سُمّي أخاه الأكبر محمد صفر لولادته في شهر صفر، أما هو فسُمّي أحمد محرّم باسم الشهر الهجري الذي وُلد فيه سنة 1877 (تحديدًا يوم 5 محرّم سنة 1294 هجري الموافق لـ 20 يناير/ كانون الثاني)، في دلالة على تعلّق والده حسن بن عبد الله الشركسي بالدين الإسلامي.
وُلد وترعرع أحمد محرّم على تعاليم الإسلام الحنيف كما أرادت العائلة، إذ نال في طفولته قسطًا وافرًا من التعليم الديني، فقرأ السيرة النبوية والتاريخ والقرآن الكريم، وحفظ الحديث الشريف فكان محبًّا للخلافة الإسلامية داعيًا لعودتها، كما نال قسطًا من التعليم المدني وطالع النصوص الأدبية السائدة.
في الأثناء برزت مَلَكة الشعر لدى أحمد، فقرّر أن يعيش حياته للأدب فقط، وعُرف شعره مبكّرًا بجودة الصياغة وسهولة الألفاظ ودقة المعاني وجمال الكلمات، وقد أثّرت فيه تربيته الإسلامية، فكان شاعرًا حرًّا ملتزمًا بقضايا شعبه المصري وبقضايا الأمة الإسلامية جمعاء.
توازيًا مع ذلك، خصَّ أحمد محرّم فلسطين الجريحة بجزء كبير من شعره العذب، خاصة بعد أن برزت على ساحة العمل الوطني بعد وعد بلفور سنة 1917، إذ تغنّى بها وتنبأ بالنكبة قبل وقوعها بـ 15 عامًا، وكان وعد بلفور حافزًا له أن يكتب لفلسطين وعن فلسطين.
استشراف النكبة
حدثت النكبة في تاريخ 15 مايو/ أيار 1948، عندما استولت العصابات الصهيونية في ذلك اليوم على معظم أراضي فلسطين التاريخية، وهُجّر الفلسطينيون من أرضهم وتوزّعوا على مخيمات اللجوء حول العالم، وتعرّضوا للاضطهاد والتعذيب.
تفاجأ العرب بما حصل على أرض فلسطين، خاصة أن جيش الإنقاذ المشكّل من الجامعة العربية حينها، طمأن الشعوب وأكّد أن تحرير فلسطين واستعادة السيادة على الأرض مسألة وقت فقط، لكن لم يحصل شيء من ذلك.
يومها كُتبت المقالات ونُظمت القصائد لبيان هول الحادثة والتعبير عن الوجع الفلسطيني والعربي، لكن هناك من سبقهم وتنبّأ بما حصل قبل 15 سنة، ففي يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1933 نشرت صحيفة “البلاغ” المصرية قصيدة طويلة للشاعر أحمد محرّم بعنوان “نكبة فلسطين”، وكانت هذه المرة الأولى التي يُستعمل فيها هذا المصطلح في القضية الفلسطينية.
سبق الشاعر أحمد محرّم عمالقة الشعر في زمانه، وابتكر هذا المصطلح لما كانت لديه من رؤية استشرافية، وفي تلك القصيدة المؤلفة من 80 بيتًا بكى الشاعر وجع فلسطين، واستحثّ همم العرب على نصرتها لكن النصر لم يأتِ إلى اليوم، فكتب: “يا فلسطينُ اصْطَليها نكبة .. واشهديه في حماهم مأتمًا.. واشربي كأسك مِمَّا عصروا .. أذكري يومك في أفيائهم.. هاجها للقومِ عهدٌ مُضطرِمْ .. لو رَعَوْا للضَّعفِ حقًا لم يَقُمْ.. من زُعافٍ جائلٍ في كلِّ فَمْ .. ودَعِي الأمسَ فما يُغني النَّدَمْ”.
ضمّ أحمد محرّم في هذه القصيدة إحساسه بالهول ممّا يجري في فلسطين الحبيبة، وعالج بكلماته الرقيقة حينًا والقوية حينًا آخر حجم الكارثة المحدقة بالبلاد، ورصد فيها الآلام وهموم الفلسطينيين، فكان منصفًا لهم ضد الاحتلال البريطاني المساند للعصابات الصهيونية.
ضمن أشعاره الغزيرة حمّل “نابغة البحيرة” (لقب أطلقه عليه مؤسس الحزب الوطني وجريدة “اللواء” في مصر مصطفى كامل)، ساسة بريطانيا وأمريكا مسؤولية مأساة فلسطين، رغم ادّعائهم البحث عن حلول سلام لهذه القضية، وفي ذلك يقول: “إن الذي زعم السلام مُرادُه .. جعلُ الدماء سبيلَه والمركبا.. إن كان قد غمر الزمانَ وأهلَه .. كذبًا فمِن عاداته أن يكذبا.. أرأيت إذ سكب الدموع غزيرة .. يأبى الحياءُ لمثلها أن يُسكَبا.. متصنِّعٌ باسم الضعيف يُرِيقها .. وهو الذي ترك الضعيف معذَّبا”.
استنهاض الهمم
استشرف أحمد محرّم النكبة بجميع تفاصيلها قبل وقوعها بسنوات، ورأى الظلم الذي وقع على فلسطين وأهلها وهي الأرض المقدسة، ولها في ضمير المسلمين ما لها من مكانة، ما دعاه إلى كتابة الشعر لإيقاظ الوجدان والشعور واستنهاض همم المسلمين للدفاع عن موطن الأنبياء ومسرى الرسول محمد (ص).
