2024-11-25 11:27 م

الاعتراف الدولي بفلسطين.. خطوة “مكلفة” في الطريق الصحيح

2024-05-30

أعلنت كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج، الثلاثاء 28 مايو/ أيار 2024، اعترافها رسميًا بدولة فلسطينية مستقلة، حيث أكد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، أن هذا القرار يتماشى مع القرارات الأممية، وأنه خطوة تاريخية تتيح للفلسطينيين والإسرائيليين تحقيق السلام، فيما دعا وزير الخارجية الأيرلندي، مايكل مارتن، “إسرائيل” لاحترام قرار الدول الديمقراطية ذات السيادة بالاعتراف بدولة فلسطين، بينما وصف وزير الخارجية النرويجي، إسبن بارث إيدي، هذا اليوم بأنه نقطة تحول في العلاقات النرويجية الفلسطينية.

تكرس تلك الخطوة الاستثنائية لمرحلة جديدة من الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية مستقلة، كاسرة لجدران التهميش والتسطيح والتصفية الذي بناه الكيان المحتل وحلفاؤه الغربيون على مدار عقود طويلة، فيما يرجع الفضل الأبرز في هذا التحول، الذي يعدّ انتصارًا دبلوماسيًا عظيمًا للقضية الفلسطينية سياسيًا، للمقاومة وصمود الغزيين على مدار 8 أشهر كاملة، دفعوا خلالها ثمنًا فادحًا للدفاع عن قضيتهم الوطنية.

المزاج العالمي يتغير
شهد المزاج العالمي إزاء القضية الفلسطينية تغيرات جذرية منذ السابع من أكتوبر، فما قبل هذا التاريخ ليس بأي حال من الأحوال كما بعده، فلم تعد فكرة الرضوخ للمزاج الأمريكي الداعم للكيان المحتل على طول الخط مستساغة لدى الكثير من الدول، خاصة بعد صعود الرأي العام العالمي الداعم لحقوق الفلسطينيين كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد.

في 18 أبريل/ نيسان 2024، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، لأجل منع صدور قرار يفتح الباب أمام حصول فلسطين على العضوية الكاملة داخل الأمم المتحدة، ومارست ضغوطها المعتادة على الجميع للحيلولة دون التصويت على هذا القرار.

وفي 10 مايو/ أيار 2024، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا تاريخيًا بأحقية فلسطين في العضوية الكاملة داخل المنظمة بأغلبية كاسحة، حيث صوّت لصالح القرار 143 دولة فيما امتنعت 25 دولة فقط عن التصويت.

بعد تيقن أمريكا من فقدان أو تراجع نفوذها على الأعضاء داخل المنظمة الأممية، وتأكدها من أن المزاج العالمي بدأ يتغير، بدأت إدارة بايدن في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتجميل سمعة بلاده التي شوّهها الدعم المطلق للاحتلال، فبدأ التفكير في طرح مبادرة سياسية لحلّ القضية الفلسطينية تتضمن الاعتراف بالدولة لكن من خلال المفاوضات مع الإسرائيليين، وليس عن طريق المنظمات الدولية.

كذلك وبمنطق براغماتي بحت، حاول بايدن توظيف المشهد لصالح الاعتبارات الانتخابية الدعائية، رابطًا بين فكرة إقامة الدولة الفلسطينية والتطبيع الإسرائيلي السعودي، وهو الإنجاز الذي يحاول بايدن تحقيقه لتغليب كفّته في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

كسر الجدار الأوروبي الصلب
قبل عام 2014 لم تكن هناك دولة واحدة منضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي تعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة، ففي ذاك العام غردت السويد بعيدًا عن السرب وأعلنت اعترافها بفلسطين كدولة، وكان هذا تطورًا خطيرًا أثار ضجة وجدلًا كبيرَين في الأوساط الأوروبية حينها، رغم أن هناك 8 دول أوروبية أخرى اعترفت بفلسطين، وهي بلغاريا وقبرص وجمهورية التشيك والمجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا ومالطا، لكن الاعتراف حينها جاء قبل أن تنضم تلك الدول للاتحاد الأوروبي، هذا بخلاف اعتراف دولتَين من خارج الاتحاد وهما آيسلندا والفاتيكان.

جاء اعتراف أسبانيا وأيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية بمثابة الحجر الكبير الذي أُلقي في مياه أوروبا الراكدة تجاه القضية الفلسطينية، هذا الحجر الذي أحدث فيضانًا أغرق السياسة الصلبة للكتلة الأوروبية الداعمة لـ”إسرائيل”، والذي يتوقع أن يكون له صداه الكبير على القارة الأوروبية بأكملها.

