الإسلامي المتخصص في التاريخ والفكر الإسلامي، علي محمد الصلابي، في كتابه “الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين”: “لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين، واتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًا وحبًّا للشهادة في سبيل الله، وساهم في توحيد بلاد المغرب، ونشر الإسلام في الصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر، وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت وانقادت للإسلام والمسلمين، ودخل من الزنوج أعداد كبيرة في الإسلام، وساهموا في بناء دولة المرابطين الفتية، وشاركوا في الجهاد في بلاد الأندلس، وصنعوا مع إخوانهم المسلمين في دولة المرابطين حضارة متميزة”.
استرجاع سجلماسة
تولى الأمير أبو بكر قيادة المرابطين عسكريًّا سنة 1056 ميلادي بعد استشهاد أخيه يحيى، وبقيت القيادة الدينية حينها للشيخ عبد الله بن ياسين، وكان بينهما تكامل كبير وتقاسم للمسؤولية في سبيل إعلاء راية الإسلام ونشر كلمة الله في المنطقة الصحراوية.
أولى مهام القائد الجديد كانت استعادة مدينة سجلماسة من المغراوة التابعة لاتحاد زناتة، وكان الشهيد يحيى قد استولى على المدينة في وقت سابق، لكنه خسرها فيما بعد نتيجة انقسام الجيش وتمرد قادة سجلماسة على حامية المرابطين هناك.
استعاد الأمير أبو بكر مدينة سجلماسة بشكل نهائي وضمّها إلى ملك المرابطين في أواخر سنة 1056، وكانت هذه المدينة مهمة لبناء الدولة لدورها التجاري البارز، حيث كانت معبرًا حيويًّا للتجارة العابرة لشمال أفريقيا، سواء كانت قادمة أو متجهة إلى المشرق أو دول أفريقيا جنوب الصحراء، كما كانت قطب إنتاج هامًا زوّد التجار بحاجياتهم من السلع.
وصفها ذو الوزارتَين لسان الدين بن الخطيب المدينة، في كتابه “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”، بأنها “أم البلدان، المجاورة لحدود السودان، فتقصدها -بالتبر- القوافل، وتهدي إلى محرابها النوافل، والرفاهية بها فاشية، والنشافي الحلية ناشية. لكنها معركة غبار، وقتيل عقربها جبار، ولباسها خامل، والجفاء بها شامل، والجو يسفر عن الوجه القطوب، والمطر معدود من الخطوب”.
حتى لا تتكرر خسارة المدينة مجددًا، أطلق الأمير المرابطي أبو بكر حملة لتأمين الطرق والوديان جنوب المغرب، فتمّت السيطرة في البداية على وادي درعة وهو أطول وادٍ في المغرب، ثم تحرك على طول وادي نول الممتد على حافة جبال الأطلس الصغير، وفي الأثناء توجّه نحو تافيلالت فأخضعها.
بعد ذلك، سيطر الأمير أبو بكر على وادي سوس بجنوب غرب المغرب وعاصمته المحلية تارودانت، وقبلها كان فقهاؤه يستعجلونهما للقضاء على شيعة المدينة، وعادت تارودانت تحت النفوذ المرابطي إلى مذهب أهل السنّة، وعرفت استقرارًا سياسيًّا وازدهارًا اقتصاديًّا ونهضة عمرانية.
إخضاع برغواطة
قاد الأمير أبو بكر بمعية الشيخ بن ياسين عديد الغزوات في سلسلة جبال الأطلس بعد أن تحالفا مع قبائل مصمودة الأمازيغية، لكن المنية استعجلت الشيخ ابن ياسين، إذ استشهد على يد البرغواطيين الذين اتبعوا مدّعي النبوءة صالح بن طريف سنة 1059 ميلادي.
عقب استشهاد الشيخ ابن ياسين، حرك الأمير أبو بكر جيش المرابطين وتوجّه نحو إمارة برغواطة، وقام باستئصال الإمارة الوثنية وجمع أموالها وتقسيمها بين المرابطين، وحوّل ملكية الأراضي من أصحابها البرغواطيين إلى القبائل الوافدة عليها.
وكانت إمارة البرغواطيين آنذاك مكونة من خليط من البربر اجتمعوا على شخص ادّعى النبوة هو صالح بن طريف بن مالك البرباطي، وعُرفت الإمارة بخروج أهلها عن تعاليم وشرائع الإسلام، وجنوحهم في عدد من الأمور إلى الديانات المجوسية واليهودية، وامتزاجها ببعض الممارسات والطقوس الشركية والوثنية.
أخضع الأمير المرابطي أبو بكر بن عمر إمارة برغواطة، وأصبح زعيم المرابطين العسكري والديني بعد وفاة شيخه ابن ياسين، وحمل لقب “أمير المسلمين”، وهو اللقب الذي سيتبناه زعماء المرابطين من بعده.
الزواج والإقامة في أغمات
لتثبيت قوته وإقامة تحالفات جديدة، تزوج زعيم المرابطين بفاتنة الأمراء زينب بنت إسحاق النفزاوية، وتعود جذورها إلى قبيلة نفزاوة الأمازيغية بأفريقيا التونسية، وهي تعدّ من أشهر القبائل خلال العصور الوسطى في بلدان المغرب.
وكانت زينب النفزاوية ذات حسن وجمال وحسب ونسب، تغنّى بها الشعراء وسحرت الألباب والأفئدة، واشتهرت بقوتها وبنباهة العقل والسداد في الحكم والبصيرة في السياسة والمشورة، والحظوة الرفيعة التي مُنحت لها من أمراء المرابطين.
