2024-11-27 12:36 م

قرن من الصّمود الفلسطيني المذهل.. قراءة في كتاب

2024-06-17

الكتاب: "حرب المئة عام على فلسطين، قصّة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917- 2017"
الكاتب: رشيد الخالدي
ترجمة: عامر شيخوني
الناشر: الدار العربية ناشرون، بيروت ط1، يناير  2021
عدد الصفحات: 358

ينتمي رشيد الخالدي الكاتب والأكاديمي الأمريكي المتخصّص في التاريخ إلى الأرستقراطية التي كانت تحكم فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر لمّا كان احتلالها يدبّر في العاصمة لندن وفي مؤتمري بازل السويسرية. ومن هذا الانتماء المزدوج جمع الكتاب بين الصرامة الأكاديمية والسيرة الذاتية والعائلية. ورغم المنحى التأريخي لأثر "حرب المئة عام على فلسطين، قصّة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917- 2017" لم يكتف الباحث بالإخبار، بل كان أميل إلى النّظر والتّحقيق على عبارة عبد الرحمن بن خلدون وإلى استجلاء القوانين التي كانت تحكم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

1 ـ قرن من الزمان وستة حروب لإخضاع الفلسطينيين

ظل العدوان الصهيوني مستمرا منذ حركات الهجرة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم. ورغم استرساله وامتداده يردّه الباحث إلى ست حروب كبرى تمتد من وعد بلفور في نوفمبر 1917 إلى 2017 تاريخ تحبير الكتاب. فتختلف كل واحدة منها عن سابقاتها في الأسلوب وإن اتفت معها في الهدف. فـ"ـإعلان الحرب الأول" يمتدّ من  1917إلى  1939 أي من وعد بلفور الذي يمنح فلسطين لليهود لتكون وطنهم القومي ومن بداية تنفيذه ميدانيا، حتى القضاء البريطاني على الثورة الفلسطينية الأولى فجر الحرب العالمية الثانية.

وقوام هذه الفترة تحالف ثلاثي بين رأس المال الذي كان يموّل الهجرات اليهودية من أوروبا الشرقية خاصّة والتواطؤ البريطاني مع الحركة الصهيونية والعمل الصهيوني من مستوى العسكري والقانوني والدعائي. أما عاما النكبة (1947-1948) فمثّلا "إعلان الحرب الثاني". وفيه تسطو البريطانيا على دولة بأسرها وتسلّمها بكل مؤسساتها إلى العصابات الصهيونية. ويعرض الخالدي هنا تبعاته اللاحقة على المستوى الفلسطيني والعربي ومنها حرب السويس 1956.
ويخص الباحث سنة 1967بـ"إعلان الحرب الثالث". ولا شكّ أنه سيمثّل لنا موطن مفارقة. فقد استقر في الأذهان العربية أنّ تحرير فلسطين كان على مرمى حجر عندها وأنّ تقصيرا ما حدث في الجبهة المصرية حال دون ذلك. وعلى مرارة هذه القناعة تظل مطمئنة. فخلاصة تقديرها هنا أنّ الخلل الذي حدث على صلة، بلا شكّ، بأفراد خذلوا المجموعة أو بثغرة جدّت لسوء تصرّف، ولا يتعلّق الأمر بانهيار في المنظومة الدفاعية العربية بأسرها إذن. غير أنّ الأثر يقدّم لنا زاوية أخرى تفضح البعد العاطفي في هذا التّصور. فالتقارير الاستخباراتية الأمريكية كانت تتوقع نصرا ساحقا لإسرائيل لتفوق قوتها العسكرية على كافة الجيوش العربية مجتمعة، وما كُشف من هذه التقارير لاحقا يؤكّد أن الولايات المتحدة كانت ستدمّر الوات العربية بنفسها إذا ما آل الأمر إلى غير ما توقعته.

وكانت سنة 1982 تاريخا لـ"ـإعلان الحرب الرابع" بعد أن أُخرجت المقاومة من الأردن نحو الأراضي اللبنانية إثر أحداث أيول الأسود. ويتوقّف الكتاب خاصة عند تاريخ مجزرة صبرا وشاتيلا وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان نحو تونس، مبرزا أنّ القادة اللبنانيين أو الفلسطينيين قد دفعوا وحدهم ثمن انخراطهم في تلك الصدامات. فقد أغتيل بشير الجميل ومساعده العسكري إيلي حبيقة وآخرون كثر وسجن سمير جعجع لـ11 سنة و أغتيل من الجانب الفلسطيني أبو جهاد وأبو إياد وياسر عرفات لاحقا في ظروف مختلفة. وبالمقابل لم يحاسب أحد من الإسرائيليين أو الأمريكان المتواطئين معهم.

ثم جاءت الانتفاضة الأولى التي مثّلت "إعلان الحرب الخامس" وامتدت من  1987 إلى 1995. فجعلت الإسرائيليين يوقنون عسرَ فرض احتلالهم بقوات عسكرية في مراكز كثيفة السكان وضرورةَ استدراج الفلسطينيين إلى سلام موهوم وتوريطهم في مهمة الحفاظ على الامتيازات الإسرائيلية. فكان الشرخ الكبير في الجسد الفلسطيني الذي تولّد عنه إعلان الحرب السادس الممتدّ بين  2000 و 2014.