علا صوت أحمد محرّم بالجهاد والنضال، وجعل من شعره أداة لبثّ الحَميّة في النفوس، إذ استنفر همم المسلمين المعاصرين في كل مكان لنجدة إخوانهم في فلسطين، وذكّرهم بما أبلاه السلف الصالح، واستنهض هممهم بذكر بطولات محددة وعظيمة قام بها السلف الأول من المسلمين، ما مكّنهم من نشر الإسلام في كل مكان.
يقول أحمد محرّم في قصيدة “خلق العروبة أن تجد وتدأبا”، يهيب بالأمة العربية أن تهبَّ لنجدة فلسطين:”رُسلَ العروبة هل أسَيتم جُرحها .. ما باله استعصى وماذا أعقبا؟.. جُرحٌ تقادَم عهده وتفتَّحت .. أفواهه تدعو الأُساة الغيَّبا.. أنتم أُساة الجُرح فاتخِذوا له .. من طبِّ شيخ أُساتكم ما جرَّبا.. وصفَ الدواء لكم وخلَّف عِلمه .. فيكم فأين يريد منكم مَن أبى؟”.
يرى محرّم أن قوة العرب في التشبُّث بدينهم، داعيًا إلى الوحدة محذّرًا من التشتُّت والضياع الذي يريده لهم أعداؤهم، كما طالب بالجهاد والنضال لاسترجاع الحقوق لأصحابها، وعدم ترك الفلسطينيين يواجهون النكبة بمفردهم بعد أن تكالب عليهم أعداء الدين.
ورغم الوضع المأساوي الذي عايشه وتنبّأ به لفلسطين، وتجنُّد البريطانيين والغرب لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، إلا أن ابن قرية إبيا الحمراء المصرية لم يفقد الأمل بتحقيق النصر ودحر الأعداء الصهاينة والبريطانيين.
وفي قصيدة بعنوان “فلسطين صبرًا إن للفوز موعدا”، يستشرف أحمد محرّم هذا الفوز الآتي لا محال طال الزمن أو قصر، وفي مطلع هذه القصيدة الحماسية يقول شاعر مصر: “فلسطينُ صبرًا إنّ للفوز مَوْعِدا .. فَإِلَّا تفوزي اليومَ فانتظري غدا.. ضمَانٌ على الأقدارِ نصرُ مُجاهدٍ .. يرى الموتَ أن يحيا ذليلًا مُعَبَّدا.. إذا السّيفُ لم يُسْعِفْهُ أَسْعَفَ نَفْسَهُ .. بِبأسٍ يراه السّيفُ حتما مُجرَّدا”.
ضمن هذه القصيدة يتوعّد محرّم العصابات اليهودية بالتصدي لها، والتعهُّد بحماية أرض المقدسات، ويقول إن العدو لن يجد في أرض فلسطين غير المقابر والمآتم، فكيف له أن يكون سيّدًا في هذه الأرض ولم يعرف التاريخ له سيّدًا.
ومن المهم التأكيد أن أحمد محرّم كان كثيرًا ما يلجأ إلى أمجاد الإسلام، كي يستدعيها في مواجهة الظلم الذي واجهته شعوب المسلمين، فهو يتمنى لو عادت الأمة الإسلامية إلى مجدها كي تتخلّص من نير الاستعمار ونوائبه على يديه، ذلك أنه يرى أن التشبّث بالدين الإسلامي وإحياء الخلافة الإسلامية سبيلًا وحيدًا لنصرة الأمة ودحر أعدائها، ولذلك كتب:”لبَّيك يا وطن الجهاد ومرحبًا .. لبَّيك من داعٍ أهابَ وثوَّبا.. لبَّيك إذ بلغ البلاء وإذ أبى .. جِد الزمان وصرفه أن نلعبا.. من ذا يرى دمَه أعزَّ مكانة .. من أن يُخضَّب من “فلسطين” الرُّبى”.
الأقصى الحزين
بكى أحمد محرم فلسطين واستشرف ضياعها مبكرًا، ما دعاه لاستنهاض همم العرب والمسلمين، علّهم إن رجعوا إلى دينهم الإسلامي الحنيف وأقاموا الخلافة الإسلامية وتأسّوا بالرسول الكريم والصحابة رضوان الله عليهم، أن ينصروا هذا الوطن السليب.
خصَّ الشاعر المصري المسجد الأقصى بديوان كامل أطلق عليه “الأقصى الحزين”، وفيه من حلاوة الكلام ودقة البيان وعذوبة المنطق ما يجعلك تحلّق في فضاء الجمال والطهر المقدسي.
أظهر أحمد محرّم في 9 قصائد متنوعة حبّه الكبير للمسجد الأقصى وتعلقه به كسائر المسلمين بل أشدّ، ولم يكتفِ بإبراز حبّه له، إنما تحدّث عن تفاصيل المسجد والأحداث التي ألمّت به، فضلًا عن النكبات والويلات التي تحاول المساس بقدسيته وطهره.
عبّر شاعر الوطنية والأخلاق من خلال هذا الديوان الشهير عن كلِّ حرٍّ يرى في المسجد الأقصى جزءًا منه وعقيدةً راسخة، وارتباطًا بالوحي والسماء، ومركزًا لتدريس العلوم ومعارف الحضارة الإسلامية، لا يمكن بأي حال أن يتم التفريط فيه.
استشرف أحمد محرّم النكبة الفلسطينية، إلا أنه توفي قبل وقوعها بـ 3 سنوات (توفي يوم 13 يونيو/ حزيران 1945)، تاركًا عشرات القصائد في الشعر السياسي التي تتغنّى بفلسطين وتبرز تعلقه بهذا الوطن المكلوم، وإن كان بعيدًا عنه جغرافيًّا فإنه قريب منه روحيًّا.
المصدر: نون بوست