أشارت ذات الهمة العالية والشأن العظيم على زوجها أن يقيم في أغمات الواقعة عند بداية سفوح الأطلس الكبير ويسيّر شؤون الحكم من هناك، فكان لها ما أرادت، فالأمير أبو بكر يثق برؤيتها لما لها من خبرة في مجال السياسة والحكمة والفلسفة والثقافة والحساب.
أقام الأمير أبو بكر عند زوجته نحو 3 أشهر، وكان للمدينة حينها مكانة متميزة، ليسارع بعد ذلك إلى تلبية نداء الجهاد وإعلاء كلمة الله، حيث ورد عليه رسول من بلاد القبلة فأخبره باختلال أمر جنوب الصحراء، ووقوع الخلاف بين أهلها.
غادر زعيم المرابطين سنة 1060 ميلادي نحو الجنوب، وفي الطريق أمر بنصب الخيام على طول نهر تانسيفت، وإقامة معسكر للجيش المرابطي حتى يكون مقره الرئيسي ومنطلق الفتوحات القادمة نحو الصحراء، وكان قصر الحجر النواة الأولى لهذا المعسكر، وبعد سنوات قليلة سيصبح هذا المعسكر مدينة كبيرة تحمل اسم “مراكش”.
حملات الصحراء الكبرى
لم يكن الأمير أبو بكر بن عمر متأكدًا من عودته إلى أغمات، فالعدو الصحراوي معروف بشراسته في القتال، فاختار أن يطلّق زوجته زينب النفزاوية وأمرها بالزواج من ابن عمه يوسف بن تاشفين إذ انقضت أشهر العدة، كما عهد لابن عمه بقيادة منطقة سوس والمناطق التابعة لها بعدما سيطروا عليها بالكامل، وكلّفه بمسؤولية الحفاظ على الجبهة ضد زناتة في الشمال.
غادر الأمير أبو بكر أغمات وجعل طريقه على بلاد تادلا وسط المغرب الأقصى الخاضعة لسيطرة المرابطين، حتى أتى مدينة سجلماسة فدخلها وأقام بها أيامًا حتى أصلح أحوال أهلها وقادتها، ثم سافر إلى جنوب الصحراء يبتغي إرشاد الناس إلى الطريق السوي.
اتجه الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني إلى جنوب السنغال، بعد أن علم أن هناك خلافًا بين المسلمين في تلك الربوع، ورأى في هذا الأمر شرًّا وأنه لو استشرى بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة، وأن دولته الوليدة ستكون في خطر.
استطاع الأمير ابن عمر بفضل حنكته وخبرته السياسية وتفقّغه في الدين أن يحل الخلاف، ثم توجّه نحو القبائل الوثنية في تلك المنطقة التي لم يصلها الدين الإسلامي بعد، فصار يعلمهم الإسلام ويفقّهم في الدين، فدخل منهم جمع غفير في الإسلام وقاومه آخرون.
خاض زعيم المرابطين حروبًا كثيرة ضد القبائل الوثنية في الصحراء، وظل يتوسّع في قبيلة تلو قبيلة، وينزل من مكان إلى مكان محققًا انتصارات كثيرة، فانتشر الإسلام في تلك المنطقة وكانت له الكلمة الفصل.
ولما تيقّن الأمير أبو بكر من سيطرة الإسلام في الصحراء، قرر العودة إلى الشمال ومركز الحكم هناك وكان ذلك سنة 467 هجري، إذ رأى أهمية أن يعود إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين، ويوحّدا جيش المرابطين مجددًا والانطلاق في فتوحات جديدة.
عاد الأمير بن عمر فرأى أن ابن تاشفين قد فتح مساحات شاسعة في بلاد المغرب، وتيقن من صعوبة تنازل ابن عمه عن الحكم لصالحه، وحتى لا تتفكك الدولة الوليدة بارك الأمير أبو بكر انتصارات الأمير يوسف، وأمره بمواصلة الفتوحات وطاعة الله تعالى.
العودة إلى بلاد السودان
قرر الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني العودة إلى أطراف الصحراء جنوبًا لتسوية الاضطرابات هناك، وترك ابن تاشفين يواصل فتوحاته تجاه الشمال، وفي طريقه كان يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه.
وبداية من سنة 1076 ميلادي أطلق الأمير أبو بكر مجموعة جديدة من الحملات العسكرية ضد مناطق سيطرة إمبراطورية غانا التي شملت حينها موريتانيا والجزء الشرقي من السنغال، وبعض المناطق من دولي جامي، ووصلت قواته إلى تادميكا وغاو، ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي للإمبراطورية بشكل كبير.
بقيَ الزعيم أبو بكر بن عمر مجاهدًا للوثنين في بلاد السودان، إلى أن استشهد من سهم مسموم أصابه في شهر شعبان سنة 1087 ميلادي، بعد أن استقام له أمر الصحراء كافة إلى جبال الذهب من بلاد السودان وسيطرت كلمة الله العليا.
وباستشهاد الأمير أبو بكر بن عمر في بلاد السودان انحلَّ الطابع الصحراوي لحركة المرابطين وتوسعها جنوبًا لتصير مغربية تتوسع شمالًا، لتصل فيما بعد إلى بلاد الأندلس وتفرض سيطرة الإسلام في تلك الربوع التي يتربص بها النصارى والصليبيون.
خصَّ الأمير بن عمر اللمتوني حياته للفتوحات واستشهد خلالها، إذ كان يغزو في كل عام مرتين، ويفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام، دون أن يلتفت إلى ملاذ الحياة ويعيرها أي اهتمام، فكان المساهم الأبرز في ولادة دولة قوية ستحكم بلاد المغرب لعقود طويلة.
المصدر: نون بوست