وترجع الصدمة هنا إلى توقيت العملية التي تأتي بعد نحو أكثر من 205 أيام من التوغل الإسرائيلي داخل القطاع الذي زعم جيش الاحتلال أنه قد سيطر على معظم مناطقه، فضلًا عن حجم الخسائر الهائلة التي أوقعتها المقاومة رغم الادعاء بالقضاء على معظم بنيتها وإضعاف قوتها بالشكل الذي لا يسمح لها بالقيام بمثل تلك العمليات النوعية ذات التأثير الكبير.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها المقاومة منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لفخاخ الكمائن في استهداف جنود الاحتلال، فقد سبق أن نفذت العشرات من تلك العمليات النوعية، لعل أبرزها كمين الشجاعية، شرق القطاع، في 13 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأسفر عن مقتل 10 جنود وضباط من عناصر لواء جولاني، أحد أهم وأقوى ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي، هذا بخلاف سلسلة الكمائن التي فخخت بها المقاومة العشرات من الآليات العسكرية الإسرائيلية مارس/آذار الماضي في خان يونس جنوب غزة، وأسفرت عن سقوط العشرات بين قتيل وجريح.
ومع مرور الوقت، وإطالة أمد الحرب لتلك المدة غير المسبوقة منذ بداية احتلال الأراضي الفلسطينية، تحولت الكمائن إلى أحد الأسلحة الرادعة التي تلجأ إليها المقاومة للتقليل من الفوارق العسكرية الكبيرة مع جيش الاحتلال، والوسيلة الأكثر ملائمة للتعامل مع تطورات الميدان بشكل موضوعي، بما يُبقي على معادلة التوازن قدر الإمكان وفي حدود المتاح.
رسائل قوية
وتحاول المقاومة من خلال تكثيف عملياتها النوعية عبر إستراتيجية الكمائن، سواء كانت بشكل منفرد أم بالتوازي مع العمليات المباشرة الأخرى، إلى إيصال 4 رسائل محورية للكيان المحتل، بنخبتيه العسكرية والسياسية، كذا للشارع الإسرائيلي:
الرسالة الأولى: صمود المقاومة وثباتها ميدانيًا.. ففي الوقت الذي زعم فيه الكيان المحتل عبر المتحدث باسمه وإعلامه الرسمي وغير الرسمي القضاء على معظم قدرات حماس وبقية فصائل المقاومة، جاءت هذه العمليات لتفند تلك المزاعم وتطيح بها واقعيًا، فبعد 7 أشهر تقريبًا من الحرب لا تزال صافرات الإنذار تدوي في سماء عسقلان ومدن الغلاف، وفخاخ الكمائن تُسقط العشرات من الجنود الإسرائيليين في الشمال والوسط والجنوب.
كذلك بدأت المقاومة في تكريس مرحلة جديدة من المواجهات مع جيش الاحتلال، تكون الاستهدافات النوعية نواتها الأساسية، في ظل الفوارق الكبيرة في القدرات والتسليح، وهي المرحلة التي أتت ثمارها في كثير من العمليات التي أحدثت صدمات نفسيه وعسكرية وسياسية في صفوف الكيان.
الرسالة الثانية: أن المقاومة كيان منظم وليست جيوبًا عسكرية متناثرة.. دومًا ما كان يردد الإسرائيليون وحلفاؤهم من الغرب والعرب على حد سواء، تلك السردية التي تحاول التشكيك في البنية التنظيمية للمقاومة، والادعاء بأنها مجرد فصائل وجيوب لا يمكن وصفها بالكيان المنظم، في محاولة للتشكيك في قدراتها وتجريدها من حاضنتها الشعبية التي تؤمن بإمكانياتها رغم تواضعها، وقدرتها على تكبيد الاحتلال خسائر فادحة رغم الفوارق الكبيرة، وتأهيلها للدفاع عن القضية الفلسطينية رغم مؤامرات الداخل والخارج.
وأثبتت المقاومة عبر التحول الهادئ من العمليات المباشرة إلى مثل تلك العمليات النوعية، والعكس في بعض المواقف، أنها كيان يمتلك رؤية عسكرية ناضجة، وبنية تنظيمية جيدة، ولديه من الخطط والسيناريوهات ما يؤهله للتعامل مع التطورات الميدانية بشكل مرن يعكس خبراته التنظيمية والقتالية الدقيقة، وفي ذلك رسالة ردع مباشرة ومعمقة للاحتلال وداعميه.