2 ـ مئة عام من الحرب، مئة عام من تواطؤ الدول العظمى

يطرح السؤال إذن حول سرّ  تعاقب الحروب على الفلسطينيين لقرن من الزّمن بالقانون نفسه: تواطؤ عالمي وخذلان عربي وجرائم حرب ترتكب دون رادع. ويردّ رشيد الخالدي ذلك إلى نجاح الدّعاية الصهيونية في حشد التعاطف الدولي على نطاق واسع وفي جعل بريطانيا العظمى الولايات المتحدة تقدّمان الدعم الكامل للحركة منذ أن أعلن أرثر جيمس بلفور وعده بجعل فلسطين وطنا قوميا  لليهود عام 1917.

وفي الآن نفسه يبيّن أنّ التحالف بين الحركة الصهيونية والدول العظمى أكثر من مجرّد تعاطف. فالغرب كان يعمل على التخلص من اليهود لسيطرتهم على الموارد المصرفية خاصة ولتمزيق الوطن العربي لاعتبارات إمبريالية. وفي كلمة بلفور ما يثبت ذلك. فقد جاء فيها: "إن القوى العظمى ملتزمة بالصهيونية والصهيونية سواء كانت محقة أو مخطئة، جيدة أم سيئة، فهي متأصلة في تقاليد قديمة راسخة، وحاجات معاصرة وآمال مستقبلية لها أهمية أكثر بعداً وصفاً من رغبات و تعصبات 700000 عربي يعيشون الآن في تلك الأرض العتيقة".

ويعرض كل ما فعلته القوى العظمى لاحقا عبر هيمنتها على المنتظم الدولي. فيجد مواقفها تقليبات على الأصل نفسه، بما في ذلك قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947 الذي يتبنّى خطة تقسيم فلسطين  أو القرار مجلس الأمن رقم 242  في نوفمبر 1967 الذي اختزل الاحتلال في قضية لاجئين أو اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1978 أو الضوء الأخضر الذي منحته إدارة ريغان للحرب على لبنان 1982 أو السماح لإسرائيل بقضم أرض فلسطين وإنشاء المستوطنات تحت عناوين مختلفة.

وليس من المصادفة أن يعترف رئيس الولايات المتحدة بمناسبة مرور قرن على وعد بلفور بالقدس عاصمة لإسرائيل. فقد قال دونالد ترمب في  06 ـ 12 ـ 2017 بحسم: "رفعنا القدس عن طاولة المفاوضات، ولا يجب علينا الحديث عنها بعد الآن".

ومقابل هذا الانخراط الكامل في العدوان الإسرائيلي لم يقدّم "راعي السلام" للفلسطينيين غير التأييد اللفظي  بداية من جيمي كارتر إلى إدارة كلينتون إلى إدارة أوباما.

3 ـ من الاحتلال إلى التطهير العرقي المعلن دستوريا

تعود إسرائيل اليوم إلى عمليات التطهير العرقي من جديد، بعد حربي 1948 و1967. فقد وضعت خططا صريحة لتقسيم الضفة الغربية، ودعا زعماء برلمانيون إسرائيليون إلى طرد الفلسطينيين منها. وعمليا يتم التقدّم في تنفيذ هذه الخطط،سواء بالتخلص ممن يتمسكون بأرضهم بهدم البيوت أو بإجراءات بيع مزيفة. ويردّ الباحث هذه العودة إلى سيطرة المستوطنين والقوميين المتطرفين دينيا على الحكومات الإسرائيلية المتتالية.

لقد كانت الحركة الصهيونية عنصرية منذ نشأتها. ولكن هذا البعد ظل ممارسة ميدانية. فإعلان استقلال إسرائيل سنة 1948 ينصّ على "المساواة التّامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بعض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس". أما اليوم فقد انتقل البعد العنصري من الممارسة المقنّعة إلى الدسترة. 

ففي يوليو 2018 تم تبني القانون الأساسي للدولة القومية اليهودية الذي يشرّع عدم المساواة القانونية بين المواطنين الإسرائيليين. فيمنح حق تقرير المصير القومي حصرياً للشعب اليهودي، ويخفّض وضع اللغة العربية، ويعلن أن المستوطنات اليهودية قيمة قومية أولوية على أي احتياجات أخرى. وتبعا لذلك صرّحت ميكي زوهار Miss Zohar عضو الليكود في الكنيست "إن الفلسطيني لا يمتلك حق تقرير المصير لأنه ليس مالك الأرض أريده أن يكون ساكنا بسبب أمانتي وتبلي لأنه ولد هنا ويعيش هنا ولن أطلب منه أبداً أن يغادر. وأنا آسف لقولي إنهم يعانون من نقيصة واحدة كبيرة: إنهم لم يولدوا يهوداً".