هذا الاعتراف بصيغته الحالية أحدث انقسامًا كبيرًا في تعاطي الاتحاد الأوروبي مع ملفّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جذوره، فأصبح قرابة نصف بلدان الاتحاد الأوروبي يعترفون بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة (13 دولة من أصل 27 دولة ضمن الاتحاد)، ولذا تداعيات كبيرة مستقبلية على السياسة الأوروبية إزاء الحقوق الفلسطينية، لا سيما إذا ما تشابك ذلك مع الانتفاضة الشعبية الداعمة لغزة وفلسطين، والتي غزت شوارع أوروبا وأمريكا.

الانقسام الأوروبي إزاء الملف الفلسطيني لا يرجع فقط إلى الإيمان بحقّ الفلسطينيين في دولتهم المستقلة، لكن كذلك إلى الإجرام غير المسبوق الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد أطفال ونساء وشيوخ عزّل، وهي الجرائم التي من الممكن أن تلطخ سمعة كل الداعمين للاحتلال وتضع أنظمتهم في مرمى الاستهداف والانتقادات الحقوقية والإنسانية، الشعبية والرسمية.

يرتفع عدد البلدان المعترفة بفلسطين إلى 146 دولة من أصل 193 دولة عضوة في الأمم المتحدة، بما يمثل نحو أكثر من 75% من دول العالم، مع توقع ارتفاع هذا العدد خلال الفترة المقبلة في ظل المزاج العالمي الذي يميل ناحية الفلسطينيين.

صدام إسرائيلي غربي محتمل
موجة الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية قوبلت بموجة رفض وتنديد متوقعة من الجانب الإسرائيلي الذي يتعامل بعنصرية فجّة مع كل من يغرد خارج سرب التأييد المطلق للكيان المحتل، وهو ما بدأ يلوح في الأفق منذ إعلان الدول الأوروبية الثلاثة عن نيتهم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في 23 مايو/ أيار 2024.

البداية كانت مع استدعاء الخارجية الإسرائيلية سفيرَيها لدى أيرلندا والنرويج لإجراء مشاورات مطوّلة والاعتراض على خطوة الاعتراف بفلسطين، أما وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، فحذّر في بيان له أن كيانه المحتل لن يلتزم الصمت إزاء ما حدث، لافتًا أن “الخطوات المتسرعة للبلدَين ستكون لها عواقب وخيمة”، مؤكدًا أنه “إذا نفّذت إسبانيا وعودها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فستتّخذ خطوات ضدها”.

كانت “إسرائيل” تعتمد في مثل هذه الأزمات الدبلوماسية على الحليف الأمريكي، غير أن هذه المرة الوضع مختلف بشكل لافت، لا سيما بعد ارتأت واشنطن أن الموجة الحالية أعلى من سابقاتها، وأن سطوتها داخل الأمم المتحدة لم تعد كما كانت، وأن فكرة الترهيب والوعيد والضغوط لم تعد مجدية بعدما وضعت الجرائم الإسرائيلية سمعة المجتمع الدولي بأكمله على المحك.

بل وصل الارتباك الذي خيّم على الجانب الإسرائيلي حدّ الصدام مع الرؤية الأمريكية، ورفض التجاوب مع مبادرتها الخاصة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في سياق خطة أعمّ وأشمل تتضمن التطبيع مع السعودية ومزيدًا من الانخراط الإسرائيلي في المنطقة.

وعليه فإن موجة الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية قد يكون لها صدى قوي على منسوب وطبيعة العلاقات الإسرائيلية الأوروبية من جانب، والإسرائيلية الأمريكية من جانب آخر، في أجواء لم تحدث منذ أن وطأ الاحتلال الأراضي الفلسطينية قبل أكثر من 75 عامًا.

ما مكاسب فلسطين من هذا الاعتراف؟
موجة الاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية قد لا تغير كثيرًا من التطورات الميدانية على أرض الواقع، لا سيما مع الصلف الإسرائيلي والإبقاء على الحد الأدنى من الالتزامات الغربية إزاء دعم الكيان، وضمان تفوق نفوذه وسطوته وسيطرته على الساحة.

لكن على الجانب المقابل، فإن الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة يسحب رويدًا رويدًا البساط من تحت أقدام الدعم الدولي المطلق للكيان المحتل، فكل دولة تعترف بفلسطين تحمل معها انتقاصًا من دعم “إسرائيل”، حتى لو كان بشكل غير مباشر.

كما أن زيادة وتيرة الدعم الدولي سيشكّل ضغطًا كبيرًا على الكيان المحتل، وهو ما سينعكس حتمًا على الأجواء العامة في المشهد الفلسطيني، الأمر لا يقتصر على حكومة نتنياهو الحالية المتطرفة والتي تتحرك بصلف مسيَّس لحسابات شخصية.

