بقلم: هاني المصري
هناك حديثٌ متزايدٌ عن احتمال انهيار السلطة خلال الصيف الحالي، فهل مثل هذا السيناريو حتميٌ أم مرجحٌ أم مستبعدٌ أم محتملٌ؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تذكّر أن السلطة ولدت من رحم اتفاق أوسلو وعملية التسوية التي كانت تقوم على التزامات متبادلة، وهي عملية كانت مختلة لصالح الاحتلال، وفقدت مبرر وجودها بعد قيام حكومات إسرائيل المتعاقبة بقتل الاتفاق منذ سنوات عديدة، وهي لم تقم بدفنه حتى لا تتحمل المسؤولية عما اقترفت يداها، فهي لم تعد تلتزم بالتزاماتها، وتطالب في الوقت نفسه باستمرار السلطة في تنفيذ التزاماتها ضمن سقف منخفض جدًا، وصولًا إلى الميل المتزايد نحو تقويض السلطة بالتدريج بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية من ائتلاف أحزاب اليمين الديني والقومي المتطرفة، وذلك على الرغم من اعتراض الأجهزة الأمن الإسرائيلية والجيش، الذين يرون أن السلطة تقوم بدور حميد للاحتلال، وانهيارها قد يخدم أعداء إسرائيل، وخاصة دعاة المقاومة الشاملة كطريق لتحقيق الأهداف الوطنية التحررية الفلسطينية.
سقف التعامل مع السلطة اقتصادي أمني
ما حصل من تغيير في السياسة الإسرائيلية ضد السلطة وجه ضربة قاضية لها، وأصبح سقف التعامل معها اقتصاديًا أمنيًا بلا مفاوضات ولا عملية سياسية، وهذا أوصل السلطة إلى وضع مطلوب منها التحول مرة أخرى، حيث كانت سلطة ضمن عملية سياسية والتزامات متبادلة، وأصبحت سلطة من دون التزامات متبادلة ولا عملية سياسية، ومطلوب منها أن تصبح سلطة أو سلطات عميلة، وما يقتضيه ذلك من إجراء "الإصلاح والتجديد" المطلوب أميركيًا وإسرائيليًا لتصبح سلطة "متجددة".
منذ تأسيس السلطة، وجدنا دعوات لإصلاحها كلما تعنتت إسرائيل وتطرفت وتخلت عن المرجعية والاتفاقيات السابقة، وبدلًا من تحميل الاحتلال المسؤولية، يُحمّل المجتمع الدولي الجانب الضعيف المسؤولية (كما حصل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات ويجري حاليًا مع اختلاف الظروف والأسباب مع الرئيس محمود عباس)، ليس من أجل إصلاح السلطة ومكافحة الفساد المنتشر فيها، بل من أجل تبرئة الاحتلال من جرائمه، وتمكينه من إدارة الصراع أو تقليصه أو حسمه، وإضاعة الوقت، ودفع السلطة إلى تقديم المزيد من التنازلات لتلبية الشروط الإسرائيلية الجديدة.
دعوات إصلاح السلطة حق يراد به باطل
هنا، نحذر المجتمع الدولي والدول العربية من الوقوع في فخ دعوات الإصلاح الآتية من تل أبيب وواشنطن، التي هي حق يراد به باطل، حيث يشاركون في الحصار وتجفيف الموارد عن الفلسطينيين وسلطتهم، من خلال تشكيل حكومة ذات صلاحيات، ورئيس فخري، تنفذ المطلوب منها. ومعارضة الإصلاح الزائف لا يعفي السلطة من ضرورة إجراء الإصلاح والتجديد والتغيير الجوهري المطلوب. وهذه مسؤولية جميع العناصر والقوى والمؤسسات الفلسطينية التي تكافح من أجل الحكم الرشيد، وتأمين الحقوق والحريات والديمقراطية، وتحقيق المساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد من أجل المصلحة الفلسطينية.
على الرغم مما سبق، استبدلت القيادة المتنفذة عمليًا برنامج الدولة التي كانت السلطة مجرد مرحلة انتقالية على طريق تحقيقها إلى برنامج آخر، حيث بات مجرد بقاء السلطة هو الهدف.
وهنا، نضع السلطة في السياق الذي تقف فيه؛ ما يمكنا من فهم مصيرها، فهي فقدت مبرر وجودها، وكانت بحاجة إلى تغيير وميلاد جديد، ولكنها لم تسع إلى تحقيقه؛ لأن من مصلحة المتنفذين بقاء الوضع على حاله، ولم يستطع المعارضون المنادون به تحقيقه.
تغيير السلطة ضرورة
إذًا، السلطة التي ولدت في العام 1994 ماتت بموت اتفاق أوسلو في العام 2000، وإحياؤها بحاجة إلى سياق جديد ومقاربة جديدة، وهذا ممكن من خلال تغيير السلطة (طبيعتها وبرنامجها وشكلها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها ) لتصبح سلطة الشعب وأداة من أدواته.