4 ـ الأساطير المتحكّمة في التمثل الغربي للصراع العربي الإسرائيلي

يرصد الأثر مفارقة محيّرة، مدارها على فظاعة جرائم إسرائيل من جهة وعسر إثبات طبيعتها الاستعمارية من جهة ثانية. ويردّ الخالدي ذلك إلى السبق الذي حقّقته الدّعاية الصهيونية. فقد خلقت أساطيرها المبرّرة لاستمرارها من المرجعيات التوراتية ورسّختها في العقول، خاصّة "في الولايات المتحدة الأمريكية المغمورة في البروتستانتية الإنجيلية" والمورطة في الاستيلاء على أراضي الهنود الحمر على نحو لا يقل فظاظة عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وتجعل هذه الأساطير من القادمين الجدد إلى فلسطين سكانا محليين ومالكين تاريخيين للأرض التي يستعمرونها فيما تجعل من السّكان الأصليين في فلسطين طارئين استثنائيين ومؤقتين. ومما يترتّب على ذلك أنّ إسرائيل تبدو لكثير من الغربيين، دولة قومية طبيعية مثل غيرها، وأنّها تواجه عدوانية لا عقلانية من مسلمين معادين للسامية.

ومن وجوه دهاء الدعاية الصهيونية أن وظّفت هيمنتها الثقافية والإعلامية للإيهام بصحة ادّعائها، جاعلة من الفلسطينيين نسخة أخرى من الهنود الحمر. فيُصوّر كلا الشعبين في السينما والتلفزيون والأدب على أنه متخلف وعنيف. فليس هما غير مجموعة من القتلة يشكلون عقبة لا عقلانية أمام التقدم والتحديث. ورغم حساسية العقل الأمريكي لهذه الصورة بدأ كثير من الأمريكان بالاعتراض على  سطحية هذا التصوّر، بينما لا يزال المجتمع الإسرائيلي ومؤيدوه يعتمدون عملياً على هذه الرواية التأسيسية. ومن أكبر إنجازاتها، ربحها للمعركة السياسية دوليا. فقد رسّخت في الأذهان أنها كانت ترغب دائماً بالسلام، ولكن الفلسطينيين يرفضون ذلك. وتختزل هذا النّصر في العبارة التي يردّدها أغلب ساستها "لا يوجد شريك في السلام".

وينتهي الباحث إلى الإقرار بأن القتال العنيد الذي يقوم به الفلسطينيون ضد تهجيرهم أفشل المخطط الإسرائيلي. فبعد قرن من الحرب عليهم و على الرغم من قوة إسرائيل وأسلحتها النووية وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية ورغم الخذلان العربي فإن الدولة اليهودية متنازع عليها اليوم مثلما كان وضعها في الماضي.

5 ـ الاتجاه نحو المستقبل

يعرب الباحث عن يأسه من قدرة من الدوائر الرسمية العربية والعالمية على دعم الفلسطينيين. ولا يرى في غير الحقوقيين وفي مكونات المجتمع المدني نصيرا لهم. ويجد أنّ حركات المقاطعة الاقتصادية وسحب الاستثمارات والعقوبات والنشاطات الطلابية قد خدمت القضية الفلسطينية أكثر من أي طرف آخر. ويسجّل بارتياح أنّ استطلاعات رأي حديثة أظهرت التغير الذي بدأ يحدث بين بعض فئات الرأي العام الأمريكي، بالدعوة إلى حرية الفلسطينيين، إلا أنّ ذلك لا يمثّل بعد موقف الأغلبية.

وضمن هذا الأفق يحاول أن يستشرف مستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فيقدّر أنّ الصهيونية نجحت فعلا في تأسيس إسرائيل وفي تشكيل حركة قومية قوية ووضع شعب حيوي في فلسطين. ومع ذلك فقد فشلت في القضاء على السكان المحليين أو إخضاعهم تماما مثلما حدث في أمريكا الشمالية وأستراليا. وهذا يعدّ إنجازا كبيرا للفلسطينيين في حدّ ذاته ودافعا للتمسك بالهوية والأرض. بالمقابل لا يرى أمام الفلسطينيين غير حلين: أن يهزموا المستعمرين فطردوهم من أرضهم مثلما حدث للفرنسيين في الجزائر أو أن يفرضوا على اليهود التخلي عن الهيمنة الاستعمارية في سياقي تنازل وتصالح مثلما حدث في أفريقيا الجنوبية وزيمبابوي وايرلندا. ومن ثمّة يدعوهم إلى إعادة تقييم أهدافهم وإلى أن يتوافقوا على ما يريدون وفق إجماع وطني جديد. ويعبر ذلك أمرا ملحّا على حركتي فتح وحماس.

لا شكّ أنّنا نوافقه الرأي، ولكنّنا نقدّر أيضا أنّ بين الحركتين هوّة كبيرة لاختلاف مشروعيهما المجتمعي كل الاختلاف وأنّ معركة طوفان الأقصى التي جدّت بعد تأليف الكتاب ستخلق لمحالة وضعا فلسطينيا جديدا.