الرسالة الثالثة: الخيار العسكري ليس الحل للخروج من المأزق.. توهم المحتل أنه بتكثيف عملياته العسكرية الوحشية ضد معظم مناطق القطاع فإنه بذلك سيضغط على المقاومة من خلال تجريدها من سلاح المواجهة، وعليه فليس هناك مفر من تقديم التنازلات على طاولة المفاوضات، وهو ما عبر عنه صراحة جنرالات جيش الاحتلال وعلى رأسهم وزير الدفاع ورئيس الأركان ومن قبلهم رئيس الحكومة، حين قالوا إن العمليات العسكرية هي السبيل الوحيد لإرغام حماس على التنازل فيما يتعلق بصفقة تبادل الأسرى.
وها هي المقاومة عبر تلك العمليات النوعية وإستراتيجية الكمائن المخففة، تضرب تلك الأوهام في مقتل، لتحولها إلى ضربات عكسية ترتد في صدور جنرالات جيش الاحتلال، وتفضح هشاشتهم وضعفهم وعجزهم عن تحقيق أي من الوعود التي قطعوها على أنفسهم بداية الحرب، معلنة بما تحققه من نتائج كبيرة من خلال تلك العمليات أن الحل السياسي هو الخيار الوحيد، وأن أي حلول عسكرية أخرى لا وجود لها إلا في خيالات نتنياهو وغالانت وغلمانهما.
الرسالة الرابعة: تحذير بشأن عملية رفح المزعومة.. عكف الاحتلال على مدار أكثر من 3 أشهر على التلويح بورقة اجتياح رفح، في محاولة للضغط على المقاومة والوسطاء لتقديم المزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات، متوهمًا أن هذا التهديد من الممكن أن يؤتي ثماره، لكن دومًا ما كان الرد الحمساوي بأنه لا تنازلات مع الإصرار على التمسك بالثوابت والمرتكزات والشروط التي على رأسها وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب وسحب القوات الإسرائيلية من القطاع وإعادة النازحين لمناطقهم مرة أخرى.
وعبر تلك العمليات النوعية تبعث المقاومة برسالة تحذير واضحة لجيش الاحتلال مفادها أن ما واجهه في الشمال والوسط وفي خان يونس من استهداف نوعي ممنهج سيجد أضعافه في رفح، وأنه وإن فشل في تحقيق الانتصار المزعوم في تلك المناطق كيف له أن يتسوله في الجنوب، وهي الرسالة التي من شأنها التشكيك في قدرات الجيش الإسرائيلي وبث الرعب في نفوس جنوده وهو ما بدا يلوح في الأفق حين قدم العشرات من المجندين بيانات موقعة رفضوا فيها المشاركة في عملية رفح لما قد يترتب عليها من تداعيات.
الكمائن.. إستراتيجية لها ضوابط
لم تكن عملية تنفيذ الكمائن بالشكل السهل أو البسيط كما يظهر للبعض عبر المقاطع المصورة، فمثل تلك العمليات ربما تحتاج إلى إستراتيجيات أكثر دقة مقارنة بغيرها من المواجهات التقليدية الأخرى، كونها تعتمد في المقام الأول على البعد المعلوماتي الاستخباراتي لتحديد مكان العملية ومحيطها ودراسة الأجواء بشكل تفصيلي دقيق، بجانب الاعتماد على المهارات الفردية في مسألة التنفيذ، علاوة على أن الخطأ فيها مهما كان صغيرًا ربما يُجهضها مبكرًا.
ويرى الخبير العسكري والإستراتيجي العقيد ركن حاتم كريم الفلاحي أن هناك طرقًا عدة يتم من خلالها استدراج قوات الاحتلال نحو تلك الكمائن، منها قيام أفراد من المقاومة بمناوشة قوة من الاحتلال ثم ينسحبوا من أمامها نحو منطقة محددة، تكون ساحة الكمين المنصوب، بما يغري عناصر جيش الاحتلال باللحاق بهم ثم تتم عملية التفخيخ، أو أن تكون هناك مواجهة مباشرة تتكبد فيها المقاومة خسائر أولية بما يدفع جيش الاحتلال لاستقدام المزيد من القوات لإيقاع خسائر أكبر، حتى يتم استحضار أكبر عدد ممكن من جنود المحتل في المكان المخصص للكمين.
وأضاف الفلاحي – في فقرة التحليل العسكري على شاشة الجزيرة – أن بعض الكمائن قد تتم على أكثر من مرحلة، مستشهدًا بكمين الأبرار في منطقة الزنة، شرق خان يونس، جنوبي القطاع، في السادس من الشهر الحاليّ، الذي تم على 3 مراحل، استُدرج من خلاله 3 دفعات من جنود الاحتلال وتم القضاء عليهم.