سيمنح هذا الاعتراف الأوروبي القرار العربي -الضعيف أمام المزاج الغربي- فرصة أكبر للتعبير عن دعمه لحلحلة الأزمة الفلسطينية، والضغط لأجل إعلان دولة فلسطينية مستقلة بشكل أكثر قوة، ويعطيه ضمانة دولية تضيف إليه مزيدًا من الثقل والثبات والطمأنينة.

يمكن البناء على هذا الانتصار الدبلوماسي في توسيع رقعة دعم القضية الفلسطينية سياسيًّا في مختلف المحافل الدولية، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سنوات، وهو ما سيكون له ما بعده حال توظيف هذا الملف بشكل جيد.

الطوفان قلب كل الموازين
قبل أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كانت تعاني القضية الفلسطينية من تهميش وتسطيح متعمّدَين، ومساعٍ حثيثة لتصفيتها عبر سلاح التطبيع وتخدير الوعي العربي بسرديات خرافية، حتى جاء “طوفان الأقصى” ليقلب الطاولة رأسًا على عقب.

بعد الطوفان وما تلاه من حرب إبادة شنّها الاحتلال بكل قوته، تبدلت المفاهيم بشكل كبير، إذ قدمت المقاومة الفلسطينية ملحمة أسطورية في التصدي والفداء والنضال، يجانب الصمود العجيب للغزيين الذين دافعوا عن أرضهم بحياتهم وأموالهم.

هذا الصمود، سواء من المقاومة أو أهل غزة، أربك حسابات الاحتلال الذي بدأ يتصرف كالثور الأهوج، لا يعرف إلا لغة القتل والتدمير والحرق، مستأسدًا على الأطفال والنساء والشيوخ، ليشنَّ حرب إبادة على الهواء مباشرة وعلى مرأى ومسمع من العالم الذي بدأ يستشعر الحرج إزاء تلك الورطة التي لا يمكن الوقوف أمامها بشكل سلبي، لما يترتب عن ذلك من تشويه للسمعة ونسف للمبادئ الديمقراطية والإنسانية التي تتشدق بها الدول والحكومات، خاصة في ظل الانتقادات الحادة والضغوط القوية من الشارع والمزاج الشعبي.

وعليه كان لا بدَّ من موقف رسمي يتناغم نسبيًا مع الموقف الشعبي، وهو ما كان، حيث استجابت العديد من العواصم الأوروبية لرغبة الشارع المندد بجرائم الإبادة التي يشنّها الاحتلال، والمطالب بإعادة تقييم العلاقات معه بشكل جذري وعلى كافة المستويات.

وما كان لحكومات الغرب أن تغير مواقفها أو تعيد النظر في سياستها القديمة المعتمدة على دعم الكيان بشكل مطلق، إلا بفضل صمود المقاومة والغزيين الذين كشفوا الوجه القبيح لـ”إسرائيل” وعرّوها بشكل فاضح أمام الجميع، وأسقطوا الشعارات المزيفة التي كانت تلجأ إليها لتمرير صورتها البرّاقة لدى الغرب.

وأثبتت حرب غزة أن استراتيجية المفاوضات الدبلوماسية وحدها لن تجدي نفعًا، وهي الاستراتيجية التي تبنتها منظمة التحرير منذ عام 1967 ومع ذلك لم تنجز أي خطوة متقدمة في مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل على العكس جاءت في بعض الأوقات بنتائج عكسية، حيث منحت الاحتلال الوقت والظرف الملائمَين لتوسيع قاعدة الاستيطان وتصفية القضية عامًا تلو الآخر.

ومن ثم كشفت الأشهر الثمانية الأخيرة أن الدبلوماسية الناعمة تحتاج إلى دبلوماسية خشنة ملاصقة لها على طول الخط، عبر العمل المقاوم وتكبيد المحتل الخسائر تلو الأخرى، فالحقوق تسترد بالقوة وليس بالمفاوضات وحدها، كما أن العالم لا يحترم إلا القوة وإن لم يكن لديه الحق.

وفي الأخير يبقى الاعتراف الدولي بفلسطين خطوة مهمة كان لها ثمنها المكلف في مشوار دعم القضية، لكنها غير كافية، ومع ذلك يمكن البناء عليها لتحقيق حزم متتالية من الانتصارات الفرعية في مسارات مختلفة، سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية، بما يقود في النهاية إلى تحقيق الهدف الأسمى، وهو إعلان دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأراضي المحتلة.

المصدر: نون بوست