لقد بات تغيير السلطة شرط بقائها، خاصة أن سلطات الاحتلال تضغط على السلطة، وتريد أن تحولها من سلطة متعاونة إلى عميلة.
تغيير السلطة ضرورة، حتى لو أدى ذلك إلى بناء سلطة جديدة، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في سياق النضال لدحر الاحتلال، لتصبح السلطة مجاورة للمقاومة، وفي خدمة البرنامج الوطني، وأداة من أدوات منظمة التحرير التي بحاجة ماسة إلى إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتصبح قولًا وفعلًا الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
الدليل على أن موت أوسلو قاد إلى موت السلطة كما كانت، أن صلاحياتها حتى المحدودة تبخرت بالخروقات الإسرائيلية اللامحدودة للالتزامات الإسرائيلية في أوسلو، حيث أزالت سلطات الاحتلال الفروق بين المناطق المصنفة (أ) و(ب) و(ج)، وأصبحت كلها مستباحة ليل نهار. كما أن شرعية السلطة تآكلت إن لم نقل انتهت، مع عدم إجراء انتخابات منذ نحو عشرين عامًا، ومن دون وفاق وطني ولا إنجازات، وفي ظل تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتهميش القضية، وخاصة بعد انقسامها إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال، وفي ظل أن 60% من الشعب يطالبون بحل السلطة كما جاء في آخر استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية. وهذا متوقع، فالسلطة لا تشبه شعبها، ولا تحقق أهدافه، ولا تدافع عنه، وموازنتها تقزّمت، لدرجة تنذر بانهيارها المالي خلال أشهر قليلة إذا لم تحصل على دعم سياسي ومالي كبير ومستدام قد يمنع الانهيار، ولكنه لا يكفي لإنقاذ السلطة إذا لم يتم اعتماد مقاربة جديدة قادرة على تغيير السلطة.
السلطة مدينة للموظفين
كما أن السلطة في ظل القرصنة والإجراءات الإسرائيلية وسوء الأداء لم تعد قادرة منذ سنوات على دفع رواتب الموظفين كاملة، لدرجة أن السلطة مَدينة لكل موظف برواتب ستة أشهر كاملة، والحبل على الجرار، وهذا مجرد جزء بسيط من دين السلطة البالغ في أقل التقديرات 7 مليار دولار، ويصل في أقصاها إلى 11 مليار دولار.
ما سبق يعطي جدية وخطورة للأحاديث عن انهيار السلطة، خاصة في ظل أن موقف الحكومة الإسرائيلية من السلطة يتذبذب بين من يطالب ببقاء السلطة بين الموت والحياة على حافة الانهيار وعرضة للابتزاز الدائم، ومن يطالب بحل السلطة لأنها كما قال بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والوزير المسؤول عن الاستيطان في وزارة الحرب، تجسد الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة، وبقاؤها يبقي الطريق مفتوحًا لقيام الدولة الفلسطينية التي يجب عمل كل شيء لمنع قيامها لأنها تشكل خطرًا على وجود إسرائيل.
وفي هذا السياق، تأتي خطة سموتريتش التي تسربت أخبارها أخيرًا، وهي تهدف إلى تغيير الوضع في الضفة الغربية بشكل جذري بصورة تحقق ضمها الفعلي من دون إعلان رسمي.
سلطة أوسلو تنهار
نعم، سلطة أوسلو تنهار، ويجب أن تنهار؛ لأنها كانت سلطة حكم ذاتي محدود متعاونة مع الاحتلال، ومقيدة بقيود غليظة سياسية وأمنية واقتصادية يجب التحلل منها بشكل فوري أو متدرج.
ولكن، يجب أن تتغير، أو تقام بدلًا منها سلطة وطنية تكون جزءًا من معركة التحرر الوطني، وفي مواجهة الاحتلال الذي يدفع الأمور بشكل متزايد نحو انهيار السلطة لتحل محلها الفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات المحلية المتنازعة مع بعضها البعض، وتسعى إلى كسب ود الاحتلال؛ ما يساعد الاحتلال على بث الفتنة في الصفوف الفلسطينية، وعلى تنفيذ مخططاته التوسعية بصورة أسرع وبأقل التكاليف.
حتى لو انهارت السلطة في مجرى المواجهة مع الاحتلال، يجب بناء مؤسسات وطنية في كل المجالات لتكون كلها سلطة مسؤولة عن مختلف جوانب الحياة، حيث تكون منظمة التحرير الموحدة المرجعية العليا والمسؤولة عن المسار السياسي، بما يشمل المقاومة والمفاوضات عندما تصبح المفاوضات ممكنة، وتكون مسلحة بأنياب على أساس وبعد تغيير موازين القوى، حتى يمكن إنهاء الاحتلال وإنجاز الحرية والاستقلال، على طريق إنجاز بقية الحقوق والأهداف المرحلية والنهائية.