ويتم توزيع الأدوار على الفريق المنفذ للكمين وفق إستراتيجية خاصة، فهناك من يتولى مسؤولية زرع المتفجرات، وآخر يقوم بحراستها ومراقبة الأجواء المحيطة بها، وثالث من يعطي الأمر بالعملية، ورابع من يقوم بالتنفيذ الذي لا يتم إلا بعد اكتمال دخول أو وصول الهدف إلى المدى المميت من المتفجرات، بحسب المحلل العسكري.
وتستخدم المقاومة في عمليات الكمائن عددًا من المتفجرات الملائمة لهذا النوع من الاستهدافات، أبرزها العبوات الناسفة، وهي عبارة عن قنابل محلية الصنع تحتوي على مكونات عسكرية وغير عسكرية، وأبرزها مادة “تي إن تي” المتفجرة، وتعد من أبرز الأسلحة المستخدمة ضد القوات العسكرية المترجلة، بحيث تُزرع على جانبي الطريق أو في الوسط وفي مداخل البنايات، وقد يتم زرعها داخل العربات والدبابات.
ويتم تفجير تلك العبوات عبر “الأجهزة المتفجرة المرتجلة“ (IED)، وهي أجهزة معقدة نسبيًا، تتكون من 5 أجزاء رئيسية: مصدر طاقة، ومفتاح تشغيل، وبادئ تفجير، وشحنة رئيسية متفجرة، وحاوية تحتوي في الغالب على مجموعة من المقذوفات مثل الكرات أو المسامير، التي تنتج شظايا قاتلة عند التفجير.
وهناك أيضًا العبوات الناسفة الخارقة للدروع (formed penetrator)، أو ما يطلق عليها “العبوات النافذة”، وهي القادرة على اختراق الدروع بسرعة، وتُحدث أضرارًا بالغة في العربات والمدرعات والدبابات، وعادة ما يكون غطاؤها معدنيًا مقعرًا، مكون من النحاس أو الفولاذ، حيث يؤدي هذا التقعر إلى تركيز طاقة الانفجار في اتجاه معين بما يخلق تيارًا قويًا من المعدن المنصهر بقوة تمكنه من اختراق الدروع بسرعة تصل إلى آلاف الأمتار في الثانية الواحدة.
كما نجحت المقاومة في استخدام وإعادة تدوير القاذفات والعبوات التي أطلقها جيش الاحتلال ولم يتم تفجيرها، فلدى سلاح الهندسة العسكرية في حماس وبقية الفصائل خبرة كبيرة في التعامل مع هذه المتفجرات بعد تفكيكها وإبطال مفعولها، ساعدت في زيادة القدرات التسليحية لفصائل المقاومة من خلال هذا المورد.
وتعد التجربة العراقية واحدة من التجارب الكاشفة لما يمكن أن تحققه إستراتيجية الكمائن والعمليات النوعية، حيث لجأت الفصائل التي قاومت قوات التحالف الدولي في العراق عام 2003 إلى هذه العمليات لمجابهة الفوارق العسكرية والتسليحية الكبيرة بينها وبين جيوش العالم التي شاركت في الحرب على العراق.
ففي العام الأول لتلك الحرب شنت المقاومة العراقية 100 عملية بالعبوات الناسفة ضد قوات التحالف، ارتفعت إلى أكثر من ألف عملية بحلول عام 2005 ثم وصلت إلى 2500 عملية بداية من صيف 2006، ومع بدايات 2007 تسببت العبوات الناسفة وتلك العمليات النوعية في مقتل 63% من إجمالي قتلى قوات التحالف في العراق، كما تسببت في أكثر من 66% من قتلى قوات التحالف في حرب أفغانستان.
وهكذا تُثبت المقاومة عبر إستراتيجيات القتال المتعددة التي تستخدمها تبعًا للتطورات الميدانية، قدراتها العسكرية المتميزة، وقراءتها الجيدة والموضوعية للمعركة بشكل يطيح بكل السرديات المشككة فيها، الأمر الذي جعلها صامدة لقرابة 7 أشهر كاملة، وقادرة على تكبيد جيش الاحتلال المدجج بأحدث الأسلحة والمدعوم من أقوى جيوش العالم وأجهزته الاستخباراتية، خسائر فادحة حتى في المناطق التي زعم السيطرة عليها.
المصدر: نون بوست | عماد عنان